قانون الترفيع في سنّ التّقاعد 2/2: شتّان بين رعاية الشّؤون في الإسلام والعدالة الاجتماعية في الرّأسماليّة

قانون الترفيع في سنّ التّقاعد 2/2: شتّان بين رعاية الشّؤون في الإسلام والعدالة الاجتماعية في الرّأسماليّة

حدّث أبو ذرّ التّونسي قال: بما أنّ الأصل في الأفعال التقيّد بالحكم الشرعي فمن الواجب علينا بصفتنا مسلمين وقبل مباشرة التّعامل مع الضّمان الاجتماعي والانتفاع بخدماته أن نتساءل عن مدى جواز ذلك شرعًا لاسيّما وأن النسخة المطبّقة علينا منه قسرًا هي التي وارى بها النّظام الرأسمالي سوءته ورقّع منظومته الفاسدة وهي نسخة مُلتبسة بالضمان العام أي بالتأمين…وعليه فما هي الشروط الواجب توفّرها في الضمان ليكون ضمانًا شرعيًّا وما مدى انطباقها على الضمان الاجتماعي الجاري به العمل في البلاد..؟؟ إنّ الضّمان في المطلق هو كما عرّفه الفقهاء (ضمّ ذمّة الضّامن إلى ذمّة المضمون عنه في التزام حقّ ثابت من غير معاوضة) ويُفهم من هذا التّعريف أنّه لا بدّ لانعقاد الضّمان من أربعة شروط (ضامن ـ مضمون عنه ـ مضمون له ـ ضمٌّ لذمّتين) كما ولا بدّ لصحّة الضّمان من شرطين: أوّلاً أن يكون في حقّ من الحقوق الماليّة الواجبة وإلاّ فلا يتحقّق فيه معنى الضّمان… ثانيًا أن يكون بدون معاوضة أي أن لا يأخذ الضّامن زيادةً عن المبلغ الذي ضمنَهُ فلا يَضمن مقابل عوض مادّي…وهذا الضّمان كما بينّاه مستوفيًا شروط انعقاده وصحّته هو من المعاملات الجائزة شرعًا وقد أقرّه الرسول صلّى الله عليه وسلّم: روى أبو داوود عن جابر قال (أُتِيَ بميّت ليُصلّي عليه الرسول، فقال عليه الصلاة والسّلام: أَعَلَيه دَيْن..؟؟ قالوا نعم ديناران، فامتنع عن الصّلاة عليه وقال: صَلّوا على صاحبكم…فقال أبو قتادة الأنصاري: هما عليّ يا رسول الله، قال: فصلّى عليه) فهذا الحديث واضح فيه أنّه قد استوفى شروط انعقاد الضّمان: ضامن (أبو قتادة) مضمون عنه (الميّت) مضمونٌ له (صاحب الدَّيْن) وقد ضمّ أبو قتادة ذمّته إلى ذمّة الميّت…كما استوفى شرطي صحّة الضمان: فهو ضمان لحقّ ثابت في الذمّة (ديناران) وهو خالٍ من المعاوضة أي أنّ أبا قتادة لم يتقاض أو يشترط عوضًا ماديًّا مقابل ضمانه…وبذلك يكون الحديث قد أجاز الضمان ونصّ على شروط انعقاده وصحّته…

