في ذكراها الثّالثة بعد المائة: معاهدة سايكس ـ بيكو بين الأصل البريطاني والنسخة الأمريكيّة

في ذكراها الثّالثة بعد المائة: معاهدة سايكس ـ بيكو بين الأصل البريطاني والنسخة الأمريكيّة

حدّث أبو ذرّ التونسيّ قال: لا يوجد في تاريخ المسلمين حدث ينطبق عليه وصف النكبة بامتياز أكثر من اتفاقيّة سايكس ـ بيكو، فهي بلا منازع نموذج مثاليّ للمصائب التي تنسف كيان الأمم وتقوّض أركان الدّول ،ناهيك وأنّ الأمّة الإسلاميّة قاطبة تتجرّع إلى اليوم مرارتها وتكتوي بنار تبعاتها في كلّ شبر من أرضها المستباحة…فهذه (المعاهدة/الجريمة) التي مرّ على (إبرامها/اقترافها) أكثر من قرن (ماي 1916) أسّست ميدانيّا لسقوط دولة الخلافة واندراس الحكم بما أنزل الله وانفراط عقد المسلمين وتمزيق كيانهم ووقوعهم ـ أرضا وبشرا ومقدّرات ومقدّسات ـ فريسة لنفوذ الكفر والاستعمار بالفعل ثمّ بالوكالة…فقد كانت تلك الاتفاقيّة المشؤومة بمثابة الإطار العامّ لمخطّط تقاسم تركة الرجل المريض والنصّ التشريعيّ الذي انبثقت عنه كبرى المحطّات السياسيّة في طريق تصفية الدولة الإسلاميّة من قبيل :معاهدة (سان بطرسبرج 1916) التي مكّنت روسيا القيصريّة من الولايات العثمانيّة الشماليّة والشرقيّة… (وعد بلفور 1917) الذي منح فلسطين وأولى القبلتين ليهود… مؤتمر (سان ريمو 1920) الذي قسّم المشرق العربيّ بين بريطانيا وفرنسا… معاهدة (سيفر 1922) التي أشّرت على وثائق الانتداب… معاهدة (لوزان 1923) التي سلّمت أقاليم سوريا الشماليّة لأتاتورك… كما مثّلت تلك الاتفاقيّة أيضا مُنطلقا لسلسلة من المناورات السياسيّة والعسكريّة التي جسّدت المشروع الاستعماريّ التصفويّ وترجمته ميدانيّا على غرار :مشروع الدولة العربيّة الكبرى ـ الثورة العربيّة وحيثيّاتها ـ مؤامرات أتاتورك لإخلاء المشرق العربيّ من العثمانيّين ـ نشأة الدول العربيّة وتفاصيلها ـ إلغاء نظام الخلافة وقيام تركيا الكماليّة…

كلّ هذه المفاصل التّاريخيّة العدميّة في حياة المسلمين مثّلت معاهدة (سايكس ـ بيكو) رَحِما لها: حملت بها نُطَفا لأفكار ،واعتملت فيها أجِنّة لمشاريع ،ثمّ تمخّضت عنها مِزَقا وأبناء سِفَاح تجاوز عددهم الخمسين كيانا كسيحا ممسوخا عميلا…وبصرف النظر عن آثارها الدمويّة ،من المفيد للأمّة اليوم ـ وهي متلبّسة بالعمل لاستئناف الحياة الإسلاميّة ـ أن تقف عندها وقفة متأنّية وتعيد قراءتها قراءة مستنيرة منزّلة على الرّاهن السياسيّ بما يُوضّح الرؤيا ويُرشِّد خطّ السّير :فما مصير الاتفاقيّة اليوم في ظلّ القرن الأمريكيّ ومشاريعه المستهدفة للأمّة الإسلاميّة..؟؟ هل مازالت سارية المفعول وصالحة كإطار عامّ للمخطّط الاستعماريّ لاسيّما مع تغيّر موازين القوى واحتداد الصّراع الدوليّ على مقدّرات المسلمين..؟؟

لمحة تاريخيّة

لقد سمّيت معاهدة سايكس ـ بيكو نسبة إلى الشخصين اللذين أشرفا على فعاليّاتها ووقّعا نسختها النهائية سنة 1916 وهما على التوالي، العقيد البريطاني السير مارك سايكس وهو ديبلوماسي وعسكري ورحّالة مختصّ في شؤون الشرق الأوسط ومناطق سوريا خلال الحرب العالميّة الأولى، وكان له دور فعّال في إصدار وعد بلفور المشؤوم حتى أنّ حاييم ويزمان مفوّض الحركة الصّهيونية أبّنه حين وفاته سنة 1919 بقوله (لقد سقط كالبطل إلى جانبنا). الشخص الثاني يدعى فرنسوا جورج بيكو وهو سياسي ودبلوماسي فرنسي وقد أشرف لاحقًا على الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان…

