وجه أميرحزب التحرير العالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشتة خطابا إلى الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس، وإلى حملة الدعوة الأخيار الأبرار، وإلى الضيوف الكرام على صفحاته في وسائل التواصل الإلكتروني، قال فيه: (إن في تاريخ الأمم أياماً مضيئة هي موضع فخر لتلك الأمم فكيف إذا كانت تلك الأيام موقع تحقق بشری رسول الله ﷺ؟ إنها لا شك تكون نجوما تشع في السماء بل شموساً تضيء الدنيا وترفع الأمة إلى عنان السماء… ومن هذه الأيام أيامنا الغراء هذه، أيام ذكرى فتح القسطنطينية).
وقبل أن أشرع في تحليل الخطاب والغوص في معانيه العميقة، ودلالاته الكبيرة، أشير إلى أن المتكلم ليس باحثا تاريخيا، ولا عالما أو خطيبا أو مدرسا، وإن كانت تلك الصفات فيه متأصلة، ولكنه قائد عظيم لمسيرة عظيمة ليس لها نظير في تاريخنا المعاصر، إنه أمير لحزب سياسي مبدؤه الإسلام، يسعى لاستئناف الحياة الإسلامية التي انقطعت منذ قرن من الزمان، وذلك بإقامة دولة الخلافة للمسلمين جميعا في الأرض، لتحكم الناس بشرع الله، وتحمل دعوة الله إلى العالم أجمع بالدعوة والجهاد في سبيل الله.
إنه كلام بليغ صادر عن عالم جليل في ذكرى حدث عظيم، ذلك بأن الحدث الذي خاطبنا الأمير في ذكراه قد ارتبط ارتباطا وثيقا ببشری رسول الله ﷺ، في حديثه الشريف الذي رواه أحمد عن عَبْد اللَّهِ بن عمرو بن العاص قال: بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ نَكْتُبُ إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلاً قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلاً، يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ»، وكذلك فيما رواه أحمد أيضا عن عبد الله بن بشر الخثعمي عن أبيه أنه سمع النبي ﷺ يقول: «لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ».
ونقف مع الخطاب وقفات:
الوقفة الأولى: تفكير الصحابة رضوان الله عليهم في الموقف الدولي والانتصارات والفتوحات، وقد كانوا في دولة صغيرة نسبيا بكل المعايير، ليس لها في الموقف الدولي نصيب، ولم تصطدم عسكريا مع أي من الدول العظمى التي كانت تتسنم هيكل العلاقات الدولية في ذلك الوقت، ولكنه طموح القادة المسلمين الذين يسعون لنشر الإسلام في ربوع العالم هداية ورعاية.
الوقفة الثانية: دور العلماء في صناعة القادة، فكما كان للنبي ﷺ الدور الكبير في صناعة الصحابة والقادة الأفذاذ، فكذلك كان لكل قائد بعده علماء ربانيون يشكلون البطانة الصالحة له، ومن هؤلاء القادة محمد الفاتح الذي اتخذ من العالم الجليل أحمد بن إسماعيل الكوراني والشيخ آق شمس الدين سنقر بطانة صالحة ساهمت في صقل شخصيته.
الوقفة الثالثة: عزم القائد وإصراره على الأخذ بكل الأسباب، عندما بنى الفاتح الحصن لجنوده حتى يقيهم برد الشتاء القارس، وكذلك عندما استقدم المهندس المجري أوربان الذي صنع له المدافع، وابتكاره لفكرة زحلقة السفن على اليابسة خلف خطوط العدو، ما هيأ الجو العسكري الكامل لفتح القسطنطينية بهذا الشكل الاحترافي والمشرف. خلافا لما يحصل مع علمائنا اليوم، إذ فقدوا اتصالهم بأمتهم لعدم وجود رعاية لهم من الحكام، فاستثمرهم الغرب، وبنى تَقدُمه العلمي على أكتافهم.