حكم الضّمان الاجتماعي

كُنّا أثناء الحديث عن واقع الضمان الاجتماعي بينّا أنّه عبارة عن التزام وتعهّد من صاحب العمل أو المؤجِّر ـ سواء أكان الدّولة أو الخواصّ ـ برعاية بعض شؤون الأجير والتكفّل بمكافآته وتطبيبه وتقاعده، وذلك عبر المساهمة في تمويل الصناديق الاجتماعيّة الحكوميّة (CNRPS – CNSS)…وهذا المناط ينطبق على الضّمان كما عرّفه الفقهاء (ضمّ ذمّة إلى ذمّة في التزام حقّ ثابت من غير معاوضة) وواضح فيه أنّه مستوف لشروط الضّمان الشرعية: فالمؤجِّر قد ضمّ ذمّته إلى ذمّة الأجير في التزام حقّ مالي قد وجب للصناديق الاجتماعيّة…وبذلك فقد استوفى الضّمان شروط الانعقاد: ضامن (مؤجّر) ومضمون عنه (أجير) ومضمون له (صناديق اجتماعية) مع ضمّ ذمّة المؤجّر إلى ذمّة الأجير…كما استوفى شروط صحّته: فهو ضمان لحقّ ثابت في الذمّة (مصاريف التّقاعد والتّغطية الاجتماعيّة) من غير عوض مادّي للصناديق الاجتماعيّة مقابل خدماتها… ولا يقال إنّ المبالغ المقتطعة شهريًّا من مرتّبات الأُجراء هي من قبيل العوض المادّي ،بل هي لتمويل الصناديق الاجتماعيّة وبالتالي مصاريف التغطية الاجتماعيّة… وعليه فإنّ الضمان الاجتماعي بصورته الحاليّة جائز شرعًا وإنّ ما يترتّب عليه من تعويض وتطبيب وتقاعد يُعتبر جزءًا من أُجرة الأجير لا حرج في أخذها والانتفاع بها سواء المبلغ المقتطع أو المبلغ المضاف إليه…

الضّمان والتأمين

وقد يقال إنّ واقع التأمين هو أيضًا واقع ضمان وينطبق عليه حكم الضمان: إذ تتعهّد شركة التّأمين وتلتزم للمؤمِّن بدفع مبلغ مالي بدَلاً عن الشيء المؤمَّن عليه (سيّارة مثَلاً) إذا حصل لها حادث… فهذه الصورة فيها مظنّة وشبهة ضمّ ذمّة الشركة إلى ذمّة صاحب السيّارة في التزام حق ثابت وهو الحادث الذي يقوم به السائق… ومع كون هذه الصّورة تحتوي على ضمان إلاّ أنّه ضمان باطل خالٍ من جميع الشروط التي نصّ عليها الشرع لانعقاد الضّمان وصحّته: فهو منقوص من عنصر أساسي من عناصر الضمان اللاّزمة شرعًا ألا وهو المضمون عنه… إذ يوجد في الصّورة ضامن (شركة التأمين) ومضمون له (صاحب السيارة) ولكن من هو المضمون عنه في عقد التأمين هذا..؟؟ وإلى من ستضُمّ شركة التّأمين ذمّتَها في التزام حق مالي للمؤمِّن حتى يوجَدَ الضّمان..؟؟ ثم أين هو هذا الحق المالي الذي التزمته شركة التّأمين..؟؟ فليس للمؤمِّن (صاحب السيّارة) أيُّ حق مالي عند أحد وضَمِنته الشركة بل هو تعويض افتراضي لا يصحّ ضمانه إذ أنّه ليس حتميًّا لا يتخلّف ـ فما كلّ مؤمِّن لسيّارته يرتكب حادثًا ـ كما أنّ الشركة لا تدفع إلاّ لمن تعرّضت سيّارته لحادث…هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإنّ شركة التأمين حين تعهّدها بالتّعويض تتقاضى مبلغًا ماليًّا وبذلك يختلّ شرط عدم المعاوضة ويصبح الضمان باطلاً… فلا علاقة لمنظومة الضّمان الاجتماعي بمنظومة التّأمين: فالأولى جائزة شرعًا أمّا الثانية فحرامٌ البتّةَ…

