ما من شكّ في أنّ لفظة (حرب) لم تعد مؤهّلة ـ لا لغة ولا اصطلاحا ـ للإحاطة بما تواجهه الأمّة الإسلاميّة من تصفية جسديّة ونهب لمقدّرات وتذويب لهوية وحضارة بأحماض لم يشهد التاريخ أكثر وحشية واستهتارًا بالذات البشريّة منها: فالحرب مصطلح عسكري مرتبط أساسًا بالعمليات القتالية له أعرافه ونواميسه وأخلاقيّاته التي تواضعت عليها الإنسانية أنَفَةً وشهامةً، أمّا ما يُشنّ على الأمة حاليًّا فهو عمليّة إبادة وإفناء واجتثاث ممنهجة وشاملة ومفتوحة في الزمان والمكان على كافّة الجبهات العسكرية منها والاقتصاديّة والسياسية والثقافيّة والحضارية والإعلامية والدّيموغرافيّة، بل وحتى النفسيّة والصحيّة والغذائية والمائيّة.. لم يُدَّخَر فيها شيءٌ دون أن يُعَدَّ سلاحًا ويُوظَّفَ في المجهود الحربي مهما بدا هامشيًّا وعَرَضيًّا أو وحشيًّا ومُنافيًا للفطرة البشريّة ومخالفًا للشرائع السّماويّة والأرضيّة: من القصف باليورانيوم المنضّب والفسفور الأبيض إلى حظر الأدوية وحليب الأطفال مرورًا بتحديد النّسل وإخصاء البذور وخنق منابع الأنهار ونشر الأوبئة وإشاعة الفاحشة والرّذيلة والمخدّرات ودفن النّفايات النّووية..هذا دون أن ننسى الواجهة الثقافية حيث الاستهداف الممنهج لأبسط مكوّنات التراث الفكري والأدبي واللّغوي والفنّي والتّاريخي والعقائدي للحضارة الإسلاميّة.
أمّا الجبهة الأخطر في هذه الحرب والأشدّ إضعافا وتدميرا للذّات وتحطيما للدّفاعات وتمكينا للاستعمار وتكريسا للتبعيّة والارتهان فتستعر نارها على الواجهة الغذائيّة الفلاحيّة من خلال تجويع المسلمين والتحكّم في غذائهم ومائدتهم ـ كمّا وكيفا ـ ومسكهم من بطونهم ورهنهم في أكلهم وشربهم بغية إخضاعهم واستعبادهم واستنزاف مقدّراتهم وخيراتهم وصولا إلى تصفيتهم جسديّا وتحويلهم إلى حديقة خلفيّة للكافر المستعمر على غرار المصير الأسود الذي ينتظر تونس وشعبها إن هي أمضت على اتفاقيّة (الأليكا) كما هو مرجّح ومُتوقّع..
المرتكزات العقائديّة
ممّا لا شكّ فيه أن الاستعمار إفراز مبدئي آلي طبيعي للمنظومة الرّأسماليّة بوصفه طريقتها أي كيفيّتها الدّائميّة في التوسّع والانتشار،وهو ـ في استهدافه للمسلمين ـ مدفوع بهاجسين رئيسيّين أوّلهما مبدئيّ عقائديّ :فنظام الحكم في هذه المنظومة خادم مطيع لرأس المال وأصحابه وأجير متفان لدى الشركات الرأسماليّة العملاقة ودمية متحرّكة بيد لوبيّات النفط والسّلاح والغذاء والأدوية وسائر المنتجات الحيويّة يتفانى في خدمتهم وتحقيق مصالحهم وتمكينهم من رقاب النّاس وخيراتهم ـ لا داخليّا فحسب ـ بل وخارجيّا أيضا عن طريق الاستعمار والسيطرة السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والعسكريّة على سائر الشعوب المستضعفة..