أمّا عن واقع معاهدة سايكس ـ بيكو فهي عبارة عن اتّفاق وتفاهم سرّي بين فرنسا والمملكة المتّحدة بالأساس على اقتسام منطقة الهلال الخصيب والمشرق العربي وحيازة مناطق نفوذ غرب آسيا التّابعة للدّولة العثمانية بعد تهاويها في الحرب العالميّة الأولى، كما شاركت روسيا القيصريّة آنذاك في التصديق عليها طمعًا في الفوز ببعض المناطق…وقد تمّ التوصّل لهذه الاتّفاقية بمفاوضات سريّة دارت فيما بين نوفمبر 1915 وماي 1916 في شكل تبادل وثائق تفاهم بين وزارات خارجيّة كلّ من فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصريّة حصلت بموجبها فرنسا على الجزء الأكبر من الجناح الغربي للهلال الخصيب (سوريا ولبنان) ومنطقة الموصل في العراق، وحصلت بريطانيا على بلاد ما بين النّهرين والجزء الجنوبي من الشّام، وكان نصيب روسيا القيصريّة الولايات العثمانية الشماليّة والشرقيّة، كما تقرّر أن تخضع فلسطين لإدارة دوليّة يتم الاتّفاق عليها بين القوى الثّلاثة تمهيدًا لتهويدها ونصّت الاتّفاقية أيضًا على منح بريطانيا ميناءي حيفا وعكّا ومنح فرنسا لواء الإسكندرونة مع تسهيلات متبادلة بين البلدين في استخدامها، هذا إلى جانب التّفاهمات المتعلّقة بالمياه والطّرق والسّكك الحديديّة والأقاليم السوريّة الشّمالية.

تداعيات خطيرة

غير أنّ خطورة اتّفاقية سايكس ـ بيكو تتجاوز هذا التّقسيم الابتدائي بالجملة إلى مناطق نفوذ وانتداب كبرى لتتمظهر في نقطتين أساسيّتين: أولاهما أنّها كانت أرضيّة لتقسيمات جزئيّة أخرى كرّست حدودًا رسميّة دائمية لكيانات سياسيّة بما أدّى إلى شرذمة الأمّة الإسلاميّة وتمزيق أرض الإسلام، فقد نشأ عنها وعن الاتّفاقيّات المترتّبة عليها مجموعة من الدّول العربيّة (العراق 1932 ـ الكويت 1935 ـ لبنان 1943 ـ سوريا 1946 ـ الأردن 1946 ـ فلسطين 1948) هذا إلى جانب انشطار فلسطين منذ سنة 1949 إلى ثلاث وحدات سياسيّة (إسرائيل ـ الضفة الغربية ـ قطاع غزّة) وما استتبع ذلك من ماراطون الصّراع العربي/الإسرائيلي المتواصل إلى يوم الناس هذا…ثاني النّقطتين أن مفعول تلك المعاهدة كان له أثر توسّعي تعميمي تجاوز منطقة الهلال الخصيب لينسحب على كافّة الكيانات العربيّة والإسلامية الواقعة تحت الاستعمار، فكرّس حدودها الكرتونية المصطنعة وأبّد وضعها وفصلها عن جسم الدّولة الإسلامية قبل أن يسلّمها بطاقات ميلادها بوصفها كيانات وطنية (مستقلّة) لقمة سائغة وحديقة خلفية ووقودًا لصراع دولي على مقدّراتها وخيراتها…

