ما من جريمة ولا فضيحة إلا والنظام عنوانها

ما من جريمة ولا فضيحة إلا والنظام عنوانها

تنام تونس على جريمة أو فضيحة وتستيقظ على أخرى. فأينما وليت وجهك لا ترى غير القتامة وشبح اليأس والاحباط يخيمان على الأجواء. فلم يكد الناس ينسون جريمة الدعامات القلبية غير الصالحة للاستعمال والبنج الفاسد حتى صعقتهم الدولة بجريمة لا تقل بشاعة عن سابقاتها بل هي أشد فظاعة وأكثر بشاعة, حيث حصد تقاعس الدولة واهمالها لواجباتها أرواح 14 رضيعا وحصلت الدولة على البراءة بمجرد تقديم وزير الصحة استقالته وكأن شيئا لم يكن. وبمجرد ان انفضت مجالس المزايدات وتفرق المتاجرون بآلام ومآسي الناس من أجل مكسب شخصي يحققونه أو منصب يغنمونه حتى جاءنا  نعي 12 شخصا قضوا نحبهم في حادث سير من بينهم 7 عاملات في الحقول أجبرتهم الدولة بإهمالها وتخليها عن مسؤولياتها على ركوب المخاطر لكسب النزر القليل الذي بالكاد يسد الرمق، وكما هو دأبها دوما استثمرت الدولة في هذه الجريمة التي لم يقترفها أحد غيرها ورمت بوزرها على أصحاب الشحنات ونَعتتهم بالمارقين عن القانون, فلولا ذلك السائق الأرعن لما لقي اولئك حتفهم وهذا ما جاء على لسان وزيرة المرأة “نزيهة لعبيدي” “..إن الأطراف الحكومية قامت بواجبها تجاه المرأة الريفية عبر وضع الخطط وتنفيذها… النساء كنّ ضحية عدم مسؤوليه سائق الشاحنة وتعمده خرق قوانين النقل الآمن وجعلهنّ عرضة للخطر عبر الطرق الهشة للنقل..”, بل القوا باللائمة على العاملات اللاتي لول جهلهن بالقانون ما حشرهن في تلك الشاحنة.

نعم الدولة قامت بواجبها ووضعت القوانين وما على من يخالفها إلا تحمل تبعات تصرفه سواء خالفها على علم أو على جهالة فالأمر سيان هو المقصر والدولة من دمه أو تجويعه أو تشريده بريئة ولا ذنب عليها. هذا وإن نعدّ جرائم هذه الدولة لن نحصها, ففي كل قطاع أو مجال لا يغيب ارتكاب الجرائم البتة, فالدولة لها صولات وجولات تكاد لا تتوقف, وآخر ما اقترفته عجزها على استيعاب محصول الحبوب لهذا العام، فما حصده الفلاحون هذه السنة لا قبل للمخازن التي بنتها الدولة على استيعابه والحل الوحيد المتوفر لدى الدولة هو بقاء مئات القناطير من القمح والشعير في العراء عرضة للإتلاف, وما الضير في ذلك ما دامت الدولة مدمنة على التوريد ولديها شراهة مزمنة على الاقتراض وبارعة في كل فنون الارتهان والتبعية للغير ثم إن أغلب المحصول المهدد بالإتلاف هو من الشعير, فأين هي المشكلة.. هذا ما طمأننا به وزير الفلاحة “سمير بالطيب” الذي لا ينطق إلا بالحكمة كما فعل سابقا حين أتحفنا بمقولة ” استهلاك زيت الزيتون ليس من عاداتنا” فلماذا التباكي على ارتفاع سعره رغم أن المحصول كان قياسيا، تماما كما هو الحال بالنسبة لمحصول الحبوب. ما الضرر إن فسد جزء كبير منه فأغلبه من الشعير وحتى ان اتلفت كميات كبيرة من القمح فهي ما زاد على الحاجة فمحصول هذه السنة لم تشهده البلاد من قبل فلماذا كل هذا الانزعاج اذن؟

