خطاب التنصيب: وعود وشعارات أم صدق وأمانات
إن منصب رئاسة الدولة الذي فاز به الأستاذ قيس سعيد في الإنتخابات الرئاسية يبقى حتى في ظل نظام شبه برلماني عامود الحكم, خاصة في مفهوم الشعب. فعموما تتعلق الشعوب برأس الدولة كمالك للقرار السياسي في البلاد ومنقذ لها عند المحن. ولقد انتظرت الجموع خطاب التنصيب للرئيس الجديد الذي بنيت على ترشيحه آمال فئة كبيرة من شعب تونس المكلوم بسياسة عشّش فيها الفساد والتبعية للغرب والتطبيع مع كيان يهود والتفريط في ثروات البلاد لشركات الاستعمار, والعجز عن إيجاد حلول للاقتصاد المتهاوي أو التعليم المائع أو قطاع الصحة المنخرم, وغير ذلك من مصائب سياسة الخيانة والعجز والفجور
وقد أردنا بعد سماع الخطاب أن نستقرئ أهم محاور سياسة الرئيس الجديد وأفق التغيير الذي رفع شعاره في حملته الانتخابية وتفاعل معه في ذلك جزء هام من الشعب, ونحلل في ذلك ممكنات التنفيذ في هذه المحاور حتى يكون سلوكنا تجاه هذا الحدث سلوكا واعيا لا تطغى عليه المشاعر الحالمة أو التشنجات اليائسة, وسنستعين في هذه القراءة بوضع هذا الخطاب بين خطابين سياسيين لرئيسي دولة عند تسلمهما مقاليد الحكم: خطاب تنصيب الرئيس مخلوع بن على في بيان السابع من نوفمبر المشؤوم وخطاب تنصيب الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي قال قيس سعيد بأنه أسوته في الحكم. فما هي هذه المحاور الرئيسية؟ وماهي خيارات قيس سعيد فيها؟ وماهو المتوقع من تحقيقها؟ وماهي مكانتها بين الخطابين المذكورين ؟
سنتطرق إلى ثلاث محاور أساسية لنجيب على هذه الأسئلة :
-
أولا: الإشادة بوعي الشعب على التغيير وشكره على مواصلة طريق الثورة نحو تحقيق أهدافها:
اعتبر قيس سعيد أن الشعب التونسي أعطى مثالا أعلى لكل الشعوب في العالم على كيفية التغيير يجدر بالعاملين على التغيير في الشعوب المظلومة أن يدرسوه ليستنبطوا منه منهاجا. ونظرة للوسط السياسي الذي أفرزته الانتخابات والأسس الفكرية والسياسة والاجتماعية التي ينبني عليها الحكم في تونس يجعل المتأمل في حيرة, لفهم هذه الصورة المشرقة التي رسمها قيس سعيد لوعي الشعب وخياراته. ف”المكينة” القديمة متمثلة في أحزاب الحكم الرئيسية والشخصيات السياسية الفاشلة التي حكمت المرحلة السابقة قد تسلل أغلبهم من جديد إلى البرلمان وسنجدهم في الحكومة القادمة. أما قيم الجمهورية والديمقراطية ودستور 1959 وربيبه دستور 2014 وقوانين الحكم والإدارة عموما باقية على حالها. فإذا كان الشعب التونسي على درجة من الوعي تحمد في هذه الانتخابات فهو أنه اختار عقاب هذه “الماكينة” وتهديدها. لكنها في الحقيقة أعطته صك التوبة من غيها وظلمها بتمرير بعض نسائم الثورية والتغيير لكن نواتها الصلبة تتأقلم وتتجدد. أما الدرس لشعوب العالم فربما يقصد به تكريس هذا المثل للشعوب الثائرة كالجزائر أو لبنان أو سوريا أو العراق أو غيرها حتى لا تبحث عن حل خارج صندوق الإنتخابات الديمقراطية.
وهذه الإشادة نجدها في خطاب بن علي “أيها المواطنون, أيتها المواطنات إن شعبنا بلغ من الوعي والنضج ما يسمح لكل أبنائه وبناته بالمشاركة البناءة في تصريف شؤونه في ظل نظام جمهوري يولي المؤسسات مكانتها ويوفر أسباب الديمقراطية المسئولة وعلى أساس سيادة الشعب.”
أما الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد جعل ثقته في المسلمين في طلب العون منهم بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وإظهار النصيحة, فقد قال رضي الله عنه :”فاتقوا الله وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحضار النصيحة فيما ولّاني الله من أمركم “.
-
ثانيا: أمانة الحكم:
تحدث قيس سعيد عن أمانة الاستجابة للشعب في الحرية والكرامة وعن أمانة الحفاظ على القانون والحفاظ على الدولة, وتحدث عن هذه الأمانات في إيحاء بأن هذه الاستجابة هي وفق قول الله سبحانه وتعالى: “وأن تؤدوا الأمانات إلى أهلها, وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل”, ولا تخفى على مسلم بأن الأمانة التي كلف بها الله سبحانه الحاكم المسلم ليست أمانة الحرية والكرامة بل هي أساسا أمانة الحكم بما أنزل الله, التي تجعل القانون في دولة الإسلام الاستجابة لله ولرسوله قبل كل شيء وينفذه المسلم بدافع تقوى الله أولا وتكون حريته في عبوديته لله سبحانه وليس في التشريع الوضعي أو العمل وفقه, فتكون العبودية لمن شرع هذا التشريع. وتكون الكرامة كرامة المؤمن الذي وإن أخذ صدقة من مال الزكاة فقد أخذها بوصفها حقا له من الله تضمنه الدولة في إطار تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي الذي يضمن كرامة الجميع بتوفير الحاجيات الأساسية لكل فرد من رعايا الدولة. أما أن تكون الحرية والكرامة وتطبيق القانون شعارا فضفاضا يراد تحقيقه بنظام يخالف نظام الإسلام ويجعل تونس الزيتونة تابعة للغرب ورأسماليته البشعة فقد سمعنا هذا الشعار من بن على في بيانه الأول: “وسنحرص على إعطاء القانون حرمته، فلا مجال للظلم والقهر، كما سنحرص على إعطاء الدّولة هيبتها فلا مكان للفوضى والتسيّب ولا سبيل لاستغــلال النفــوذ أو التســاهل فــي أمــوال المجمــوعة ومكاسبها”. فما الضامن لعدم تكرار نفس الخديعة.
أما الفاروق فقد جعل الأمانة مناطة به ثم جعل الصدق والأمانة مقياس اختياره لمعاونيه, فقد قال رضي الله عنه: “فلا والله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني ولا يتغيب عني فآلو منه عن أهل الصدق والأمانة ( يقصد أن الأمور التي لا تحضره لا يوليها إلا أهل الصدق والأمانة ) ولئن أحسنوا لأحسنن إليهم, ولئن أساؤوا لأنكلنّ بهم (أي أنه سيتابع معاونيه ويحاسبهم) أما أمانة العدل والكرامة فقد قال رضي الله عنه “ولست أدعوا أحدا يظلم أحدا أو يعتدي عليه حتى أضع خده على الأرض وأضع قدمي على خده الآخر حتى يذعن للحق وإنني بعد شدتي تلك لأضع خدي أنا على الأرض لأهل الكفاف وأهل العفاف”
-
ثالثا: العلاقات الخارجية: