مسار (إصلاح) التعليم في تونس: من العلمنة إلى الإباحيّة

مسار (إصلاح) التعليم في تونس: من العلمنة إلى الإباحيّة

في خطوة وقِحة صفيقة موغلة في الجراءة على الله ورسوله أدرجت وزارة التربية التّونسيّة مادّة (التربية الجنسيّة) في مناهج التعليم انطلاقا من ديسمبر 2019 بدءا من السّنة التحضيريّة.. الهدف المعلن من هذه المبادرة هو (التوعية والتحسيس وتصحيح المفاهيم واكتساب المهارات والحماية من التحرّش الجنسي..) وما إلى ذلك من العناوين البرّاقة الخادعة التي سيُمَرَّر في دسمها السمّ الاستعماريّ الزّعاف المستهدف لناشئة المسلمين: فقد جاءت هذه المبادرة خضوعا لضغوطات صندوق الأمم المتّحدة للسكّان وهو ذراع استعماريّة طولى فتّاكة على غرار مجلس حقوق الإنسان وصندوق النقد الدّولي اللذَيْن كانا وراء قاذورات تقرير لجنة الحريّات الفرديّة والمساواة لسنة 2018 (المساواة في الميراث ـ زواج المسلمة من كافر ـ المثليّة الجنسيّة ـ إلغاء القوامة والعدّة والمهر وعقوبة الإعدام..)..

وممّا يدعو فعلا إلى الاشمئزاز والتقزّز أنّ تونس التي تتصدّر المراتب الأولى عربيّا في الطّلاق والعنوسة والزّنا والإجهاض والعنف بين الأزواج واستهلاك الخمر والمخدّرات، أصرّت (إلحاحا) على الرّيادة العربيّة والإسلاميّة في تدريس هذه المادّة المسمومة رغم أنّ المحافظين في بريطانيا حظروها صونا لناشئتهم.. وللمفارقة فإنّ الذي تولّى كبر إثارة هذه المبادرة والتّرويج لها هي حركة النهضة بما تدّعيه من مرجعيّة إسلاميّة حيث تقدّمت النّائبة (يمينة الزّغلامي) بالاقتراح منذ جانفي 2018 ،كما ولم ينبس رئيسنا (النّاسك المتبتّل) ببنت شفة إزاء هذه الجريمة البشعة ناهيك وأنّه تعهّد باحترام الدّستور الذي ينصّ صراحة على حريّة الضمير وعلى وجوب التقيّد بالاتفاقيّات الدوليّة بما فيها اتفاقيّة (سيداو) التي تؤسّس للشذوذ والدّعارة والجندريّة وانخرام الأجناس..

