يبدو أنّ القاعدة الشهيرة (أعطِني إعلامًا نزيهًا أُعطِك شعبًا واعيًا) قد انقلبت رأسًا على عقب وطُبّقت ميدانيًّا بمفهوم المخالفة وفقدت نفَسَها الحِكَمِي بوصفها مجرّد شعار طوباوي أجوف لا ينطبق لا على واقع الإعلام عمومًا ولا على المشهد الإعلامي التونسي خصوصًا: فقد أضحى هذا الأخير ـ بقطاعيه العمومي والخاصّ ـ مشهدًا محتقنًا مرتهنًا بائسًا مثيرًا للشفقة والاشمئزاز، يفتقد إلى الدّعامتين الأساسيّتين اللّتين تستند إليهما كلّ مهنة شريفة ـ النّزاهة والحرفيّة ـ بما حوّل وجهته 180 درجة من رسالة شريفة نبيلة وخدمة اجتماعيّة حيويّة إلى بلطجة مبتذلة وبوق دعاية وتضليل وخليّة مخابراتيّة خبيثة و(ماتراك) بيد أزلام الكافر المستعمر لتركيع هذا الشّعب الأبيّ والالتفاف على ثورته المباركة..فرغم ما للإعلام في المجتمعات البشرية من قوّة وتأثير وسلطة وفاعليّة في صناعة الرّأي العام فإنّه يبقى سلاحًا ذا حدّين أقرب إلى التّوظيف السّلبي منه إلى الاستخدام الإيجابي، ودونك واقع حال الإعلام التّونسي: فهو يتخبّط ـ بالمشاهد الملموس ـ في مستنقع من الرّداءة والابتذال والارتهان والتسخير تضافرت في نحت مشهده عوامل عديدة لعلّ أبرزها الاستقطاب السياسي والمال المشبوه والولاءات الخارجيّة وغياب مقصود لمرجعّية قانونيّة واضحة صارمة تؤطّر القطاع وتنظّمه وتطهّره، ما أفقده مصداقيّته وهيبته ـ وإن لم يُفقده فاعليّته ـ وهذا بيت الدّاء ومكمن الخطر..
رسالة الإعلام
لقد رأى الإعلام النّور في المجتمعات البشريّة على الفطرة صفحةً بيضاء تنضح براءةً في شكل خدمة اجتماعيّة حيويّة تتمثّل في تقديم المعلومة ونشر الأخبار بمفهومه الواسع وتيسير مصادرها وتجلية الحقيقة وإنارة الرّأي العام والانتصار للحق والخير والعدل..فالأصل في الإعلام أنّه رسالة شريفة نبيلة وضمير المجتمع والأمّة الحيّ وعينها السّاهرة وقلبها النّابض ولسانها الفصيح ونبراسها الذي يهديها سواء السّبيل ومدرستها التي تكرّس بها الخلق الرّاقي والذوق الرّفيع وقسطاسها المستقيم الذي يحقّق التّوازن بين الحاكم والمحكوم نصحًا ومحاسبةً وردْعًا وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر.. لذلك لا عجب أن عُدّ الإعلام في الدّولة الإسلامية من الأمور المهمّة للدّعوة والدّولة وارتبط جهازه مباشرة بالخليفة منفصلاً عن إدارة مصالح النّاس..والأصل في الإعلام أن لا يخضع لترخيص وأن يكون تعدّديًّا وحرًّا إلاّ من قيود عقيدة الأمّة الإسلاميّة وأن يكون فضاءً رحبًا لحوار المواقف والأفكار ومنبرًا جريئًا للمحاسبة وإبداء الرّأي بما يحقّق المصلحة العامّة ويرتقي بالذهنيّة إلى مصافّ التثقيف والتنوير..وكون الإعلام رسالة وسلطة يستوجب بالضرورة التزامه بجملة من الأخلاقيّات والقواعد المهنيّة: فالرّسالة تقتضي التضحية والإيثار والمحبّة والنّصيحة والضمير الحي وتقديم المصلحة العليا.. والسلطة تقتضي المصداقية والجرأة والصّراحة والتحرّي والحياد الإيجابي والموضوعية والأمانة والنزاهة..
ولعلّ أهم قاعدة يقوم عليها الإعلام الرّسالي هي (الخبر مقدّس والتّعليق حرّ): فالخبر يُتحرّى عنه ـ مصدرًا وحيثيّات وتوقيتًا وملابسات ـ ويُساق كما هو على عواهنه دون أدنى تغيير في محتواه فضلاً عن فبركته واختلاقه من عدم أو نسبته لغير مصدره أو تسريبه في توقيت مشبوه لغايات دنيئة.. أمّا التعليق فحُرٌّ يُفسح فيه المجال أمام الجميع لإبداء الرّأي في إطار الضوابط الشرعية مع الكيل بمكيال واحد وإبلاغ جميع الآراء دون حجب أو تشويه أو انحياز ودون السّقوط في التوظيف السياسي وخدمة الأجندات: فالإعلام مديرٌ للصّراع وليس طرفًا فيه وخطورة الإعلام تكمن في أنّه ليس مجرّد إخبار وتقديم للمعلومة بل في كونه مؤسّسة قائمة الذات وأداة فعّالة وخطيرة يمكن تسخيرها لصناعة رأي عامّ بمواصفات معيّنة حسب الطّلب بما يقتضيه ذلك من التّأثير في المتلقّي وبكلّ الوسائل بما في ذلك المغالطة والكذب والتزييف وقلب الحقائق والهرسَلة والماتراكاج الإعلامي..
