السياسة عند العلمانيين: مراوحة بين “ميكافيلي” و”دون كيشوت”

السياسة عند العلمانيين: مراوحة بين “ميكافيلي” و”دون كيشوت”

إثر سقوط الخلافة الإسلامية وقيام النظام العلماني في تركيا أصبح ” اتاتورك” قدوة لكل مضبوع بحضارة الغرب ومفتون بوجهة نظره في الحياة وأرتمى الجميع في أحضان العلمانية مدفوعين بكرههم الدفين للإسلام وأحكامه وهو الدافع ذاته الذي جعل من “أتاتورك” معول هدم بيد أعداء الأمة ودينها,  وكان هذا حال كل حكام المسلمين ومن يسمون بالنخبة المثقفة وكل من ولّى وجهه شطر الغرب الكافر وأستحب مفاهيمه وأفكاره على مفاهيم وأفكار الإسلام.

ومن أشد المتأثرين ب” أتاتورك” والمناصرين لنهجه القائم على محاربة الإسلام وإعلاء شأن العلمانية المقبور “بورقيبة” وكما هو شأن ” أتاتورك” أصبح “بورقيبة” قدوة ومرجعا لكل من يروم خوض غمار السياسة ويدخل ساحتها من بوابة العلمانية وهذا ما أنتج شرذمة استفردت بالحكم حتى بعد اندلاع شرارة الثورة والتي أطاحت بعرش “بن علي” وزمرته، وأنهت مرحلة الزعيم الواحد والحزب الواحد وبات المجال السياسي مفتوحا أمام الجميع  وأصبحت السياسة في متناول القادر وغير القادر على اقتحام عقبتها, وساد الاعتقاد بأن مدجنة “بورقيبة” نفد مخزونها وغار ماؤها إلى الأبد, ولن تنتج أمثال ” بن علي” ومن على شاكلته، ولم يمضي من الوقت إلا قليله حتى تبين أن هذا الاعتقاد مجانب للصواب وضرب من الوهم, فبذرة ” أتاتورك” و”بورقيبة” لم تمت وبقيت تحت التراب تنتظر اللحظة المناسبة لتخرج وتنتشر كالوباء متسلحة بقذارة “ميكافيلي”, تلك التي جمعها في كتابه الأمير, وجاءت في شكل نصايح لأحد الأمراء كي يثبت دعائم حكمه ويصمد أمام الهزات ويتجاوز العقبات تحت نظرية الغاية تبرر الوسيلة. وقد وجد العلمانيون ضالتهم في هذه النظرية وطبقوها بحذافيرها, فغايتهم هي الحكم وغايتهم من الحكم هو قطع الطريق أمام الإسلام بوصفه نظاما يشمل جوانب الحياة والغاية من اقصاء الإسلام هو ابقاء النظام العلماني جاثما على صدورنا وكاتما لأنفاسنا هذه هي غايتهم.

أما وسيلتهم لبلوغ غايتهم كانت في عهدي “بورقيبة” و”بن علي” قمع الناس واضطهادهم وتكميم الأفواه الناطقة بالحق والتنكيل بكل من يقف في وجه الظلم وخاصة العاملين على استئناف الحياة الإسلامية والساعين إلى ايجاد حكم الله في الأرض. وسيلتهم كانت العصا الغليظة ولا شيء سواها وانتهاج سياسة التجويع و التفقير و السحق المطبق. وحين بلغ السيل الزبى ثار الشعب واندلعت الثورة وعصفت ريحها بعروش الظلم والطغيان, وباتت العلمانية مهددة في وجودها, فغير كهنتها الوسيلة وعوضوا القمع بالكذب والدجل وأخرجوا من جرابهم الانتخابات وعزفوا على مزمار الوعود الزائفة وضخموا من أحجامهم حتى ظهروا في صورة رجال الدولة الأفذاذ وحين نجحوا في ارهاب بصائر وأبصار الناس واستتب لهم الأمر عادوا سيرتهم الأولى ومارسوا في راحة بال سياسة التجويع والتفقير وسياسة الأرض المحروقة  دون نسيان أم الغايات بالنسبة لهم وهي تغييب الإسلام وأحكامه.

وبما أن سلاح “ميكافيلي” لا يفيد حمله في جميع المعارك, كثيرا ما التجأ العلمانيون في ذودهم عن علمانية الغرب إلى أوهام “دون كيشوت” فيختلقون طواحين ويشنون عليها الحرب, كحربهم على الإرهاب ومكافحتهم للفساد.. يدعمهم في حروبهم الوهمية تلك أسراب غربان توزعت بين إعلاميين وكتاب ومثقفين وغيرهم ممن يشكلون روافد العلمانية ويسعون إلى تحقيق الغاية ذاتها التي يصل الحكام ليلهم بنهارهم لبلوغها وهي الحيلولة دون وصول الإسلام إلى الحكم. وعليه فالسياسة عند العلمانيين لا تخرج عن اتباع نصائح “ميكافيلي” لأحد الأمراء والقائمة على ارتكاب كل ما هو فضيع من اجل البقاء على رأس السلطة أو محاكاة “دون شيكوت” واختلاق حروب وهمية لنفس الغاية, وهي البقاء في الحكم,  والأهم هو بقاء النظام العلماني في الحكم, وهذا ما يفسر بقاء الحال كما هو عليه بل انحدر إلى الأسوأ رغم تغير الوجوه وتعدد الاسماء، وسيزداد الوضع سوء على سوء وسيستفحل الداء.. فما نشاهده اليوم فيه جمع وتقارب بين خبث “ميكافيلي” وترويج لأوهام “دون كيشوت”, فالعلمانية بات الخطر محدقا بها من كل جانب, والقائمون مستعدون أن يفعلوا كل شيء من أجل إنقاذها, وهم على أتم الاستعداد ليفوقوا  ” ميكافيلي” قذارة بل هم بالفعل فاقوه وتغلبوا عليه. كيف لا وهم متشبثون بنظام هو القذارة ذاتها.

حسن نوير

CATEGORIES
TAGS
Share This