أمضى الباجي قائد السبسي يوم 05 / 07 / 2019، الأمر الرئاسي المتعلّق بدعوة الناخبين للانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2019 وقرار التمديد في حالة الطوارئ. ثمّ توّجه بكلمة مسجّلة إلى التونسيّين بعد غياب دام أكثر من أسبوع إثر وعكة صحيّة حادّة ألمّت به (مازالت آثارها بادية عليه) في 27 /06 / 2019.
وجاء هذا الإعلان في نهاية الآجال الدّستوريّة (ثلاثة أشهر قبل موعد الانتخابات) وكان يمكن استدعاء الناخبين قبل ذلك بكثير، فلم هذا التأخير؟ خاصّة وأنّ اللغط كثر حول إمكانيّة تأجيل الانتخابات، وبدأ المحلّلون يستعرضون سيناريوهات التأجيل وبعضهم يدرس تداعيات عدم استدعاء الرئيس الناخبين في الآجال الدّستوريّة. فلم أجّل الرئيس الإعلان؟؟ رغم كثرة الحديث عن تأجيل الانتخابات.
افتعال الأزمات هو أحد تقنيات الخداع وسوق الجماهير نحو أهداف يرسمها أعداؤهم:
حتّى تتضح الصّورة: نستعرض المشهد العامّ في البلاد،
المشهد العامّ في البلاد يكشف أنّ الهوّة تتّسع بين الشعب وبين الفئة الحاكمة، حتّى أضحى النّاس في واد والحكام في واد آخر. فعموم التونسيين لا يهمّهم أمر الانتخابات ولا يثقون في نتائجها (لا من حيث التزوير بل من جهة استواء الحال بين جميع الفرقاء فكلّهم سواء في الضعف والفساد وخدمة الدّول الاستعماريّة) أمّا عمليّة التسجيل في الانتخابات التي قيل أنّها الأضخم منذ 2011 فالجميع يعلم أنّها تمّت بكثير من المغالطات. ولإدراكها هذا الواقع كانت الفئة الحاكمة تخشى من مقاطعة عريضة للانتخابات، مقاطعة تشكّك في شرعيّتها داخليّا، والأهمّ (عندهم) أنّها تضعف رصيدهم عند الدّول الاستعماريّة، وتجعل قادة الغرب يتشكّكون في قدرة هذه الفئة السياسيّة على التحكّم في البلاد تحكّما يضمن مصالحهم، وهذا يقتضي أن يكون مركز العملاء مهزوزا عند أسيادهم، ويجعل خطر تغييرهم واردا في كلّ حين. ولأجل ذلك كان أكبر همّ الفئة الحاكمة في تونس (أحزاب الحكم والمعارضة) أن يصير حديث الانتخابات شأنا عامّا يهتمّ به عموم التونسيين أو على الأقلّ يظهر كذلك.
ردود الأفعال على دعوة الباجي:
ويزداد هذا الأمر وضوحا حين ننظر في الوقائع الجارية المتزامنة مع حديث الانتخابات وبخاصّة ردود أفعال على دعوة الباجي:
فقد تزامن مع آخر أجل لموعد دعوة النّاخبين، عمليّات “إرهابيّة” مصطنعة مفبركة، ليخرج رئيس الحكومة ويعلن (من موقع الجريمة) انتصارا “دونكشوتيّا” على عدوّ وهميّ، ثمّ أصدر حزبه “تحيا تونس” بعد إمضاء الأمر الرئاسي لدعوة الناخبين للانتخابات التّشريعيّة والرّئاسية، بيانا يزعم أن البلاد “تجاوزت مرحلة التّردد والتشكيك”، وأن تونس “تسير بخطى ثابتة في ترسيخ الدّيمقراطية وتثبيت أركان دولة القانون والمؤسسات”. ودعا إلى “التعاون على توفير مناخات ملائمة لإجراء هذه الانتخابات واحترام قواعد التنافس النزيه وقواعد اللعبة الديمقراطية تحت سقف القانون”. وإلى “التزام اليقظة لحماية هذا الاستحقاق الوطني المفصلي في تاريخ البلاد، إزاء المخاطر التي قد تهدده، وذلك بالحفاظ على الوحدة الوطنية وقواسم العيش المشترك ومبادئ السلم الاجتماعي ومواصلة العمل على النهوض باقتصاد البلاد، خاصة بعد ظهور مؤشرات إيجابية في عديد المجالات”.
أمّا حركة النّهضة فخرج رئيسها يُعلن أنّ إجراء الانتخابات هو “شهادة التخرّج ديمقراطيّا”. حسما لمسألة التّأجيل وردّا مستبقا على إعلان الباجي.
أمّا على المستوى الدّولي فقد جاء أوّل ردّ فعل على إعلان الباجي من سفير الاتّحاد الأوروبي “بياتريس برغاميني” إذ توجّه يوم الجمعة بالتهنئة للباجي قايد السبسي، مباشرة إثر إمضائه الأمر الرئاسي المتعلق بدعوة الناخبين للانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2019 .
