حكومة الجملي: مخاض عسير لمولود ميّت (الجزء الأول)
وسام الأطرش
منذ تكليفه رسميا من قبل رئيس الدولة يوم 15 نوفمبر الماضي على إثر اختياره من حزب حركة النهضة باعتباره حزبا أغلبيا، بدأ السيد “الحبيب الجملي” مشوار تشكيل حكومته الواسعة، على وقع مسلسل من التجاذبات السياسية داخل البرلمان، وتزامنا مع إقرار ميزانية 2020.
وحيث يُرجّح بعض الحالمينويؤكد بعض المضللين، أن هذه الحكومة يمكن أن تختلف عن سابقاتها شكلا ومضمونا، على اعتبار وجود قوى “ثورية” داخل البرلمان، أو استنادا إلى معطى وصول الأستاذ قيس سعيد إلى رئاسة الدولة، بما يمكن أن يشكل حزاما سياسيا قويا أمام الثورة المضادة، على أساس أن الثورة تم تعليبها واحتكارها من قبل اللاعبين الديمقراطيين الجدد، نيابة عن الشعب المنتفض إلى اليوم، كان لا بد من وضع النقاط على الحروف بشيء من المصارحة والمكاشفة، حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، بل حتى لا يلدغ المسلمون في تونس من جحر واحد مرّتين.
ما قبل تشكيل الحكومة
بداية، لا يفوتنا التذكير بأن قبول جنرالات الجزائر (ومن وراءهم مسؤولون كبار في القارة العجوز) بوصول الأستاذ قيس سعيد إلى سدة الحكم بصلاحيات محدودة، بعد تأكد معطى اصطفاف 600 ألف ناخب خلفه من الدور الأول، قد حصل في ظروف استثنائية يُدفع فيها الشعب الجزائري المنتفض طيلة أشهر إلى انتخاب واجهة مدنية جديدة للحكم العسكري الجاثم على صدر بلد المليون شهيد. ولذلك فإن مطلب إحياء جثة الديمقراطية الهامدة وتجديد إيمان الشعوب بنتائج الصندوق في عصر الثورات، فضلا عن عوامل إقليمية ودولية أخرى ليس هنا موضع بحثها، تجعل فرضية إجهاض عملية وصوله إلى قصر قرطاج أمرا مستحيلا أمام حالة التنبّه الشعبي في كلى البلدين، وعليه كانت مدة الشهر الفاصلة بين الدورتين الانتخابيتين كافية لجعل المشاركين في العملية الانتخابية في تونس (وهم أقل من نصف المسجلين رسميا) مقتنعين أن اختيارهم لأستاذ القانون الدستوري على حساب عميل متصهين قدم من السجن للمشاركة في السباق الرئاسي، كان بمحض إرادتهم وأن المناظرة التلفزيةلم تدفعهملذلك بعد حصرهم في تلك الثنائية المحسومة نتيجتها سلفا. العجيب في الأمر أن سحر الإعلام وضخه المتواصل، جعل بعض المقاطعين للانتخابات يقتنعون بأن خيارهم كان قيس سعيد أيضا.
رمزية الطّهر من الفساد لشخصية قيس سعيد، تبدو مهمّة لتونس والجزائر وربما كامل الشمال الإفريقي، لأنها قد تؤخر خروج المارد من القمقم، وتغض بصر المحافظين الجدد في كلى البلدين عن أكبر أنبوب غاز يمر إلى أوروبا عبر تونس وعن عائداته الضخمة، ويشغلهم بما أسماه يوسف الشاهد “الإصلاحات الاقتصادية الكبرى” التي تنتظرهم، وعليه أصبح رموز نظام بوتفليقة أصدقاء أوفياء لثورة تونس ورئيسها الثوري قيس سعيد، أما عُربون الصداقة فهو اعتراف تونسي وعلى الملأ بشرعية مسرحية الانتخابات التي أوصلت رئيس الحكومة السابق عبد المجيد تبون إلى سدة الحكم، وإن رفض إخراجها السيء 40 مليون جزائري.
ظروف تشكيل الحكومة
لعل أهم ما جاء في كلام “الحبيب الجملي” إثر لقائه بالرئيس قيس سعيد في قصر قرطاج، هو القول بأنه سيعمل على إعداد برنامج حكم مشترك بالتنسيق مع كل الأحزاب المتعاونة وبدون تحفظ على أي حزب يرغب في خدمة تونس، معتمدا في ذلك مقياس الكفاءة والنزاهة.
بهذه المغالطات التي يُستشف منها أن الفساد صار أمرا واقعا له تمثيلية برلمانية وجزء لا يتجزأ من النظام، انطلق الجملي في مشوار التشاور حول برنامجه الحكومي ثم حول الشخصيات والكفاءات المؤهلة لتطبيق هذا البرنامج، حتى لا يكاد السامع يظن أنه ظل طيلة الفترة السابقة عاكفا على صياغة برنامج عمل الحكومة للفترة القادمة، مع أن تسريب وثيقة “حكومة الإنجاز” في وقت لاحق كان كافيا للتأكد من كونها نسخة مطابقة للأصل من “مشروع وثيقة تعاقد للحكومة” الذي كانت قد أعلنته عنه حركة النهضة مطلع شهر نوفمبر.