بين الموجود والمنشود
هذا الوليد الإعلامي الذي رأى النّور صفحة بيضاء سرعان ما اشتدّ عوده واعتركه الواقع بضغوطاته الماديّة والسياسيّة فانخرط في زواج متعة مع السّلطة والأحزاب السياسيّة والأطراف الأجنبيّة المتصارعة على الكعكة التونسيّة.. فحاد عن أخلاقيّات المهنة وضلّ طريقه بين القصر الرّئاسي والوسط السياسي وأقبية المخابرات وأروقة السفارات الأجنبيّة بوقًا من أبواق الاستعمار وسيفًا مسلّطًا على أعناق المناوئين لمشاريعه المستهدفة لهويّة الأمّة وسلطانها ومقدّراتها.. فالإعلام لم يعد رسالة بل أصبح مهنة يحترفها أُجراء (بالياطاش)، أمّا المؤسّسة الإعلاميّة فقد أضحت مؤسّسة استثماريّة ربحيّة خاضعة لاقتصاد السّوق يتحكّم في تفاصيلها ويرسم خطّ تحريرها رجال السياسة والمال والأعمال عن طريق التملّك والتمويل والإشهار والضغط والابتزاز والاستقطاب والتّهديد.. هذا ما حوّل الإعلام إلى لوبيّات وجماعات ضغط وأدوات للتعبئة والتّجييش وتوجيه الصّراعات وصناعة الزّعامات، وورّط الإعلاميّين في تزييف الحقائق وقلب المعطيات وتشكيل الواقع حسب الطّلب المفروض من وراء البحار في مشهد سوداوي بائس اندكّت فيه الحدود بين الإعلام والسينما والتغطية والتمثيل والتحليل والتدجيل والحوار والمنطَجَة والصّحافة والمخابرات..وانحطّ فيه الخطاب الإعلامي إلى حضيض الميوعة والابتذال والسبّ الرّخيص والتحريض والمبالغة والاستقواء بالأجنبي والتشويه وقلب الحقائق وفبركة الأدلّة وتبييض العملاء ولصوص المال العامّ وفرض أطراف وتغييب آخرين والتغطية على الجرائم وتمكين القاذورات البشرية من التطاول على عقيدة الشعب ومقدّساته وثوابته..كما تحوّلت فيه البرامج والمنوّعات والبلاتوات إلى فضاءات لغسيل الأدمغة والهرسلة والفورماتاج والماتراكاج والقصف الإعلامي وحملات التّضليل والدّعاية..
وقد اعتمد الإعلام استراتيجيات جهنّمية للتأثير في الرّأي العام من قبيل الإلهاء أي تحويل الأنظار عن القضايا المهمّة ـ التدرّج لتمرير المطلوب دون صدام مع الرّأي العام ـ التّأجيل حتّى يتقبّل الجمهور ويرضى ويستكين ـ خلق مشاكل وهميّة لتمرير مخطّط ما في خضمّ الحلول المقترحة ـ تسطيح الخطاب لتمييع القضايا الأساسيّة..وتنفّذ هذه الاستراتيجيّات بأساليب سوقيّة رخيصة من قبيل (توجيه الضيوف نحو استنتاجات ومواقف معيّنة ـ تجييش الجمهور المأجور ضدّ طرف معيّن ـ مقاطعة الضيوف وتشنيجهم ـ الاستفزاز والإحراج والسبّ الرّخيص ـ اختلال التّوازن بين الضيوف..) ويبقى التّعتيم الإعلامي أقوى سلاح وأحطّ أسلوب لتهميش الأطراف السياسيّة، ودونك ما يحصل لحزب التحرير..