تقاطع مصالح

إنّ معاهدة سايكس ـ بيكو يتقاطع فيها ظاهريًّا أربعة مشاريع استعماريّة: المشروع البريطاني (حماية طريق الهند والسيطرة على منابع النّفط) المشروع الفرنسي (رعاية المقدّسات المسيحية وحماية الكاثوليك) المشروع الروسي (نافذة على المتوسّط ومياهه الدّافئة) والمشروع الصّهيوني (تهويد فلسطين)… إلاّ أنّ القراءة السياسية المستنيرة لبنود هذه الاتفاقية في ظل الأوضاع السياسية وموازين القوى وحيثيّات الحرب العالميّة الأولى تكشف بجلاء عن مشروع استعماري واحد تقف وراءه بريطانيا الدّولة الأولى في العالم في ذلك التاريخ وتدير خيوطه بدهاء وخبث على أكثر من جبهة، وما سائر المشاريع الجزئيّة الأخرى إلاّ بمثابة الطّعوم المغرية به والأهداف الجزئية التي تصبّ فيه: هذا المشروع هو القضاء على دولة الخلافة الإسلاميّة وتفكيك أوصالها والحيلولة دون عودتها من جديد…فقد حقّقت بريطانيا بمعاهدة سايكس ـ بيكو الأهداف التي كانت ترمي إليها لجنة (كامبل – بارثمان) في تقريرها سنة 1907، إذ رأت أنّ المشرق العربي يضم شعبًا واحدًا متجانسا عرقيًّا وعقائديًّا ومنضويًا في دولة واحدة بحيث يمكن أن يمثّل في المستقبل خطرًا على الوجود الاستعماري، فوضعت أسس إضعاف المارد الإسلامي قبل يقظته بمحو كيانه السياسي والعقائدي وتفكيكه وتجزئته والفصل بين جناحيه لإضعافه وتأبيد احتلاله، ودعت إلى وجوب (إقامة حاجز بشري قوي وغريب يمكن للاستعمار أن يستخدمه أداةً في تحقيق أغراضه) وما اتفاقية سايكس ـ بيكو التي اقتطعت فلسطين من بلاد الشام وجعلتها تحت وصاية دولية تمهيدًا لتهويدها إلاّ بمثابة وضع هذا التّقرير موضع التّنفيذ…

الدّهاء البريطاني

وعلى عادتها في القتال إلى آخر جندي فرنسي، سعت بريطانيا إلى توظيف القوى الكبرى (فرنسا وروسيا) وتشريكهما معها للاستعانة بهما وإضفاء مسحة من الشرعيّة الدولية على مشروعها…من هذا المنطلق ناورت بريطانيا على ثلاث جبهات (عربية ودولية وتركية) ماسكةً بخيوط اللّعبة جميعها تحرّكها بما يحقّق مشروعها ومصلحتها الاستعماريّة العليا بمنتهى البراغماتية والخبث: ففي الوقت الذي كانت تمنّي فيه الشريف حسين بخلافة عربيّة كانت تبرم اتّفاقًا مع آل سعود وتؤسّس لتقسيم المنطقة وتستصدر وعد بلفور… وفيما هي تقتطع مناطق نفوذ لفرنسا وروسيا في المشرق إذا بها تذكي ثورة البلاشفة وتدعمها وتسلّحها وتثير الدّروز والعلويين ضد فرنسا وتسعى لإخراجهم من الموصل، وقس على ذلك تصرّفها مع أطراف الصّراع على الجبهة التركيّة (الخليفة ـ أتاتورك ـ اليونانيّون ـ الدول الأوروبية): تمنّي الجميع وتضغط على الجميع وتعد الجميع بما لا تملك وتقاتل الجميع بالجميع إلى أن ضمنت اتّفاقها مع أتاتورك القاضي بإلغاء الخلافة، عندئذٍ طردت اليونانيّين وأخلت الأراضي التّركية من الجيوش الأوروبية ونفت الخليفة ومكّنت لعميلها في الأرض…لقد خدعت بريطانيا العرب والمسلمين واتّخذت منهم معاول رخيصة لهدم دولتهم وتاج عزّهم، وما كان لها أن تحقّق ذلك النّجاح لولا رهان المسلمين على الجانب الخطأ وتخلّيهم عن أمّتهم صاحبة السّلطان وتركهم لحبل الله المتين وهديه القويم وتعلّقهم بحبائل الاستعمار البائدة، فقد غاب عنهم أنّ أيّ ارتهان للأجنبي ـ سواء أكان سياسيًّا أو اقتصاديًّا أو عسكريًّا أو ثقافيًّا ـ هو بمثابة الانتحار السّياسي والخيانة لله ورسوله والتفريط في أمانة المسلمين وكفى بذلك خسرانًا مبينًا وخزيًا في الدّنيا والآخرة…