وقبل الحديث عن فحوى برنامج حركة النهضة، التي يُراد لها أن تلعب الدور الأساسي في الحياة السياسية للخمس سنوات القادمة، كأول اختبار حقيقي لها في قدرتها على تشريع القوانين الناظمة للحياة السياسية وضبط إيقاع المشهد السياسي برمّته، لا بد من التذكير بالخطوط العريضة التالية، كمقدمات تسبق وضع قطار الحكومة القادمة على سكة التجاذبات الدولية:
أولا:صرّح سفير الاتحاد الأوروبي بتونس “باتريس برغاميني” يوم 21 أكتوبر 2019 أن تونس تحصلت منذ الثورة على قرابة 10 مليار يورو من البلدان الأوروبية وأن هذا المبلغ ضخم وأن تونس تكاد تكون الاستثناء الوحيد الذي تحصل على مساعدات أكثر من الوعود التي قدمت له. مضيفا أن بلدان الاتحاد الأوروبي ترغب في نجاح تونس وتريد مساعدتها لكن على التونسيين أن يختاروا طريقهم ويحددوا الخيارات الضرورية لإنقاذ بلدهم، ومذكرا إياهم أن خياراتهم الاقتصادية والمالية لتونس بعد الثورة ساهمت في مزيد تدهور الوضع الاقتصادي، وأن عليهم أن يحسموا في اتفاقية الأليكا.
ثانيا:طالب البنك الدولي رسميا يوم 3 ديسمبر 2019 وعلى لسان ممثله القار بتونس “طوني فارهايجن”إجراء عملية تدقيق مفصل ومعمق حول مآل القروض التي تحصلت عليها تونس منذ سنة 2011، من البنك الدولي والتي قدرها البنك، بحوالي 15 ألف مليار أي ما يعادل حوالي 5 مليارات دولار، مؤكدا على ضروة اندماج الحكومة القادمة في الاقتصاد العالمي، مشيرًا بشكل مهين إلى أن علاقة البنك بتونس غير عادية باعتبار أن حجم التمويلات التي وضعها البنك لفائدة تونس على امتداد السنوات الثماني الماضية فاقت ما يسند عادة الى بلد في حجمها من الناحية الاقتصادية.
ثالثا: هدد ممثل صندوق النقد الدولي بتونس “جيروم فاشير”يوم 18 ديسمبر 2019 عبر حواره على موقع “البورصة” بتعليق صرف الصندوق لمبلغ 1.2 مليار دولار لتونس ضمن الدفعتين السادسة والسابعة من القرض، وذلك نتيجة لعدم إحراز تقدم في تنفيذ برنامج الإصلاحات الاقتصادية والمالية التي تعهدت بها تونس إزاء الصندوق، وحيال ذلك أوضح مدير البنك المركزي مروان العباسي أنه على موعد مع استقبال وفد من الصندوق فور تشكيل الحكومة القادمة لمناقشة النقاط العالقة، والمرتبطة أساسا بالصناديق الاجتماعية ومنظومة التقاعد التي تعاني بدورها أزمة في تمويلها وبالتقليص من عدد موظفي الوظيفة العمومية وبالتوقف عن الزيادة في أجورهم وبتعديل منظومة الدعم عبر التوقف عن تدخل الدولةوتكفلها بالكثير من المواد الأساسية وبالتفويت في الكثير من المؤسسات العمومية باعتبارها باتت تمثل عبئا على ميزانية الدولة ولكونها مؤسسات خاسرة.
رابعا: أبرمت تونس يوم 4 أكتوبر 2019 (في ظل انشغال داخلي بالانتخابات الرئاسية) اتفاقية مع المملكة المتحدة، بلندن، تضمن “استمرارية العلاقات السياسية والتجارية” بين الطرفين إثر خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي “البريكست”.
وستدخل الاتفاقية، التي وقعها كل من السفير التونسي لدى المملكة المتحدة نبيل بن خضر وسفيرة بريطانيا في تونس لويز دي سوزا، حيز التنفيذ إثر إيقاف العمل بالاتفاقية الموقعة بين تونس والاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة.وتؤكد هذه الاتفاقية، وفق بلاغ أصدرته سفارة بريطانيا في تونس، تواصل التبادل التجاري بين بريطانيا وتونس بعد “البريكست”.
