فجأة، ودون سابق إنذار، يحل على رأس الحكومة وزير بن علي بتفويض من صاحب الجنسية الفرنسية يوسف الشاهد، ليتخلى هذا الأخير عن جنسيته الأجنبية بدافع الإيمان بالوطنية التي داسها أثناء حكمه، ويرشح نفسه بثقة مصطنعة للانتخابات القادمة بدعوى المسؤولية، متنصلا من كل أنواع المساءلة والمحاسبة سواء عن الوضع الكارثي الذي وصلت إليه البلاد أو عن اختياره لكمال مرجان وكيلا في تمرير أجندة الوصاية الغربية على تونس، وآملا من الشعب ابتلاع الطعم وقبول التواجد السياسي لأحد أبرز وزراء بن علي في سدة الحكم.
وفي سيناريو مشابه لسيناريو تفويض فؤاد المبزع رئيسا مؤقتا للبلاد حين عاد إلى الحكم من بوابة الفصل 115 من دستور بن علي، يعود وزير بن علي بنفس الإخراج السيء من بوابة الفصل 92 من دستور “نوح فليدمان” المنسوب إلى الثورة.
فبعد سنوات من التخفي وطول الانتظار، لم يفت كمال مرجان (وقد كثُر المتمسحون) أن يتمسح على أعتاب شيخ التوافق الديمقراطي راشد الغنوشي ليحصل أمام الرأي العام على شهادة براءة من جرائم النظام السابق، فينسينا سنوات من الإستماتة في الدفاع عن بن علي وتبييض نظامه المجرم في المحافل الدولية عند تقلده لوزارة الخارجية.
ثم تصنع له في التحوير الأخير وزارة على مقاسه بعد أن تم إلغاؤها، لتعود بقدرة قادر ويسند لها اسم “وزارة الوظيفة العمومية ورسم السياسات”، وما أدراك ما رسم السياسات. ثم تشرع على إثرها سفيرة بريطانيا علنا وبكل صفاقة في الإشراف المباشر على ضبط التوجهات العامة لتسيير الدولة وإعادة صياغة الإدارة من حيث التخطيط الاستراتيجي وتكوين الإطارات وضخ الأموال (52 مليون دينار لسنة 2019) من أجل التسريع في تحقيق ذلك ليشمل الأمر كلا من وزارة الداخلية والعدل والدفاع والمالية، حتى صارت المقيمة العامة البريطانية تصول وتجول في البلاد شمالا وجنوبا لتدشن المقرات الأمنية وتعطي الأوامر في جميع القطاعات، في حين يتكالب أشباه السياسيين على كرسي قوائمه معوجة.
أما اليوم، فها هو وزير بن علي يشرف على رئاسة الحكومة وما يتطلبه ذلك من تنظيم للانتخابات واستقبال للسفراء والمنظمات الدولية المشبوهة المتابعة لحسن سير “الديمقراطية”، أي ما يتطلبه ذلك من تكريس لأجندة التبعية للكافر المستعمر، وكأن التسمم الغذائي الذي تعرض له السبسي (بحسب بعض وسائل الإعلام) لم يحصل إلا من أجل أن يعيش الأنجليز هذه اللحظات التاريخية ويتنفسون أكسجين وصول رجلهم المخلص إلى رئاسة الحكومة ووضع البلاد على سكة التغيير الذي تنشده بريطانيا لتونس.
وما المانع إذا كان الجميع متوافق بل متفق بالإجماع مع ما تمليه الدوائر الأجنبية على حكام تونس، وانحصر السباق الانتخابي على شخص من سيطبق نفس النظام ويحرس نفس الدستور المخالف لشرع الله في أصوله وفروعه؟
جريمة تبرير الإجرام
إن ما يحز في النفس تجاه الوضع القائم في بلاد الإسلام ومنها هذا البلد العزيز تونس الذي يراد سلخه عن أصله وفصله، هو وجود بعض من ينسب مشاركة حكام الملك الجبري جرمهم إلى الإسلام، مع أن الإسلام بريء من هذا الإجرام الدولي الذي أزهقت فيه أرواح وتورط فيه الساسة والحكام ومن دار في فلكهم من علماء السلطان وأبواق الإعلام، بل إنه لمن المؤسف أن تعمى أعين بعضهم عن غياب شرع الله، لينشغلوا بتكثيف سواد المشاركين في جريمة تزوير إرادة الأمة عن وجوب قلع الأنظمة وكنس العملاء وإقامة سلطان الإسلام العادل ودولته دولة الخلافة الراشدة التي وعدنا بها رب العباد، وبشرنا بها نبيه صلى الله عليه وسلم.
