الدولة المدنية: تبعية حضارية وارتهان سياسي واقتصادي

الدولة المدنية: تبعية حضارية وارتهان سياسي واقتصادي

بعد تغييب الإسلام عن الحياة السياسية لصالح المشروع الغربي الديمقراطي وانشغال الطبقة السياسية وحاكم القصبة الجديد بمشاورات تشكيل الحكومة لتركيز مشروع الدولة المدنية الديمقراطية، سجل الغرب نقطة جديدة في صراع الحضارات، بعدما نجح في جعل أفكاره وأنظمته فوق النقد والمحاسبة واعتبارها أفكارا كونية مقدسة لا تخضع للمساءلة، جاعلا من إرادة الناس في التغيير لا تتجاوز أشخاص الحكم، مع بقاء المنظومة ثابتة، لا تتغير ولا تتبدل.

هذا النجاح في صراع الحضارات هيأ المناخ المناسب للغرب لفرض أجنداته السياسية والاقتصادية، فالتشريعات والاتفاقيات الدولية التي من خلالها يفرض السيطرة والنفوذ لم تتغير ولم تتبدل، بالإضافة إلى كون معظم الطبقة السياسية خاضعة خانعة جبانة، لا تحسن إلا التفاوض من أجل تحسين شروط التبعية والعبودية.

ففي أقل من شهرين وفي جو مفعم بإحساس الناس بقدرتهم على التغيير وفرض الخيارات، تتوالى التوصيات والرسائل والتهديدات من الدوائر الغربية.

صندوق النقد الدولي وفرض السياسات الاقتصادية

فإثر الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، زار وفد صندوق النقد الدولي تونس من 8 إلى 11 أكتوبر 2019، لمناقشة الميزانية المقترحة من الحكومة والوقوف على مدى التزام تونس بالإصلاحات الكبرى، التي من بينها الرفع التدريجي لدعم المحروقات في إطار “التعديل الآلي” للأسعار المتفق بشأنها بين الحكومة والصندوق منذ إبرام اتفاق القرض الممدد سنة 2016، حتى وصلت نسبة الزيادة 24 بالمائة وتنذر بنسبة مماثلة سنة 2020. هذا عدا إيقاف الانتدابات وتسريح الموظفين, وفتح حسابات الثروات المحلية أمام مختلف المؤسسات الاستعمارية التي دأبت على تقنين نهبها ومنعها عن الشعب.

منظمة العفو الدولية واتفاقية سيداو

وبمجرد أن وضعت الانتخابات التشريعية أوزارها أرسلت منظمة العفو الدولية لائحة لما يجب أن يصادق عليه المجلس النيابي الجديد قبل أن تطأ أقدام أعضائه المنتخبين قصر باردو، وإمعانا في الإستهتار بالشعب التونسي وبعقيدته الإسلامية يؤكد هذا المقتحم على ضرورة المصادقة على المساواة في الميراث، تنفيذا لاتفاقية سيداو التي وقعها السبسي وأمر الاتحاد الأوروبي بتنفيذها.

صندوق الأمم المتحدة للسكان والتربية الجنسية

ثم لا تلبث المديرة التنفيذية للجمعية التونسية للصحة الإنجابية أرزاق خنيتش إدراج التربية الجنسية في مناهج التعليم وتحديدا من السنة التحضيرية (5 سنوات) بداية من ديسمبر 2019، وذلك في إطار التزام الدولة المدنية في تونس بجملة من الاتفاقيات الدولية والأوروبية لسلخ الهوية الإسلامية للشعب التونسي وإدماجه في طريقة العيش الغربية، حيث أوضحت المديرة خنيتش أن هذه البادرة تندرج في إطار الشراكة مع صندوق الأمم المتحدة للسكان والمعهد العربي لحقوق الإنسان.

الاتحاد الأوروبي وشعار “الغذاء مقابل الخضوع“

ومنذ يومين أكّد باتريس برغاميني, سفير الاتحاد الأوروبي بتونس لإذاعة اكسبرس اف ام، “أن الاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية العالمية يعملون على إنجاح التجربة الديمقراطية التونسية حتى تكون نموذجا في المنطقة“، حتى لا تنجرف الشعوب الأخرى في خيارات تجعل المنطقة خارجة عن السيطرة، ثم أضاف قائلا: “تونس اختارت أوروبا، واختارت الديمقراطية، لأسباب مشتركة منها التاريخ المشترك والجغرافيا، بالإضافة إلى الاحتفال بين الشريكين العام القادم بـ 25 سنة من العلاقة بينهما، وإذا ظلّت التوجهات للحكومة القادمة الجديدة كما هي، فنحن هنا وندعم كلّ ما من شأنه أن يحقق الأهداف التي قامت لأجلها الثورة.. “

ثم أضاف بكلّ وقاحة وتحت شعار “الغذاء مقابل الخضوع“ “لكن إن قالت الحكومة الجديدة: سننظر في شريك آخر، مثل الصين أو آسيا.. فهي حرة في ذلك، وهذا من حقها.. لكن الاتحاد الأوروبي وقتها لن يقدّم 10 مليار أورو مثلما كان”، وصدق من قال ومن يهن يسهل الهوان عليه.

صولة السفراء الأجانب

وإمعانا في انتهاك سيادة البلاد أمام أعين من يتهافتون على الوزارات، يرتع السفراء الأجانب في تونس دون أن يقدر أحد بما فيهم رئيس الدولة الجديد أن يمنعهم، أو يلزمهم بالأعراف الدبلوماسية التي تحصر علاقة السفير بالجهات الرسمية، أو حتى يقول لهم كفى تدخلا في شؤوننا.

فهذه سفيرة بريطانيا تتنقل بين البلديات والوزارات بشكل يومي، أما السفير الأمريكي فلم تسلم من زياراته حتى الجامعات والإطارات العلمية، ولا يفوتنا في هذا المقام أن نذكر السفير الفرنسي الذي يصول ويجول في طول البلاد وعرضها، والغريب في الأمر أن زياراتهم تحظى بتغطية إعلامية وبحفاوة من طرف الجهات الرسمية.. إقرارا من سلطة البلاد بأنهم حكامها الفعليون ولهم عليها الأمر والنهي..

دولة مدنية خاضعة خانعة أم خلافة عز ورُشد

يبدو أن الغرب أصبح اليوم أكثر جرأة وأكثر إصرارا على تطبيق إملاءات المؤسسات المالية العالمية وتمرير كل المشاريع المنقلبة على أهداف الثورة والتحرر من ربقة الاستعمار، وقد ساعدهم في ذلك إقصاء الإسلام عن الحياة السياسية وتركيز الدولة المدنية العلمانية وتشريعاتها، من هنا تبرز أهمية أن يتسلح أهلنا في تونس بمشروع حضاري تحرري نابع من عقيدتهم الإسلامية، إذ لا تحرر للمسلمين إلا بخلافة راشدة على منهاج النبوة.

قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين﴾. (109)

د. الأسعد العجيلي, رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير – تونس

CATEGORIES
TAGS
Share This