قراءة في ردود الأفعال حول دعوة الباجي:
سنبدأ من الأخير من تهنئة سفير الاتّحاد الأوروبيّ الذي يتابع عن كثب كلّ حركة سياسيّة في تونس بل هو أحد صانعيها ومهندسيها (هو أحد حكّام تونس ولكن من وراء ستار) ونقول: الانتخابات إجراء سياسيّ عاديّ بل أكثر من عاديّ (هكذا يُفترض) فهل يستحقّ التهنئة؟؟
بيرغاميني رجل المخابرات السابق والسفير الأوروبي الحالي في تونس، يهنّئ تلامذة نجباء على إنجاز الواجب بل أدنى الواجب، سارع بالتهنئة إعلانا لرضا الاتّحاد الأوروبي وقطعا للطريق عن كلّ من يشكّك في الحياة السياسيّة في تونس، الذي هو أحد صانعيها، بما يعني أنّه يهنّئ نفسه ويهنّئ ضمنيّا راشد الغنّوشي على شهادة التخرّج ديمقراطيّا.
هذا ينقلنا إلى كلام الغنّوشي عن “شهادة التخرّج” الدّيمقراطيّة ولنا هنا أن نسأل الغنّوشي من سيعطيك شهادة التخرّج هذه؟ ليأتينا الجواب مباشرة من “بياتريس بيرغاميني” الذي سارع بالتهنئة، في انتظار أن تنهال التّهاني من الدّوائر الاستعماريّة الأخرى. وهذا يعني أنّ “كبار” الساسة في بلدنا وعلى رأسهم الباجي والغنّوشي ما هم إلا تلامذة صغار تلامذة في مقاعد الدّوائر الاستعماريّة حفظوا الدّرس (الذي حفظه قبلهم بورقيبة وبن علي) ونجحوا في الاختبارات الأولى وبقي الاختبار النّهائيّ. ليتخرّجوا ديمقراطيّا على يد أساتذتهم من قادة المخابرات الأجنبيّة وصنّاع القرار الغربي الذي قرّر أن تهيمن الرأسماليّة وأن تبقى بلاد المسلمين تحت هيمنتهم، وشهادة التخرّج هذه تمهّد لانسحاب الأساتذة (المستعمرين) ظاهريّا من المشهد ليتصدّر أنجب التلاميذ، ويبدو أن الغنّوشي يرشّح نفسه لمنصب أنجب النّجباء.
فماذا عن باقي المنافسين من باقي النّجباء؟
لم يتخلّف حزب “الشاهد” المدعوّ تحيا تونس عن المنافسة فجاء بيانه سريعا مباشرة إثر توقيع الباجي وتهنئة سفير الاتّحاد الأوروبي ليُظهر أنّه يحفظ عن ظهر قلب دروس الاتّحاد الأوروبي عن ترسيخ الدّيمقراطيّة، وإيجاد الأجواء المناسبة لانتخابات نزيهة وشفّافة وعن قواعد العيش المشترك وعن ….،
هكذا يبدو المشهد الحزين في بلادي، ففي تونس أشباه سياسيين كبيرة أسنانهم صغيرة عقولهم ذليلة نفوسهم لا يرون السياسة إلا ما أراهم سيّدهم الأوروبيّ عدوّ البلد وأهله ودينه، يسارعون في إرضاء سيّدهم ولو على حساب الشّعب ومصيره، يريدونها انتخابات ليختلسوا شرعيّة موهومة ينفّذون بها سياسات استعماريّة.
فبماذا يختلفون عن بورقيبة وبن عليّ؟ وهل ستحقّق الانتخابات القادمة التغيير الذي ثار النّاس لتحقيقه؟
والجواب قطعا: لا، بل إنّ الانتخابات القادمة ستخفي وجه الظّالم الطّاغية، القبيح وتوهم النّاس (النّاخبين المفترضين) أنّهم ثاروا وانتخبوا فاختاروا وأنّهم سادة أنفسهم.
وقبل الختام:
إنّ القضيّة اليوم ليست الصّراع بين ثورة وثورة المضادّة في بلد صغير اسمه تونس، إنّما القضيّة الحقيقيّة هي الصّراع بين مستعمر كافر عدوّ للأمّة الإسلاميّة ومنها تونس، صراع بين مشروعين مشروع ديمقراطيّ يريد أن يتحكّم به الرأسماليّون في الشّعوب ومشروع ربّاني مشروع الإسلام العظيم الذي أنزله ربّ العالمين لعباده، وآن الأوان أن نخوض الصّراع الحقيقيّ ضدّ الكافر المستعمر وعملائه حتّى نقيم الدّولة التي أمرنا ربّنا أن نقيمها دولة تستأنف الدّولة التي أقامها الرسول صلّى الله عليه وسلّم في المدينة أوّل مرّة وأسقطها الكفّار المستعمرون بمعونة العملاء والخونة.