إن صرف أذهان الأمة عن قضاياها المصيرية وحبس أبنائها في أقفاص استعمارية ترفع داخلها رايات جاهلية تنسيها راية التوحيد وعن مشروع الخلافة تحديدا باعتباره تاج الفرائض، لهو جرم منظم ترعاه القوى الصليبية منذ أكثر من قرن من الزمان وتعمل على تكريسه عبر أنظمة الجور والطغيان التي تتشدق بالديمقراطية وتمارس سياسة تكميم الأفواه، ولذلك فإن السكوت عن هذا المسار الإجرامي الذي يكرس سيادة أنظمة الكفر في بلاد الإسلام ويطيل عمر الفساد الذي خلفه تطبيق النظام الرأسمالي لهو جرم فظيع لا يرضى به إلا شيطان من شياطين الإنس. قال صلى الله عليه وسلم: الساكت عن الحق شيطان أخرس.
أما المبادرة بالتسجيل في ذيل قائمة الملك الجبري والتطبيل للانتخابات الديمقراطية التي ثبت للجميع زيفها، ومشاركة المجرمين جرمهم ومجالستهم بدعوى الإصلاح وباسم الإسلام بدل مكافحتهم ومقارعتهم والإنكار عليهم لهو جرم مضاعف خاصة بعدما بذلته الأمة من مهج وأرواح في سبيل استعادة سلطان الإسلام ورفع رايته، لأن تبرير الجرم ونزع الصفة العلمانية عنه وإلباسه لبوس الإسلام من أجل تسويق مشاريع الكافر المستعمر لهو أشد وطأة على المسلمين من الجرم نفسه، وما ذبحت أمتنا من الوريد إلى الوريد إلا عندما أصيبت بالغفلة السياسية وغاب عنها الوعي السياسي المستمد من الإسلام وأحكامه، حتى كادت تفتن عن كل ما أنزل الله إليها لا عن بعضه، فضاعت أرض الإسراء والمعراج واستبيحت أعراض المسلمين ودماؤهم في كل مكان. قال تعالى: وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ، فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِلَفَاسِقُونَ.سورة المائدة – الآية 49.
هل نبيع الحكام حتى نقضي على الجريمة المنظمة؟
ربما نحتاج لوقف هذه الجريمة المنظمة التي يحرسها الأسياد من وراء البحار بتواطؤ حفنة من العبيد من قوم تبّع، إلى موقف عزّ من مواقف سلطان العلماء وبائع الأمراء الشيخ العز بن عبد السلام، الذي لم يثنه وقوف الصليبيين على الأبواب، ولا تحفز التتار للانقضاض على بلاد الشام ومصر عن قول كلمة الحق، حيث تولى القضاء في أرض الكنانة، وكان أمراؤها الأتراك مماليك أصلاً وولُّوا الإمارة وهم لم يعتقوا بعد، فذكر العز أنه لم يثبت عنده إنهم أحرار، ولم يصحح لهم بيعاً ولا شراء ولا نكاحاً لأنهم مملوكون أصلاً، والشريعة لا تصحح معاملاتهم تلك، مع أنها معاملات مستندة إلى الإسلام وأحكامه، ولكن حرصه على عدم تجزئة أحكام الإسلام جعله يجيبهم حين أرسلوا إليه بالقول: ” نعقد لكم مجلساً وينادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعي“، ثم تم له ما أراد، ونادى على الأمراء واحداً واحداً، وغالى في ثمنهم، وقبضه، وصرفه في وجوه الخير من مصالح المسلمين.
فكم من الحكام والملوك والأمراء اليوم، ليسوا سوى عبيدا لدى أسيادهم من عباد الصليب؟ وهل من بائع لهؤلاء المجرمين في سوق النخاسة وقابض لثمنهم وصارف إياه في وجوه الخير؟
اللهم نجنا من فراعنة هذا الزمان وجنودهم وأعزنا بجندك وأنعم علينا بنصرك كما أنعمت على سيدنا موسى عليه السلام وقومه، فقلت على لسانه وقولك الحق: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِين. سورة القصص – الآية 17.