حين يطرق حملة لواء الحقّ والخير والمعروف باب المجتمع مبشّرين بدعوتهم داعين إلى فكرتهم، ناقدين لعلاقات المجتمع بأفكاره ومشاعره وأنظمته، متفاعلين مع النّاس وهمومهم وشؤونهم، يحصل صدام مرتقب لا مفرّ منه؛ فتظهر لهم المحنة وتشتدّ عليهم الفتنة، ويزداد عليهم الضغط ويكثر حولهم اللغط، وتتقلّب عليهم الأجواء حارة وباردة، وتهبّ عليهم الرياح عاصفة وليّنة وتتناوبهم السحب صافية وملبّدة. وعندها، تتكشّف معادن الناس:
سبكناه ونحسبه لجينا … فأبدى الكير عن خبث الحديد
وإنّ من أشدّ الفتن وأعظم المحن أن يتصوّر تيار من داخل الجماعة أو الحركة العاملة للتغيير أنّ أعمالها وأساليبها ومواقفها بعيدة عن الناس ومشاغلهم، فتنصح بالاندماج في الجماهير والمشاركة في أعمالهم والالتحام بهم والتموقع داخلهم ومسايرة عناوين المرحلة ومتطلباتها عملا بالممكن المتاح وتحيّنا للفرص. ويزداد البلاء على الحركة الواعية إذا كان في الجماهير نفسها من يدعم هذا التصوّر، فيطالب بالعمل الميداني على أرض الواقع وفق ما تسمح به الممكنات القائمة والوضع الموجود، وتحاسبك هاته الفئة على ترك الساحة لغيرك، وتصفك بالانعزال عن الواقع والتخاذل، وتلومك على التفويت في الفرصة التاريخية؛ وهنا تجد الطائفة القوّامة على أمر الله نفسها في مواجهة داخلية وخارجية.
فالمواجهة الداخلية مع بعض المتذبذبين الذين غرّهم الواقع المتحرّك، فاستعجلوا النصر على أمل الدخول إلى المجتمع من منافذ نوافذه، وزيّن لهم عقلهم أنّ السياسة كفنّ خداع ومكر ومناورة كفيلة بأن تحقّق الغاية والمطلوب. ونسي هؤلاء أنّ الطائفة القائمة على أمر الله لا تخادع ولا تمكر، ولا تدخل المجتمعات من نوافذها إنما من أبوابها، فليست هذه الحركة المؤمنة حركة ماركسية تبثّ التناقضات في المجتمع وتتصيّد الهفوات والغلطات، وتخصّب الصراع وتستدرج الخصوم كالضباع لنجهز عليهم على حين غفلة. وليست هذه الحركة المؤمنة حركة رأسمالية تبرّر غايتها وسيلتها.وأمّا المواجهة الخارجية فمع الجماهير التي انساقت للمطالب الآنية، واستعجلت التغيير من خلال الاكتفاء بالجزئيات، ونيل بعض المكتسبات، وها هي تدفعك للسير معها وتحثّك على اللحاق بها وتطلب منك الإذعان لمنهجها ومطالبها.
وهنا؛ بعد أن تكشّف لك واقع الحال، يرد على العاملين المبدئين سؤال: ما العمل؟
وقال سبحانه: {وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِين (55)} (القصص).
وقال سبحانه: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} (الكافرون).
لقد خطّ لنا القرآن الكريم المنهج المبدئي الذي يجب سلوكه، وهو المفاصلة السياسية؛ فلا يجب الاندماج في الجو السياسي، ولا يجوز الذوبان في الحراك المجتمعي إذا كانت مواقفه ومطالبه مخالفة للمبدأ بل وجب توضيح القاعدة بكل صرامة وشدّة وبكل لطف ومحبّة، وهي: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم.
ولا تعني المفاصلة السياسية عدم العمل بين الناس والاختلاط بهم، ولا تعني عدم الحوار والنقاش مع مختلف التيارات السياسية الموجودة، ولا تعني عدم الاهتمام بالإيجابيات المتحقّقة والمكتسبات المكتسبة، ولا تعني الوقوف على الربوة والهضبة وعدم المبالاة بمشاكل الناس وهمومهم وأفراحهم وأتراحهم، ولا تعني الاستعلاء على الجماهير والنظر إليهم من فوقية، ولا تعني الشماتة حين الانتكاس وعدم تحقّق المطالب ولو كانت آنية. نعم، لا تعني المفاصلة السياسية كلّ هذا، إنما تعني التميّز والحفاظ على الهوية والمبدأ من التلطّخ بشوائب الواقع الفاسد والطلبات المرحلية الآنية والرغبات المشاعرية العاطفية السطحية.
فالمفاصلة السياسية المبدئية تقتضي النظر إلى الواقع من زاوية المبدأ، والحفاظ على الثوابت، وتتطلّب نسج إستراتيجية وحبك خطّة من صميم المبدأ ذاته، تأخذ بعين الاعتبار الإمكانيات والقدرات لتنزيلها على واقع الممكنات والمجالات والموضوعات المتاحة المباحة؛ فإن عدمت تلك الممكنات وسدّت تلك المجالات وأغلقت تلك الموضوعات، وجب العمل على خلق وابتكار الجديد. ولتكن للجماهير المخالفة لك ساحاتهم، ولك ساحاتك. لهم شعاراتهم، ولك شعاراتك. لهم مطالبهم، ولك مطلبك. لهم أهدافهم، ولك غايتك. لهم أساليبهم، ولك أساليبك. لهم وسائلهم، ولك وسائلك؛تتحرّك بينهم وتنشط لتدعوهم إلى الحقّ، فإن أذعنوا فبها ونعمت، وإن صمّوا آذانهم وصرفتهم أبواق العلمانية والمطالب الجزئية عن إتباعك؛ فلا تحزن ولا تضعف، ولا تشتم ولا تلم، وأثبت مكانك في الصفّ الأمامي ناصحا داعيا إلى الخير ملتزما بفكرتك وطريقتك، وقل كما قال نبيّك صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُون»، وثق أنّهم سيرجعون ولو بعد حين، وأنّ العاقبة للمتقين، والنصر للمبدئيين. {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ۚ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِين (54)} (النور).