فهذه المنظومة الجشعة الصمّاء البكماء باردة متحجّرة متخشّبة لا مكان فيها للمشاعر والأحاسيس والشّفقة والرّحمة والأخلاق والإنسانيّة ،فهي تطحن إنسانيّة الإنسان وتمتصّ دماءه ولا تعترف إلاّ بالقيمة الماديّة، فتُعلي من شأنها ديدنها في ذلك المصلحة والمنفعة والرّبح المادّي بصرف النّظر عن النّتائج سواء أطالت صحّة الإنسان أم حياته وحياة ذويه أم أمواله وممتلكاته.. فهي ـ مدفوعة بحريّة التملُّك ـ تُبيح للإنسان امتلاك المال وتنميته والتصرُّف فيه بأيّ شكل أو وسيلة أو أسلوب بما في ذلك القتل والسّرقة والغشّ والقمار والرّبا والاحتكار والغبن الفاحش والسّحت والمضاربة والخمر والدّعارة والشّذوذ..بل قد تلتجئ إلى إتلاف الفائض من المنتوجات حفاظًا على الأسعار بينما تموت شعوبٌ بأكملها جوعًا، كما قد تلتجئ إلى إبادة شعوب بالجملة (الهنود الحمر ـ الأربوريجينز..) أو تقويض منظومات اقتصاديّة كاملة لكي تخلو السّاحة أمام رساميلها وسلعها ومنتجاتها :وعلى هذا الأساس فالأمّة الإسلاميّة بمنطق الاستعمار هي مجرّد سوق استهلاكيّة للفائض والتّالف من منتوجات الغرب ومنجم عدّ يمدّه بالطّاقة والموادّ الأوّليّة (بتراب الفلوس) ،أمّا الإنتاج والمزاحمة والسيادة فلا سبيل إليها ..والغاية الوضيعة تبرّر الوسيلة الدّنيئة..
الإسلاموفوبيا
أمّا الهاجس الثاني الذي يكيّف السّلوك الاستعماري في العالم الإسلامي فهو حضاري سياسي: فالكافر المستعمر يعاني من الإسلاموفوبيا أي الرّهاب المرضي من عودة الإسلام والمسلمين إلى الساحة الدّولية، فهو يعلم علم اليقين أنّ الأمّة الإسلامية بما حباها الله بها من خيرات ومقدّرات وموقع جغرافي استراتيجي وبما تزخر به من زخم ديموغرافي وبما تمتلكه من ثروة فكرية تشريعيّة ورابطة عقائديّة مبدئيّة لا يمكن أن تبقى خاضعة له إلى ما لا نهاية، فهي تمتلك جميع مقوّمات الأمّة العظيمة التي تجعلها تنتفض يومًا ما وتستعيد دولتها ومكانتها بما يهدّده لا في مصالحه فحسب بل في وجوده أصلاً.. لذلك لم يكتف الكافر المستعمر بإسقاط الدّولة الإسلاميّة وإبعاد الإسلام من حياة المسلمين وتقسيمهم إلى أكثر من 50 مزقة نصّب عليها نواطير يسبّحون بحمده ويمكّنونه من ثرواتهم ويحاربون كلّ نفس إسلامي نيابةً عنه، بل سعى جاهدًا إلى تجريدهم من كلّ مقوّمات قوّتهم ـ تحسّبًا لإمكانيّة استفاقتهم ـ إمّا عبر الاستغلال الاستعماري المجحف أو باسم الاتّفاقيّات الدّولية التي تفرض عليهم الكميّة والنّوعية والثمن والأسواق بما يسلبهم ثرواتهم من بين أيديهم ويحوّلهم إلى مجرّد (خمّاسة ونواطير) ويمكّن الشّركات الرّأسمالية منها بأقلّ من ثمن الكلفة.. وسعيًا منه لإحكام السّيطرة على الأمّة الإسلاميّة بشكّل يؤبّد تبعيّتها ويحول دونها ومجرّد التّفكير في التحرّر من نيره وربقته فقد عمل على ضرب استقلاليّتها الغذائيّة والتحكّم في أمنها الغذائي: فعمل على ضرب المنظومات الفلاحيّة الأصيلة والسّيطرة عليها من البذور والمشاتل إلى المنتوجات مرورًا بالأسمدة والأدوية والأسواق والأثمان والنّوعيات وصولاً إلى الأراضي الفلاحيّة نفسها بما يمكّنه من التحكّم في المحاصيل ـ كمًّا وكيفًا ـ والتّلاعب بالأمن الغذائي للأمّة وتركيعها وجعلها غير قادرة على الاستغناء عن الاستعمار حتّى وإن عانت من ويلاته وتاقت إلى دولتها وإسلامها..