إصلاح أم إفساد..؟؟

أمّا الأغرب والأوقح من هذا وذاك فهو السّياق الذي أدرِجت ضمنه هذه المبادرة اللاّ أخلاقيّة الهدّامة بامتياز ألا وهو (الإصلاح والتحديث والتطوير والترشيد) للمنظومة التربويّة وللفعل التربوي ،هذا الجحر الذي لطالما لدِغنا منه نحن المسلمين ومازلنا.. وإذ أفضى هذا المسار (الإصلاحي) إلى التعليم الإباحي فحسبنا فيما يلي أن نقف عند محطّاته الكبرى وأن نفهم التحوّلات النوعيّة التي تشقّها في علاقتها بالمشاريع الاستعماريّة..وإنّ المتتبّع لسيرورة التّجارب الإصلاحيّة المستهدِفة للتّعليم في تونس منذ الاستقلال إلى اليوم يكتشف دون عناء أنّ لفظ (إصلاح) أضحى مصطلحا له مفهوم سياسي ولا يفيد بالضرورة المعنى اللّغوي الموضوع له. إذ وُظِّفت شحنته اللّغويّة الإيجابيّة كرداء شفّاف لتبييض مخطّطات الكافر المستعمر ضدّ هويّة البلاد ومقدّراتها وانتمائها الثّقافي والحضاري : فقد فشلت فرنسا الاستعماريّة طيلة قرن إلاّ ربع في القضاء على التّعليم الزّيتوني الإسلامي، وقُصارى ما قدرت عليه هو إرساء تعليم علماني موازٍ له..بعد مسرحيّة الاستقلال أخذ المقبور بورقيبة المشعل عن أحفاد موليير مثقلاً بفرنكفونيّته وعدائه المبدئي للإسلام وللثّقافة الإسلاميّة، فكانت ضربة البداية في مسار المحاربة والاستهداف الممنهج مع (إصلاحات) محمود المسعدي على امتداد عقد كامل (1958/1968) وقد تحقّق من خلالها حلم فرنسا: فقُضي على التّعليم الزّيتوني وشُرّد (الزّواتنة) وفُرض التّعليم العلماني سنة 1991 ـ وبعد جيل كامل من التّصحير والعلمنة ـ اتّضح للكافر المستعمر وأذنابه أنّ إجراءات المسعدي لم تُفلح في كتم النفس الإسلامي في النّاشئة: فالجيل الذي أنتجته مازال ينبض عقيدة وشريعة لاسيّما مع تنامي ظاهرة “الإسلام السياسيّ” واستقطابها للشّباب.. لذلك جيء بسيِّئ الذّكر محمّد الشّرفي مُشبعًا بأحقاده الإيديولوجيّة الدّفينة وعدائه الماركسي اللّينيني المقيت للدّين لتجفيف منابع الخيريّة في هذا الشعب وتنقية المنظومة التّربوية التّونسية من رواسب ما يمتّ لرائحة الإسلام بصلة من قريب أو بعيد مُتستّرًا بالشّعار المسموم (من الهويّة الوطنية إلى الهويّة الكونية)…

مدرسة المواطنة

في الأثناء ونزولاً عند إملاءات صندوق النّقد الدولي، أدلى منصّر الرّويسي بدلوه في (الإصلاح/الإفساد)، فأعاد سنة 2002 النّظر في التّوجيه المدرسي نحو مُلاءمته مع متطلّبات سوق الشّغل مكرِّسا بذلك النّجاح الآلي وتدنّي التكوين والقيمة العلميّة وإغراق السّوق بآلاف العاطلين من حملة الشّهائد الجوفاء سنة 2015 وبعد جيل كامل أيضا من تطبيق (إصلاحات محمد الشرفي) تبيّن مجدّدا للمستعمر أنّ سياسة القبضة الحديديّة لم تؤت أكلها بل انقلبت إلى الضدّ فأجّجت نار الإسلام السياسيّ والظّاهرة الجهاديّة وأثمرت قنابل موقوتة سلفيّة داعشيّة لم تكتف بطرد الطّاغية بن علي فحسب بل أثّثت جبهات قتال الرّبيع العربي ممّا دقّ ناقوس الخطر بشكل جدّي.. فجيء بالنّاجي جلول الذي تبنّى (إصلاحا حداثيّا يُرسِّخ التلميذ في بيئته الوطنيّة) عبر مدرسة المواطنة والتّلميذ السّعيد والإسلام التونسيّ قطعًا للطّريق أمام الدّعشنة والتطرّف حسب زعمه.. وقد اعتمد (المنهجيّة التّشاركية) التي أفضت إلى الاستشارة الوطنية للإصلاح التّربوي، وهي مجرّد مناورة لامتصاص غضب الشّارع من الحالة المزرية للمؤسّسة التربويّة، وإيهام التونسيّين بأنّهم يشاركون في تصوّر الحلول ووضع المعالجات من أجل تعويم الجريمة التي ستتمخّض عنها ثمّ إكسابها الشّرعية كونها تعبّر نظريًّا عن إرادة الشّعب ورغبته.. كما استعان بالمعهد العربي لحقوق الإنسان في إرساء تصوّر لمدرسة المواطنة قائم على مجموعة من القيم الكونيّة الكولونياليّة من قبيل (حقوق الإنسان ـ التّعددية ـ نبذ العنف والإقصاء ـ الحقّ في الاختلاف ـ الحسّ المدني ـ المواطنة الفاعلة ـ العمل ـ الحرّية ـ المساواة ـ الولاء لتونس..) بما يؤسّس لشخصيّة هُلاميّة افتراضيّة تجري في عروقها مياه صالحة للشراب لا لون لها ولا طعم ولا رائحة..أمّا معالم الإسلام التونسيّ في تصوّر (سي النّاجي) فهو الإسلام الطّرقي الكهنوتيّ المستكين المنزوع المخالب ،إسلام التصوّف الشعبي والخوارق والكرامات الكاذبة، إسلام المجامر والمباخر و(سلاّك الواحلين) وهذا هو جوهر المشروع الاستعماري المستهدف لناشئة المسلمين…