عدالة اجتماعيّة..؟؟

وكون الضمان الاجتماعي جائزًا شرعًا ليس معناه أنّ منظومة الضمان الاجتماعي أو العدالة الاجتماعية في الرّأسمالية ضامنة للحاجات الأساسية مُحقّقة للرعاية والكفاية بالشكل الذي يوجبه الشّرع الإسلامي، ولكن معناه جواز الانتفاع بخدماته والتّمتّع بما يترتّب عنه من تقاعد وتعويضات بوصفها أموالاً حلالاً…أمّا نموذج ضمانة الإسلام للحاجات الأساسيّة في ظلّ دولة الخلافة فلا يتجلّى ويتّضح إلاّ بمقارنته بالنّسخة الرأسمالية حتّى ندرك الفرق الهائل بين رعاية الشّؤون والإشراف على الحرّيات…فسعيًا منها لسدّ فراغ دولتها المستقيلة وتغطية جشعها وبرودها المبدئيّ ،عمدت الرّأسمالية إلى إيجاد ما يسمّى بالعدالة الاجتماعيّة ومنها الضّمان الاجتماعي للتكفّل بصنفين من المواطنين ورعاية بعض شؤونهم (الموظّفين والعمّال الدّائمين ـ الفقراء والمحرومين)… أمّا الصنف الأوّل فيتمتّعون بالعطل والأعياد والرّاحة السّنوية مدفوعة الأجر ويعطون تعويضًا إذا تعرّضوا لحادث شغل فيُعالجون بالمجّان، كما يُصرف لهم معاش شهري عند بلوغهم سنّ التقاعد، وإذا وقع الاستغناء عنهم قبل ذلك يُعطون مبلغًا يُقدّر بحسب سنوات خدمتهم الفعليّة… والذي يتكفّل بهذه التّغطية هو المشغّل ـ سواءٌ أكانت الدّولة أو المؤسّسات الخاصّة ـ وتكفُّله ليس تكفّل رعاية ماديّة بقدر ما هو تكفّل إشراف (قوانين وإداريّات) أمّا التمويل فمصادره متعدّدة (مساهمة من العمّال والمشغّلين ومن الدّولة مع تبرّعات الأهالي) وتُستثمَر هذه الأموال بالرّبا في المصارف والبورصات…

وأمّا الصنف الثّاني (الفقراء والمحرومون) فلا يعني التكفّل بهم توفير المال والغذاء والكساء والمسكن لهم ـ فهذا غير وارد في النظام الرّأسمالي ـ وإنّما يعني توفير الخدمات الصحيّة والتعليم بالمجّان والاعتناء بالعجزة والمعوقين بإعطائهم شيئًا من الغذاء والكساء على سبيل الصّدقة… وهكذا يتّضح أنّ هذه (العدالة الاجتماعيّة) ما هي إلاّ محاولة ترقيعيّة خبيثة للتخفيف من الحيف الفظيع الذي توجده الرّأسمالية في المجتمع، وهي في واقعها ظلم وحيف اجتماعي وتكريس لاستقالة الدّولة عن رعاية الشؤون وتلميع صورة النّظام الرّأسمالي لإطالة عمره: فالأصل في الدّولة أنّها مسؤولة عن ضمان الحاجات الأساسيّة للجماعة وللأفراد وعن تمكينهم من إشباع حاجاتهم الكماليّة يستوي في ذلك الفقير والغني والضعيف والقوي والموظّف والعامل اليوميّ وأن يُموّل ذلك بالكليّة من ميزانيّة الدّولة…

الحاجات الأساسيّة للفرد

لئن عجزت منظومة العدالة الاجتماعيّة الرّأسمالية عن تمكين كلّ مواطن من إشباع حاجاته الأساسيّة إشباعًا كليًّا، فإنّ الرّعاية الاجتماعية في الإسلام قد تجاوزت التّمكين إلى الضّمان: فقد شرّع الإسلام أحكامًا تضمن إشباع جميع الحاجات الأساسيّة لكافّة أفراد الرّعية فردًا فردًا ضمانًا قطعيًّا مع تمكين كلّ فرد من إشباع ما أمكن من حاجاته الكماليّة.. فحدّد حاجات الفرد الأساسيّة في (المأكل والمشرب والمسكن) وضمنها لكلّ فرد بعينه بوصفها واجبًا من واجبات الدّولة تجاهه وحقًّا من حقوقه عليها: فجعل العمل فرضًا على القادر من الذكور (فامشوا في مناكبها) وفرض النّفقة للأنثى مُطلَقًا.. وفي حالة العجز أو عدم التمكّن أوجب النّفقة على المُعيل أو القريب كنفقة الزوجة على زوجها والولد على أبيه (أسكنوهنّ من حيث سكنتم من وُجْدِكم) والوالدين على أولادهما ونفقة القريب ذي الرّحم على قريبه (وعلى الوارث مثل ذلك).. وهذه النّفقة تُحصِّلها الدّولة جبرًا ممّن فُرضت عليهم وتُعتبر مُقدَّمَةً على سائر الدّيون، وهذا ليس فيه إرهاق وعنت للأقارب واستقالة للدّولة ـ كما قد يُتوهّم ـ لأنّ النّفقة لم يوجبها الشّرع على القريب إلاّ إذا كان لديه ما يفضل عن حاجاته الأساسيّة والكماليّة (ليُنفق ذو سعة من سعته) وإلاّ فلا تجب عليه وتتكفّل بها الدّولة… أمّا إذا انعدم المعيل أو كان غير قادر أوجب الشرع النّفقة على الدّولة من بيت المال أي من خزينتها: قال صلّى الله عليه وسلّم (مَن ترك ديْنًا أو ضَياعًا فليأْتني فأنا موْلاه)… وهذه النّفقة مُستَحَقّة على بيت المال في حال الوجود والعدم: فإن لم يوجد فيها المال وجب على الدّولة أن تفرض الضّرائب على المسلمين أو أن تقترض دفعًا للضرر.. وكما ضمن الإسلام إشباع جميع الحاجات الأساسيّة لكافّة الرعيّة فردًا فردًا فقد ضمن أيضًا أن يكون هذا الإشباع حقيقيًّا كليًّا (وعلى المولود له رزقُهنّ وكِسوتُهنّ بالمعروف) أي بما عُرف عن نفقة مثله من مأكل وملبس ومسكن لدى النّاس، أي ليس مجرّد كفاية وإنّما الكفاية والإشباع حسب مستوى معيشة الشّخص الذي فُرضت له النّفقة وحسب ما يُقرّه العرف في المجتمع…