تونس نموذجًا
هذا المخطّط الاستعماري الخبيث طُبّق على الواقع التونسي بمنتهى المكيافليّة والخسّة والنّذالة والإجرام، وفي تبادل للأدوار بين المستعمر وعملائه في الدّاخل الذين مكّنوه من استباحة البلاد واقتراف أبشع الجرائم في حقّ أهلها ومقدّراتها.. فتونس من أخصب المناطق الفلاحيّة في العالم، وتمتلك فلاحة أصيلة عريقة ثريّة متنوّعة غنيّة بالبذور والمشاتل المحليّة المتأقلمة مع تربتها ومناخها وهي ذات جودة عالية وإنتاج غزير بما يمكّنها من الاكتفاء الذّاتي والاستقلال الغذائي ومنافسة دول حوض المتوسّط..وقد تكرّست فيها عبر العصور عادات وتقاليد فلاحيّة في الحفاظ على المنظومات الفلاحيّة والبذور والمشاتل الأصيلة..هذا الوضع المريح محليًّا لا يخدم الجشع الرّأسمالي الاستعماري، لذلك سعى الكافر المستعمر جادًّا إلى تقويض المنظومات الفلاحيّة المحليّة لضرب الاستقلاليّة الغذائيّة وفتح الباب أمام منتجاته الفلاحيّة دون منافسة تذكر..فاعتمد منذ ستّينات القرن المنصرم سياسة الأرض المحروقة للقضاء على البذور والمشاتل الأصيلة، وليتمكّن من ذلك لا بدّ له من استهداف الأعراف والعادات الفلاحيّة القائمة على المجهودات الذّاتية والتعويل على النّفس في استخراج البذور وتخزينها وضمان استمراريّتها..فاستعان بوزارة الفلاحة ومندوبيّاتها الجهويّة لإغراق السوق التونسيّة بالبذور والمشاتل الأوروبية الهجينة المحوّرة جينيًّا وسوّقها بين الفلاّحين بالمجّان وأغراهم بالتّواكل على الدّولة والتخلّي عن عاداتهم في التّخزين والتّعويل على الذّات..وهكذا شيئًا فشيئًا وموسمًا بعد آخر فُقدت المشاتل والبذور الأصيلة المحليّة وتضاعفت أثمان نظيرتها الأوروبية الهجينة بعد أن كانت تعطى بالمجّان.. والأدهى والأمرّ من ذلك أنّ تلك البذور والمشاتل غير متأقلمة مع تربتنا ومناخنا ولا مقاومة لآفاتنا المحليّة، لذلك فإنّ زراعتها تتطلّب الأسمدة والأدوية ممّا ضاعف من الارتهان للاستعمار وأثقل كاهل الفلاّح وأثّر على التّربة والبيئة والمائدة المائيّة والقيمة الغذائيّة وصحّة المستهلك..والمفارقة أن تلك البذور والمشاتل وقع إخصاؤها كي لا تنتج إلاّ مرّةً واحدة، وبالتّالي فلا مجال معها إلى العودة لعادات الخزن والتعويل على الذّات بما يؤدّي إلى تأبيد التّبعية والارتهان الغذائي ويثبّط في المسلمين نيّة الانعتاق من ربقة الاستعمار تحت طائلة التجويع..