أزمة التعلّم

لكن لسائل أن يسأل: إذا كان (إصلاح جلّول) بمواصفاته الكونيّة المصوغة بأعين المعهد العربي لحقوق الإنسان ووحي الكافر المستعمر قد حاز الرضا والقبول محليًّا ودوليًّا، فما الذي جعل البنك الدّولي في تقريره عن التنمية في العالم لسنة 2018 يطلق صيحة فزع ويحذّر من (أزمة في التعلُّم بقطاع التّعليم على مستوى العالم) ويعقد المحاضرات والنّدوات والموائد المستديرة في تونس حاثًّا على إصلاح التّعليم مجدّدًا بل ويقدّم الهبات السخيّة لتمويل حملة الإصلاح.؟؟

ممّا لا شكّ فيه أن ما نُسب إلى النّاجي جلّول يحقّق ـ نظريّا ـ أقصى ما يمكن أن يطمح إليه المستعمر في بلاد الإسلام والمسلمين: فالأزمة لا تكمن في (التعليم) الذي دُجّن وأُفرغ من محتواه وأُقصِي عن الإسلام بل أضحى أداة لتشويه الإسلام ومحاربته، ولكنّ الأزمة الحقيقيّة تكمن في (التعلّم) أي إتقان المهارات المطلوبة استعماريّا والاتّصاف بالمواصفات المحدّدة واكتساب العقليّة والنّفسية التي يروم الكافر المستعمر أن يُقولب شخصيّة المسلمين بحسبها، وقد عبّر (بول رومر) رئيس الخبراء الاقتصاديّين بالبنك الدّولي عن ذلك بقوله (إن الالتحاق بالمدارس لا يعني حتمًا التّعلم، وبدون تعلّم سيفشل التّعليم في الوفاء بالوعد المنتظر منه).. فالإشكالية ليست في التّنظير، فما يُخطّط له لحرف المسلمين عن دينهم لِتزولَ منه الجبال، ولكن الإشكال في التّنفيذ والتطبيق والإنجاز الذي يبدو أنّه يشكو من البطء والانحسار وفقدان النّجاعة والإنتاجيّة وقلّة الضبط وضعف التّمويل.. لذلك وتصوُّرًا منه لمخرج من هذه الأزمة المركّبة، قدّم تقرير البنك الدّولي للتنمية في العالم ثلاث توصيات: أوّلاً (تكريس النّاحية التطبيقيّة في التعلّم عبر المتابعة الميدانيّة اللّصيقة) دعمًا للنّجاعة والفاعليّة.. ثانيا (تقييم مستوى التعلّم بحيث يُصبح هدفًا قابلاً للقياس) درءًا للاستنتاجات المغلوطة المُظلِّلة.. ثالثا (جعل المدارس تعمل لصالح جميع الأطفال) تعميمًا للفائدة وتوسيعًا لمجال الاستهداف.. في هذا الإطار بالذّات تتنزّل مبادرة تدريس (التربية الجنسيّة)…

المدرسة (الإباحيّة)