النسخة الأصلية

لكن هل أنّ اتفاقيّة سايكس ـ بيكو مازالت صالحة كوعاء للمشروع الاستعماري في ظل العربدة الأمريكية واحتدام الصّراع على مقدّرات العالم الإسلامي..؟؟ بعد سقوط جدار برلين (1989) وتفكّك الاتّحاد السوفياتي (1991) وتهاوي أوروبا أصبح الحديث عن صراع مع أمريكا غير ذي واقع: فقد اختلّت موازين القوى بشكل مشطّ بحيث أصبحت أمريكا تستغلّ روسيا وتوظّفها لصالحها وتتحدّى أوروبا (العجوز) في عقر دارها، وانخرطت في فرض (النّظام العالمي الجديد) طارحةً على نفسها إعادة تشكيل العالم وصياغته بشكل أحادي القطب، وسارت أشواطًا في سياسة التفرّد هذه مع (ريغان ـ بوش الأب ـ بوش الإبن)…وقد بدا واضحًا أنّ النسخة البريطانيّة من سايكس – بيكو لم تعد تلبّي طموحها وجشعها: فبريطانيا دولة ضعيفة مقارنةً بالولايات المتّحدة لذلك فمن مصلحتها تقوية عملائها حتّى تتقوّى بهم إمّا عبر تمكينهم من كيانات ذات إمكانيّات ضخمة أو عبر تجميعهم في شكل أحلاف (الهلال الخصيب ـ المغرب العربي ـ وادي النّيل ـ مجلس التعاون الخليجي…) ومن مصلحتها كذلك الحفاظ على عدم تجانس محميّاتها عرفيًّا وإثنيًّا حتّى تتمكّن من التحكّم بهم عبر الضّغط والابتزاز والمساومة واللّعب على التّناقضات من أجل إحكام قبضتها عليهم وربطهم بها ربط الجنين بالحبل السُرّي، لذلك فقد صاغت حدود سايكس ـ بيكو بالشكل الذي يؤمّن لها مصالحها وبقاءها في مستعمراتها…

النّسخة الأمريكية

أمّا الولايات المتّحدة الأمريكية فهي قوّة عظمى معتدّة بحجمها مستهينة بمنافسيها طارحةً على نفسها التفرّد بحكم العالم، لذلك فمن مصلحتها تقزيم الكيانات وقصقصة أجنحتها لتتمكّن من السّيطرة عليها بالجملة…ولتحقيق ذلك تسلّحت بمجموعة من المشاريع المسمومة من قبيل (الشرق الأوسط الكبير أو الجديد ـ الدّمقرطة ـ محاربة الإرهاب ـ الإسلام المعتدل…) من أجل إعادة تشكيل العالم ـ لا سياسيًّا فحسب بل جغرافيًّا أيضًا ـ بتقسيم المقسّم وتفتيت المفتّت وتجزئة المجزّأ معتمدةً في ذلك على التباين العرقي والإثني والمذهبي واللّغوي والتاريخي الذي يزخر به العالم الإسلامي المترامي الأطراف. وقد سارت في ذلك بخطًى حثيثة في العراق وسوريا وليبيا ومصر والصومال، وقائمة الدّول المرشّحة لهذا المصير طويلة، ناهيك وأنّها نجحت عمليًّا في تقسيم السّودان… إلاّ أن سقف العنجهيّة المرتفع لم يتجاوز مرحلة الطّموح: فقد تعثّر مشروع الشرق الأوسط الجديد في أولى محطّاته (العراق) وفشلت في سياسة التفرّد فشلاً ذريعًا ثم انخفض سقف مطالبها مع (أوباما) وأصبحت تبحث عن مخرج من مآزقها العسكريّة وعن شريكٍ يساعدها على فضّ مشاكل العالم… وبذلك تخلّت أمريكا عن سياسة التفرّد وعادت للشراكة في تشكيل العالم ـ سياسيًّا فحسب ـ مع المحافظة على التقسيم الجغرافي… هذا التوجّه الجديد أعاد أمريكا إلى مربّع سايكس ـ بيكو في نسخته الأصليّة: فقد انتفت موجبات التقسيم كما أنّ اللّعب على العوامل العرقية والإثنيّة يوجد مداخل للمنافس ـ لا سيما بريطانيا ـ للعزف على نفس الوتر بما يعرقل المشاريع الأمريكيّة ويفشلها ناهيك وأن سلاح الخبرة في صالح الإمبراطورية العجوز بامتياز…على هذا الأساس عادت أمريكا إلى أسلوبها المحبّب (الانقلابات العسكريّة والتعويل على الجيش في السلطة) مع بعض اللّيونة في تمكين شركائها من أدوار واسعة ونصيب من الكعكة، ودونك النّموذجان السوري واللّيبي في علاقتهما بروسيا…وبين هذا وذاك فإنّ سايكس ـ بيكو بنسختيه الأصلية والمعدّلة لم يعد قادرًا على سجن آمال الأمة الإسلاميّة التوّاقة إلى الانعتاق وتفيّؤ ظلال دولة إسلاميّة خلافة راشدة على منهاج النبوّة..

بسام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This