منظومة الحبوب
نفس هذا السيناريو الاستعماري الخبيث (إغراء ـ تواكل ـ غزو البذور الهجينة ـ انقراض البذور الأصيلة ـ ارتهان فلاحي غذائي) انتهجه الكافر المستعمر بالتواطؤ مع السّلطات المحليّة للقضاء على معظم المشاتل والبذور التونسية الأصيلة (بطاطا ـ دلاّع ـ بطّيخ ـ تفّاح ـ مشمش ـ طماطم ـ لفت ـ سفنّاريا..) ما أدّى إلى انقراضها وتكريس التبعيّة الفلاحيّة للاستعمار وتهديد أمننا الغذائي في الصّميم..والمصيبة أنّ هذا المخطّط الخبيث لم تسلم منه حتى القطاعات العريقة في تونس على غرار الحبوب: فتونس أو (فريقا) اعتُبرت تاريخيًّا بمثابة مطمور روما الذي يزوّد الامبراطوريّة الرّومانية بالقموح ولها تقاليد عريقة في الزراعات الكبرى وتنتج أجود أنواع القمح الصّلب وتمتلك مخزونًا من البذور الأصيلة المحليّة على غرار (الشبلي ـ المحمودي ـ البيدي ـ جناح خطّيفة ـ العويجة ـ رزّاق..) وكلّ هذا كفيل بامتياز بجعلها في غنى عن الأجنبي.. إلاّ أنّه ما راعنا إلاّ والدّولة التونسية تنتهج منذ ستّينات القرن المنصرم سياسة إغراق السّوق المحليّة بنوعيّات مستوردة من البذور الهجينة المخصيّة المعدّلة وراثيًّا والضّارّة بالتربة والبيئة إلى جانب تدنّي نوعيّتها وقلّة مردوديّتها واعتمادها على الأدوية والمبيدات، وذلك مقابل تهميش البذور المحليّة المتأقلمة مع تربتنا ومناخنا وأمراضنا إلى جانب مردوديّتها وجودة نوعيّتها وقيمتها الغذائيّة..هذا السّلوك المريب واللاّمبرّر لسلطة الإشراف في تونس يشي بتواطئها وخضوعها لإملاءات الكافر المستعمر ناهيك وأنّ الفلاّحين وأهل الاختصاص أجمعوا على أنّ ما يحصل سيؤدّي إلى أضرار كبيرة بالمزروعات والتّربة إضافةً إلى تكريس الارتهان الغذائي للأجنبي: فهذه البذور الأحاديّة الاستعمال هي بمثابة الحبل الذي يلتف حول رقاب الفلاّحين ويفقدهم استقلاليّتهم ويحوّلهم مكرهين إلى حرفاء للاحتكارات الاستعماريّة في شبه استعباد فلاحي..
منظومة الزياتين
ممّا لا شكّ فيه أنّ تونس تعدّ من أعرق البلدان المنتجة لزيت الزّيتون، فهي تمتلك أفضل أصناف المشاتل التي تعمّر لقرون وتنتج أجود أنواع الزّيوت، كما تشغل المرتبة الأولى عالميًّا في جودة زيت الزّيتون متقدّمةً على كلّ من إسبانيا وإيطاليا.. هذه العراقة والرّيادة والأفضليّة ـ كمًّا وكيفًا ـ أثارت حسد المنافسين في الضفّة الشماليّة للمتوسّط ودفعتهم إلى التخطيط لتدمير قطاع زيت الزيتون التونسي بالتواطؤ مع سلطات الإشراف المحليّة: فمنذ قرابة العقد انطلقت عمليّة إغراق ممنهج للسوق التونسية بمشاتل زيتون معدّلة وراثيًّا من مخابر مشتركة إيطاليّة / إسبانيّة وتوزيعها على الفلاّحين بأسعار رمزيّة وأحيانًا بالمجّان (يكفي أن تعمّر مطلبًا لتحصل على 20 شتلة مجانًا)..
وقد حذّر خبراء في الفلاحة من هذه السياسة الخطيرة التي تنذر بالخراب للثروة المحليّة والتدمير لقطاع زيت الزيتون: فهذه المشاتل التي تسوّق على أساس أنّها محسّنة ومعدّلة ومعدّة للريّ قطرة قطرة وقادرة على مضاعفة الإنتاج والعطاء كلّ سنة ومنذ موسمها الأوّل، كما أنّها لا تحتاج إلى مساحة الزياتين المحليّة المتباعدة بحيث تستوعب 10 شجيرات من المشاتل المعدّلة.. إلاّ أنّ هذا الدّسم يخفي السمّ الزّعاف: فهذه المشاتل المعدّلة وراثيًّا تكون سريعة النموّ وغزيرة الإنتاج وخلال العقد الأوّل من حياتها فقط ثم يتناقص إنتاجها بعد ذلك إلى أن تصاب بالعقم بعد 12 إلى 15 سنة على أقصى تقدير عندها تصبح غير ذات فائدة ولا مردوديّة وتكون كلفة قلعها كبيرة، وحتّى إن تجشّم الفلاّح تلك المشقّة والخسائر وأراد غراسة الزيتون المحلّي الطّبيعي الأصيل فيلزمه الانتظار خمس سنوات حتى يثمر الغرس الجديد.. والأخطر من كلّ ذلك أنّ هذه المشاتل المستوردة تحمل فيروسًا ينتقل إلى الأشجار المحليّة الأصيلة في تونس فيُفسد نوعيّة وجودة زيوتها ويجعلها تهرم بسرعة.. وإذا عُرف السّبب بَطل العجب..