وفي تصريح للمقيمة العامة البريطانية لصحيفة “ليدرز” التونسية يوم 17 ديسمبر 2019، فقد أكدت أن الاتفاقية الممضاة هي ملزمة للجانبين، وهي اتفاقية أولية للخروج من حالة انعدام اليقين حول مستقبل العلاقات بين البلدين إثر الخروج من الاتحاد الأوربي، ثم ناقضت نفسها مباشرة حين عبرت عن أملها في التسريع بتمرير مضمون الاتفاقية وتفاصيلها على البرلمان لتوفير الأرضية التشريعية والقانونية لمستقبل هذه العلاقات. وقد جاء هذا التصريح إثر لقائها يوم الإثنين 16 ديسمبر 2019 بقصر باردو برئيس البرلمان راشد الغنوشي رفقة المبعوث الخاص لقمة الاستثمار البريطانية – الإفريقية 2020.
وهكذا، يبدو واضحا وجليا أن الأطراف الدولية، هي من تتكالب على وضع السياسات وفرض الإملاءات، وما حديث الأحزاب في الداخل عن وجود برامج ورؤى إلا ذر للرماد على العيون، حيث لا فرق بين إسلامي واشتراكي وليبرالي على مستوى البرامج، فجميعهم منصهر في بوتقة الرأسمالية إلى حد الذوبان والتماهي، وما البقاء في الحكم إلا وسيلة للنجاة والإفلات من المحاسبة.
ويبدو أن بريطانيا، الدولة العريقة في استعمار الشعوب ومصّ دمائها، قد سارعت في توقيت مبكر إلى ربط تونس بسياساتها وحبائلها فأوثقت القيود، حيث هيكلت الوزارات وكونت الإطارات ورسمت الخطط والاستراتيجيات وصنعت اللوبيات التي تمرر أجنداتها وسيطرت على الإعلام سيطرة وثيقة، حتى لم تعد صفحات الفايسبوكتنطق إلا برأيها السياسي في كل المسائل وبالإشاعات المغرضة التي تطلقها، وتقنع الجميع باستحالة تواطؤها على الكذب، فلم تعد بذلك تنتظر سوى أن تقطف “ثمار” جهودها في إخضاع تونس لفترة ما بعد “البركسيت”، ما جعل سفير الاتحاد الأوروبي يصرح في صائفة 2019 بأن “لوبي عائلات” في تونس يتحكم في الاقتصاد في حواره مع جريدة “لوموند” الفرنسية، متذمرا من احتكار زيت الزيتون، ومحاولا الولوج إلى تونس من نافذة مكافحة الفساد بعد إحساسه بالمماطلة في ملف الأليكا، ولكن عبثا يحاول مع الإنجليز في تونس، فهم من أشرف على صنع الفسادفي هذا البلد وهم أول المستثمرين في وجوده.
برنامج الحكومة
إن أهم المحاور التي تطرقت إليها الوثيقة المسربة لـ”حكومة الإنجاز” تتمثل أساسا في مكافحة الفساد وتعزيز الأمن وتطوير الحوكمة ومقاومة الفقر ودعم الفئات الهشة ومتوسطة الدخل، وتطوير التعليم والصحة والنهوض بجودة التعليم إلى جانب دفع نسق الاستثمار والنمو والتشغيل واستكمال مؤسسات الدولة وتركيز الحكم المحلي، وهي جميعها نقاط لم يكد يخلو منها برنامج من برامج الحكومات المتعاقبة على تونس منذ انقلاب بن علي سنة 1987 إلى يوم الناس هذا، إذا ما استثنينا نقطة الحكم المحلي.
وعليه، فإن الاستعانة بمنظومة بن علي، والتصالح معها، كفيل لراشد الغنوشي بالمرورإلى بر الأمان الديمقراطي وتركيز الحكم المحلي، وقوفا عند تعهداته أمام المعهد الملكي البريطاني “تشاتهام هاوس” في 20 أفريل 2017 بتحقيق مصالحة شاملة، وتفعيل اللامركزية في الحكم.
حيث ظل يعدد يومها إنجازاته في عهد الترويكا، أبرزها إدخال قانوناستثماري جديد، وإصلاحات مصرفية، وقانون شراكة بين القطاعين العام والخاص، ثم طالب الإنجليز مباشرة دعم تونس عبر الاستثمار فيها.
وعليه، لا يبدو أن الحكومة القادمة ستخرج على هذا الإطار العام: تهيئة أجواء المصالحة الشاملة، وتركيز الحكم المحلي الذي يعتمد نظام الأقاليم ترضية للغرب، حتى يسهل الولوج إلى كل منطقة بعينها دون المرور بالسلطة المركزية، ولعل السفراء قد انطلقوا في ذلك منذ مدة.
وحصيلة المشهد إذن:
-
برلمان هجين، خاضع في غالبيته إلى أوامر المملكة البريطانية بعلم أو بدون علم (عبر خبراء وتقنيين يتوافدون على المجلس)، وعلى رأسها اتفاقية ضمان استمرارية العلاقات، وجمرة “الحكم المحلي” الخبيثة، التي لم تخطر ببال أحد من أبناء هذا الشعب الثائر.
-
حكومة تسير وفق هذا البرنامج لا غير، يقع تطعيمها ببعض الوجوه التي ترضي بقية الدوائر الغربية والمؤسسات المالية المانحة