الوقفة الرابعة: كانت المدة بين الغزو الأول بمشاركة الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري عام 50هـ والفتح عام 857هـ أكثر من ثمانمائة عام، وهي من دلائل النبوة، وهذا يؤكد أن لا عبرة بالزمن أمام العقيدة والوعد والبشرى. وكانت المدة بين الإعداد والفتح أقل من شهرين، ما يشي بتوفيق الله سبحانه وتعالى، وتنزل نصره على عباده المؤمنين، قال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَاد﴾.
الوقفة الخامسة: السجود لله شكرا عندما يتحقق النصر، إقرارا لله بالعبودية، وأنه رب الأرباب ومسبب الأسباب، بِهِ ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم﴾، وليس كما يفعل بعض المهووسين اليوم عندما يحققون انتصارات موهومة في ملاعب الرياضة أو غيرها، فيطلقون الصافرات، ويشعلون المفرقعات، ويقومون بالاستعراضات، ويؤدون الرقصات كالبلهاء الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
الوقفة السادسة: شيوع مفردات فقه الاستخلاف وجهاد الطلب في عصور المسلمين المتعاقبة أيام الدولة الإسلامية بدءا بالنبوة، ومرورا بالخلافة الراشدة الأولى، ووصولا إلى نهاية الملك العاض، في حين شاعت مفردات فقه الاستضعاف بعد هدم الخلافة العثمانية، وصار المسلمون يبحثون في جهاد الدفع والمقاومة، ثم ما أُطلق عليه زورا سلام الشجعان، وفقه حمل الحرائر من اغتصاب الأعداء الكفار، والصلاة تحت الهدم، والصيام لمن لا يجد له مأوی، ورشوة قطاع الطرق على الحدود بين بلاد المسلمين، وأشباه ذلك كثير!! وقد حصل هذا وأمثاله عندما هدمت دولة الخلافة، وغاض سلطان الإسلام من الأرض، وسيطر الكفار على بلاد المسلمين وثرواتهم وعقول كثير منهم.
الوقفة السابعة: في خضم هذا الوحل التاريخي الذي غاصت فيه الأمة الإسلامية، قام حزب التحرير ليعيد لهذه الأمة مجدها وعزها من جديد، وليجدد فيها الفكر والفقه والأصول والسياسة، وذلك بأن نذر نفسه للعمل مع الأمة لقيام الخلافة. ولما قطع الحزب أشواطا طويلة في هذا العمل الشاق، وبدأت علامات التعافي النهضوي تظهر على الأمة في طول البلاد الإسلامية وعرضها، وصار قيام الخلافة قاب قوسين أو أدنى، جن جنون الغرب وحكام المسلمين العملاء، وصاروا يمكرون بالحزب وشبابه، ووجد من يسمع لهم من الناس والتاركين والناكثين والمعاقبين والمتنكبين، من أجل أن يفتّوا في أعضاد الشباب ويثنوهم عن عملهم الجاد والدؤوب، ولكن قوة الشباب وتماسك الحزب قد قطع الطريق على مساعيهم الإفسادية ونشاطاتهم الشيطانية.
الوقفة الثامنة: ونحن نقف اليوم على أعتاب إقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، فإننا نستمطر الرحمات من الله، وننتظر النصر القادم القريب بفارغ الصبر، وحسن الظن بالله أن يكرمنا بتحقق البشارات، فتفتح روما على أيدينا، لنرفع راية العقاب خفاقة فوق ربوعها بإذن الله، وإننا على ثقة بتحقق وعد الله الثاني بقتال يهود وتحرير فلسطين، وستكون في بيت المقدس بيعة هدى بعد أن تصبح عقر دار الإسلام قريبا بإذن الله.
وفي الختام فإنا نضرع إلى الله سبحانه أن يتوالی تحقیق بشارات رسول الله ﷺ فتعود خلافة هذه الأمة، ومن ثم تحرر قدسها، وتفتح روما كما سبقتها أختها فكانت… مصداقا لأحاديث رسول الله ﷺ… كما نسأله سبحانه أن يمدنا بعون من عنده فنحسن العمل ونتقنه فنكون أهلا لنصر الله العزيز الرحيم. ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون﴾ [الروم: 4-6]