الحاجات الأساسيّة للمجتمع

وكما ضمن الإسلام تحقيق إشباع الحاجات الأساسيّة لكلّ فرد إشباعًا كليًّا فقد ضمن أيضًا إشباع الحاجات الأساسيّة للرعيّة كلّها وهي (الأمن والتّطبيب والتعليم)… وبخلاف الأولى التي فرضها على الأقارب ابتداءً ثمّ على الدّولة إذا عجزوا، فإنّ الحاجات الأساسيّة للرعيّة أناطها الشّرع بالدّولة مباشرةً وجعلها من أوكد مسؤوليّاتها، قال صلّى الله عليه وسلّم (الإمام راعٍ وهو مسؤول عن رعيّته) فتحفظ الدّولة أمن الجميع وتُؤمّن التطبيب والتعليم للجميع بالمجّان لا فرق بين مسلم وغير مسلم فالكلّ يتمتّعون بالتغطية الاجتماعية للدولة من غير إتاوات شهريّة تُقتَطَع بالغصب من المرتّبات سواءٌ أتمتّع الشّخص بالتّغطية أم لا، وإنّما تدفع الدّولة جميع النّفقات من بيت المال أي من خزينتها… ولا تكتفي الدولة الإسلاميّة بتأمين حاجات الجماعة الأساسيّة بل تتجاوزها إلى توفير العديد من الخدمات الأخرى والإنفاق عليها لكونها من أوكد أعمال الرّعاية: من ذلك مثلاً توفير المجاري ومياه الشّرب وإقامة السدود وحفر الأودية وشق التّرع وتمهيد الطّرق وتشييد الجسور وتأمين الإنارة والنظافة..

. فالدّولة الإسلامية كانت عبر تاريخها دولة حديثة بمنطق عصرها… والإسلام لم يجعل ضمانة الحاجات الأساسيّة ترقيعًا للنّظام ولا علاجا لثغرات معيّنة ولا خصّ بها فئات دون الأخرى على غرار الرّأسمالية واشتراكيّة الدّولة، وإنّما جعلها أحكامًا شرعيّةً متساوية في التّشريع والأدلّة مستندة كلّها إلى العقيدة الإسلاميّة انبثاقًا وانبناءً، وقد ضمنت هذه الأحكام أساسيّات العيش ضمانًا مقطوعًا به لكلّ فرد وفي جميع الحالات وذلك ممّا لا يمكن أن يصل إليه أيُّ نظام غير نظام الإسلام… هذه هي الرعاية الصحيحة التي أوجبها الله على الحاكم في الدّولة الإسلاميّة وهي التي جسّدها عمر بن الخطّاب رضي الله عنه عندما قال (والله لو أنّ بغلةً عثرت بأرض العراق لكنت مسؤولاً عنها ولخشيت أن يحاسبني الله عليها يوم القيامة)..

أ. بسّام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This