وبما أنّ آخر الطبّ الكيّ، كان لا بدّ من لمسة (إباحيّة) على مشروع جلّول لإصلاح التّعليم تجعله ينطق (بالفلاّقي) ويستهدف بأسلوب سوقي (خلائقي ماخوري) أدنى غرائز التّلميذ. فهذا التّلميذ الذي استعصى على القيم الغربيّة الدّيمقراطيّة التي تخاطب عقله لتخرجه بأسلوب راقٍ ناعم من هويّته الإسلاميّة، لا بدّ من مخاطبة غرائزه الحيوانيّة بلغة تقفز على العقائد لاسيما في مرحلتي الطّفولة والصّبى.. فإزاء الفشل الذّريع في صياغة شخصيّات على النّمط الغربي تفكيرًا وسلوكًا، لا بأس ولا مفرّ من تركيز كائنات منحلّة مائعة مهووسة جنسيًّا ميّالة إلى الشّذوذ والدّعارة خلايا ميّتة في المجتمع سهلة الانقياد للمشاريع الاستعماريّة، المهمّ ألاّ تكون شخصيّات إسلاميّة ولو في نسختها التّقليديّة المكتفية (بالسميغ) العقائدي المتوارث.. فالغرض من تدريس مادّة التّربية الجنسيّة هو إيجاد الأرضيّة الماديّة والنّفسية لتحقيق هذا الهدف الاستعماري: تفتيت رواسب الحياء وكسر الحواجز البسيكولوجيّة التي تَحول دون الخوض في المسائل الجنسيّة بما يؤدّي إلى إيجاد رأي عام حولها في صفوف النّاشئة القُصّر من أجل إشاعة الفاحشة بينهم ونشر الرّذيلة والفسق والفجور وتقويض مجتمع الطّهر والعفاف..

هناك نيّة استعماريّة خبيثة مبيّتة لاستهداف جيلٍ بأكمله ابتداءً من السّنة التّحضيرية (05 سنوات) إلى حدود البكّالوريا مع تطوّر المواضيع المطروحة والأساليب المعتمدة بتقدّم المستويات والأعمار (الجسد ـ العلاقات الجنسيّة ـ الإجهاض ـ وسائل منع الحمل ـ المثليّة الجنسيّة ـ الجندريّة…) وصولاً إلى ما هو أفضع وأكثر إيغالا في الإفساد..

تعلاّت واهية

هذه هي مواصفات (التّلميذ السّعيد) خرّيج (مدرسة المواطنة) التي ينظّر لها (سي النّاجي): خمر ومخدّرات وميوعة وفجور ودعارة ودروشة وتبشير وإجرام وعبدة شيطان وما خفي كان أعظم.. أمّا التعلاّت الواهية المعتمدة للتضليل فلا تصمُد أمام الحقائق العلميّة والنّصوص الشرعية: فقد حذّر كبار المختصّين في سيكوليجية الأطفال من تعليم الجنس للقصّر والمراهقين لأنّ ذلك تطفّلٌ صادمٌ على خصوصيّتهم يعرّض نموّهم العاطفي للخطر ويؤدّي إلى تكوين شخصيّات غير سويّة عدائيّة وميّالة إلى العنف والانطواء.. فالحديث عن الجنس مسألة خاصّة بامتياز ولا يُخاطبُ بها الإنسان إلاّ عندما تدفعه غريزته ذاتيًّا إلى ذلك في مرحلة البلوغ والنّضج الجنسي، أمّا التّزويد المبكّر للطفل بالمعلومات الجنسيّة فمخاطرة غير مأمونة العواقب تفصل الجنس عن السّيرورة الطّبيعيّة للحياة العاطفيّة وتجعل من الطّفل أرضيّةً خصبة للشذوذ والدّعارة..

أمّا شرعًا فمن المعلوم من الدّين بالضّرورة أنّ الله تعالى قد نزّه الأطفال طبيعيًّا وجبليًّا عن معرفة المسائل الجنسيّة أو اكتشاف عوالمها: قال جلّ وعلا (أو الطّفل الذين لم يظهروا على عورات النّساء) وقد ورد في تفسير القرطبي (يقال ظهرت على كذا أي علمته واكتشفتهُ).. ومكمن الخطورة أنّ الله سبحانه قد رتّب على ذلك أحكامًا شرعيّة، إذ يجوز للمرأة أن تبدي زينتها للأطفال ويحقّ للأطفال أن يدخلوا على النّساء في ثياب البذلة وأن ينظروا إلى محلّ زينتهن لأنّ ذلك لا يثير فيهم شهوة جنسيّة.. أمّا إذا ما اكتشفوا تلك العوالم فإنّ تلك الغريزة تثار فيهم قبل أوانها ويصبحوا في مقام البالغين بما يؤدّي إلى انخرام المنظومة الاجتماعيّة الإسلاميّة..

 أبو ذرّ التونسيّ (بسّام فرحات)

CATEGORIES
TAGS
Share This