التوظيف المضاد
إنّ الإعلام التونسي قد تجاوز مرحلة التوظيف السّياسي إلى مرحلة التّوظيف المضادّ: فقد انقلبت الأدوار وأصبح الإعلام هو من يوظّف السياسة في وجوده ونشاطه وانتعاشته، بحيث أصبحت الأطراف السياسيّة تؤسّس لنفسها إعلامها الخاصّ الناطق باسمها والمروّج لخطّها الفكري والسياسي، وأصبح الإعلاميّون جاهزين للتوظيف ابتداءً باعتباره جوهر وظيفتهم ومهمّتهم الإعلاميّة وما على الأطراف السياسيّة إلاّ أن تنتقي لنفسها من (بالة الفريب) الإعلاميّة ما يحلو لها من (قريملّة) الإعلاميّين وتسخيرهم لأجندتها السياسيّة قبل أن ينتقلوا إلى حضن سياسي آخر وينقلب خطابهم 180 درجة.. هذا المشهد المقزّز تجسّد بجلاء إبّان الانتخابات الأخيرة بحيث يمكن تحديد الخطّ السياسي لكلّ وسيلة إعلام بيسر وسهولة: فنبيل القروي استنجد بقناته (نسمة) وكذلك فعل سعيد الجزيري (إذاعة القرآن الكريم)، وفيما ساندت (التاسعة) يوسف الشاهد انحازت (الحوار التونسي) إلى الزبيدي بينما تبنّت (حنّبعل) مرشّحي التيّار الديمقراطي وساندت بعض الأطراف الفرنسية (عيش تونسي خاصّةً).. أمّا حركة النّهضة فقد خصّت نفسها بطاقم إعلامي كامل (قناة الزيتونة ـ M.Tunisia ـ جريدة الرّأي العامّ و 24/24 ـ موقع الصّدى).. وقد تابعنا على هذه الفضاءات (الحرّة والمستقلّة والمحايدة والموضوعيّة) آيات من المحاباة والانحياز المفضوح في حوارات (وان مان شو) ساد فيها التّلقين والتّوجيه والمجاملات (مريم بالقاضي مع الزبيدي ثمّ مع القروي) وحوارات في التماس مع الصّمت الانتخابي بين العاشرة ومنتصف اللّيل في نيّة واضحة مبيّتة للتوجيه على غرار حوار سمير الوافي مع الشاهد (التاسعة) وسامي الفهري مع الزبيدي (الحوار)، هذا فضلاً عن البلاتوهات الهستيريّة في قناة (تونسنا) المتخصّصة في سبّ الإخوان ودعم الدولة العميقة ومرشّحها الزبيدي والترويج لأجندات الأنظمة العربيّة الرّجعية المروّجة للثورة المضادّة على غرار مصر والسعوديّة والإمارات وليبيا حفتر..
لوبيات ضغط
كما تابعنا أيضًا آيات من السبّ الرّخيص للخصوم السياسيّين بل وللشعب التونسي نفسه الذي خيّب آمالهم وسفّه انتظاراتهم ودونكم هذه العيّنات المقزّزة: بوغلاّب (الله لا تكوّن فيكم ـ لا يجعلو باش تكلّم) مايا القصوري (ناخبو النهضة قطيع وعلالش) بوبكّر بن عكاشة (إرادة الشعب غير مقدّسة ـ الشعب التونسي ينجّم يغلط) لعماري (الشعب انتخب شخصًا فاشلاً ـ داعمو قيس سعيّد متطرّفون ـ هذه ليست إرادة الشّعب بل إرادة الأتباع).. هذا الخطاب المنحطّ أدّى إلى مقاطعة شعبيّة لقناة (الحوار التونسي), وقد تقدّمت الأستاذة حنان الخميري بعريضة مقاضاة لتلك القناة من أجل نشر أخبار زائفة من شأنها المسّ من الأمن العامّ وحمل السكّان على مهاجمة بعضهم البعض.. ويبقى موقف الإعلام التونسي من تصريحات النقيب زياد فرج الله حول مخازن الأسلحة بالوردانين وتورّط أطراف من الدّولة العميقة في افتعال الإرهاب أبرز دليل على توظيفه وعدم مصداقيّته وانبتاته عن مشاغل الشعب وقضاياه: فقد استهلك تلك المعلومات الخطيرة وميّعها وهمّشها وانبرى يروّج لافتراءات السّلطة والمؤسّسة الأمنيّة (إشاعات ـ أوهام ـ مريض نفسي ـ لم ينتم إلى فرقة مكافحة الإرهاب ولا إلى الوحدات المختصّة ـ انتداب فاشل)…
إنّ ما يحصل في وسائل إعلامنا هذه الأيّام لا يصنّف ضمن أيّ نمط من الأنماط الصحفيّة (حوار ـ بورتريه ـ ديبا ـ تحقيق ـ تقرير ـ روبورتاج ـ استقصاء..) فهو أقرب إلى عمل اللّوبيّات وجماعات الضغط منه إلى الصّحافة والإعلام، ودونك قناة الحوار التونسي فهي نموذج للتضليل وصناعة الرّأي العام: فبلاتو (تونس اليوم) يتكوّن من ميسّرة (Modératrice) مريم بالقاضي وهي ليست منشّطة ولا مقدّمة برامج.. ومن ثلاثة محامين (مايا ـ شكيب ـ سنية الدّهماني) ومروّج أخبار ((Propagandiste لطفي العماري ومستثمر في صناعة الرّأي (حسن الزرقوني).. وتتمثّل وظيفة الجميع في الانتصار لفكرة أو طرف عبر شيطنة نقيضه ودفع المتلقّي إلى تبنّيه، وهذا بالضبط عمل اللّوبيات وجماعات الضغط ولا علاقة له بالصحافة والإعلام..