قد يبدو لغير المدرك لحقيقة المشهد السياسي في تونس أن البلد يمر بأزهى أيامه، وهو يرى اتساع دائرة المتدخلين في الشأن العام، بعد فرار بن علي ورفع أيدي البطانة التي كانت تحيط به عن مختلف دوائر القرار، وعن مختلف قطاعات الإنتاج في البلاد، وهو يرى أيضا حدة التنازع بين الفرقاء السياسيين وسرعة تغير فصول المسرح السياسي، و سرعة تبدل المواقف، ويسمع صدى صراخهم في مختلف وسائل الإعلام. وقد يتبادر إلى ذهنه أن مدار الصراع على امتداد الساحة ‘السياسية’ هو التنافس على إحسان رعاية شؤون الناس بالسعي لإقناعهم بأن برامجهم أحق بالتقدير وأقدر على الاستجابة لانتظاراتهم.
في حين أن المدقق في حقائق الأشياء يتكشف على مشهد سريالي تعيشه بلادنا منذ 14 جانفي 2011، لعل ابرز مظاهره تلك التصريحات التي لا تبين إلا عن معارك دونكشوتية: تهديد ووعيد، ثم نكوص وتنازل، ليس لكل هذه الضوضاء إلا البحث عن موقع في دائرة القرار والفوز بنصيب من بركات الحكم وكعكته. كل ذلك الصخب تحت قاعدة عجيبة لسياسيي ما بعد الثورة هي الدفاع عن الرأي ونقيضه، في تناقض خطير مع أبسط قواعد العمل السياسي بما هو رعاية الشأن العام والثبات على المبدأ.
فلئن تغيرت أغلب الوجوه المتصدرة للمشهد السياسي في تونس إلا أن النظام القائم اليوم لا يزال هو نفسه ذاك النظام الذي سعت الجماهير المقهورة إلى إسقاطه، والتي تمتد جذوره إلى أواسط خمسينيات القرن الماضي بعد أن صاغ أسسه المستعمر المباشر ثم أوكل لبورقيبة ثم لبن علي مهمة تثبيته والحفاظ عليه صيانة لمصالحه، ولعل أبرزها العمل على وأد كل نفس للخروج من تحت كلكله وإجهاض كل حلم بالإنعتاق من ربقته. فكان من مهام رؤوس الشر في الأحزاب الرئيسية من قيادات المراكز الأولى إيهام منتسبي هذه الاحزاب والقيادات البعيدة عن دائرة القرار سواء المباشرة لمهام الحكم أو التي تظن أنها تمارس دور المعارضة في انتظار فرصتها في الحكم، وإيهام الرأي العام بوجود حياة سياسية حقيقية في تونس حين يرى هذه المشاهد التمثيلية لممارسة الحكم بسقوط حكومات وقيام أخرى وحملات انتخابية وممارسة للعملية الانتخابية، رجاء لتغير حال إلى أفضل لن يأتي، وانتظارا لانفراج كرب لن يتحقق.
كان من أساليب المكر والخداع التي اعتمدها المتحكم الحقيقي في المشهد السياسي في البلاد أن يعلق رجاء تغيير الحال وانتظار الفرج على قضية يشغل بها الناس ويسلط عليها الأضواء حتى يخال الجمهور أن الفرج دون تحقيقها ميؤوس منه، وأن أزمته اقتصادية واجتماعية وليست سياسية، وأن أولوياته التي يجب أن تنصب عليها كل الاهتمامات تتمثل في التشغيل والقدرة الشرائية وتحسين ظروف التعليم والصحة وغيرها… لا عن موقعه في الحياة ورسالته فيها ودوره في الرقي بالإنسان وتحقيق إنسانيته فتلك مهمة العالم‘ المتحضر’ لا مهمة شعوبنا وإنساننا فيكفيه هو إشباع البطن والفرج إن طاله.
ولعل أهم قضية أشغل بها أهل تونس في أولى سنوات الثورة هي مسألة إصدار دستور الثورة والذي علقت على إصداره أهداف الثورة بعد أن وضع في أجواء محاربة الإرهاب، إلا أن الأهل في تونس سرعان ما اكتشفوا زيف هذه القضية ولم يعيروه اهتماما بل قاموا بتمزيقه في أولى محاولة الاحتفال بصدوره.
أما القضية التي طفت على الساحة السياسية بعد إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة كحبل نجاة لمعضلة الحكم وتشكيل الحكومة هي “الثورية” كشرط يتوقف عليه مرور الفريق المقترح من قبل رئيس الحكومة المكلف وضرورة الاعتماد على الأحزاب”الثورية”، وهو في الحقيقة خنجر مسموم غرز في جسم الثورة لتعميق اليأس لدى عموم الناس. إلا أن الثورية التي تتذرع بها الأحزاب وعلى رأسها قيادات الصف الأول فيها واتخذت منها رأس حربة في صراعها السياسي مع خصومها وأحلافها لم تعتمد إلا لتكريس النظام، الذي ثار عليه الناس، في مفاهيمه وقيمه وأهدافه.
ــ فهل يختلف أي حزب عن بقية الأحزاب في موقفه من دستور قدته الأمم المتحدة والدول المهيمنة على العالم والمنظمات الدولية على أساس قيم الديمقراطية الرسمالية؟
ــ وهل يختلف أي حزب عن بقية الأحزاب في موقفه من مسألة الخضوع للقوانين الدولية التي أرستها القوى الاستعمارية خدمة لمصالحها وتثبيتا لهيمنتها، وهي من أهم أسباب بلائنا، وفي اعتبار أن لهذه القوانين الدولية علوية على القوانين المحلية؟
ــ ألم يصرح “رأس الثوريين” الذي زكته “الأحزاب الثورية” ودفعت بالناخبين لتزكيته إثر التصريح بنتائج الدور الأول للانتخابات الرئاسية بأنه سيعمل على إحسان تطبيق الدستور، دستور نوح فيلدمان، وأنه يعترف ويثبت الاتفاقات الدولية التي أمضاها حكام تونس الذين ثار عليهم الناس، وأنه يعترف بما يقرره الشعب الفلسطيني، أي ما تقرره سلطتا عباس وهنية من خيانة لله ورسوله والمؤمنين؟
فأي مفهوم للثورية ثُبت كأساس لتحقيق أهداف الثورة عند هؤلاء؟ إلا أن تكون أحبولة من أحابيل الدول الكافرة تشربها من باع نفسه للشيطان أو انخدع بها من عميت بصيرته عن الحق.
ــ هل الثورة إلا قلع النظام: أيديولوجيته ودولته وأجهزته وسلطته؟ ليست الثورية مبدأ فيدعى إليه ولا هي وجهة نظر فتعتمد. وليست الثورية مذهبا منبثقا من مبدأ وفق فهم محدد لذاك المبدأ فيعمل بما أدى إليه الاجتهاد. فما الثورية إلا فعل إرادي للتغيير الحقيقي لواقع تحقق خطؤه ووجبت إزالته وإقامة الحق والصواب مكانه. وما الثورة والثورية اليوم إلا استئصال نظم البغي، نظم الكفر التي فرضتها قوى الطغيان على البشرية وأشقتها بها, وإقامة شرع رب العالمين الذي تطبقه الدولة الذي فرض سبحانه وتعالى على المسلمين إقامتها، دولة خلافة على منهاج النبوة.