الجريمة تردفها الفضيحة

قلنا إن جرائم هذه الدولة لا يمكن عدها وحصرها ولا يمكن لها أن تتوقف يوما ويجف مستنقعها مادامت تطبق نظاما وضعيا لا يخرج نباته إلا نكدا. فالإجرام هو من طبيعة النظام الديمقراطي الوضعي يمارسه حكام المسلمين العملاء على شعوبهم ويسلطه زعماء القوى الاستعمارية على الشعوب الأخرى. ومع طبعه الإجرامي, لهذا النظام خاصية أخرى هي قدرته العجيبة على انتاج الفضائح والمهازل وإتيان الشيء ونقيضه ثم تأتي القدرة الفائقة على التبرير باستعمال الكذب المفضوح والدجل الصراح. لقد قالوا إن الشعب هو الذي يحكم وجعلوا له من ينوبه في حكم نفسه بنفسه, يختاره هو بنفسه عبر الانتخاب. ومن يفوضهم الشعب يجمعهم برلمان, هذا البرلمان منحوه ما ليس من حقه وهو التشريع وقالوا عنه هو سلطة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تعلوا عليها سلطة أخرى, وجعلوا من بعده سلطة أخرى تنفذ كل ما يقرره ويصادق عليه واسمها السلطة التنفيذية. وعلى الضفة الأخرى نصبوا خيمة سلطة ثالثة اسمها السلطة القضائية. وأقروا بأن لا تبغي سلطة على أخرى ولا تتدخل في شأنها, فلكل سلطة حماها ولا يجوز مطلقا التداخل بين السلط. وأقاموا بينها حاجزا أسمه الفصل بين السلط. وكل دولة تلتزم بهذا كله تنال شرف التسمية ب “دولة القانون والمؤسسات” والذي يضمن هذا السير هو الدستور الذي خطوه بأيديهم وحددت فصوله وبنوده الأهواء والمصالح التي تتقدمها طبعا مصالح ومآرب القوى الاستعمارية وحسبهم أنهم أقصوا منه الإسلام وأحكامه.

إذن كل سلطة مفصولة على أختها والدستور هو الفيصل بين الجميع, ولا يجوز لأي كائنا من كان أن يحيد قيد أنملة على ما جاء فيه والاهم من هذا كله أن ما ورد في الدستور جلي ولا لبس فيه, بشكل يستحيل معه القفز عليه أو تأويل فصوله حسب الرغبة والمصلحة الشخصية. هذا كلام جميل يتحول إلى فحش بمجرد ملامسته للواقع وهو ما حصل بالفعل ويحصل هذه الأيام. ففي ظل الصراع المحموم على السلطة والتناحر على الكراسي ونتيجة تضارب المصالح واختلاف الولاءات فلكل مسؤول الكبير يدين له بالولاء, قدمت الحكومة مشروع قانون فيه تنقيح للقانون الانتخابي. عرض على مجلس النواب وصادقوا عليه. وفي غياب المحكمة الدستورية عرض على الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين وهنا “وافق شنّ طبقة” وأقرت الهيئة ما صادق عليه نواب مجلس الشعب. ولم ينتهي الأمر هنا, اذ رحل الموضوع إلى قصر الرئاسة ليختم الرئيس القانون ثم ينشر بالرائد الرسمي ويصبح قانونا ساري المفعول أو يرجعه إلى مجلس النواب ويعرض على التصويت مجددا, أو يدعو إلى استفتاء شعبي حوله. وهنا تكمن الفضيحة. ألم يقولوا فصل السلطات عن بعضها أمر مقدس والتعدي عليه رجس من عمل الشيطان؟ ألم يقولوا رئيس الدولة يمثل السلطة التنفيذية ويقف دوره عند هذا الحد, فلماذا اذن يحتاج قانون صادق عليه نواب مجلس الشعب إلى موافقة رئيس السلطة التنفيذية ؟ فمن هي السلطة التي تشرع ومن هي التي تنفذ؟ وهنا من ينوب الشعب في سن القوانين مجلس النواب أم رئيس الدولة؟ وإن كان رئيس الدولة يمثل السلطة التنفيذية وهو في الوقت ذاته من يختم على القوانين ومن دون ختمه لا يمكن لهذه القوانين أن تصبح نافذة المفعول فما هو جدوى البرلمان أو ما يسمونه السلطة التشريعية.

فمن المشرع ومن المنفذ؟ سؤال لا يسأل في نظام الإسلام فالمشرع هو الله والمنفذ هو الدولة. ولكن يطرح السؤال عند الحديث عن هذا النظام الوضعي.. والجواب هو المشرع والمنفذ متغيران حسب تغير المصالح والأطماع ولهذا كانت دساتيرهم تفتقر إلى الصياغة القانونية, وكل فصولها عبارة عن كلام فضفاض كل يؤله حسب هواه ووفق مآربه. لهذا لا غرابة أن ينام الناس ويستفيقوا على وقع جريمة ترتكبها هذه الدولة هنا وهناك.

حسن نوير

CATEGORIES
TAGS
Share This