كيــف نكــسب معــركة الدبلــوماسية؟ (الجزء الأول)
مقــدمة
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن مفهوم الدبلوماسية وعن مدى التزام الرئيس المنتخب قيس سعيد بالحفاظ على “ثوابت الدبلوماسية التونسية” تأمينا لاستمرارية الدولة وتجسيدا لتعهداتها والتزاماتها الخارجية في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية التي قد تسقط معها -بحسب البعض- كل أوهام المسلّمات الكلاسيكية.
ومع أنه قد أكد مرارا وتكرارا (قبل وبعد تسلمه مقاليد الحكم) على تمسكه بقشة “الثوابت الدبلوماسية” وحفاظه على استمرارية الدولة، إلا أن جهات سياسية وإعلامية عديدة ظلت تدفع نحو مزيد إحراجه وإظهاره في صورة الخارج عن الأعراف الدبلوماسية بما يضع البلد في عزلة سياسية مطبقة، مستغلة بعض المواقف والقرارات من قبيل غيابه عن مؤتمر برلين وعن منتدى دافوس ثم إقالته لمندوب تونس لدى الأمم المتحدة. وهو ما قد يوحي للبعض بأنه يؤسس لدبلوماسية جديدة لم يعهدها الوسط السياسي في تونس استنادا إلى مقولاته حول الخروج عن الأطر التقليدية، مع أنها سرعان ما تناقض نفسها حين يستدرك فيقول: “ولكن في إطار الشرعية الدستورية”…
ولبيان أهمية “الدبلوماسية” كعنصر من عناصر قوة الدولة، صار لزاما على كل من يعمل على التمهيد لقيام دولة الخلافة والتلبس بأمانة الحكم بما أنزل الله أن يستجلي حقيقة هذا المفهوم الذي سيرتقي بشعوب الأمة وينسيها مشاهد العبث السياسي وكل ألوان الخيانة الموصوفة التي يرسمها حكام الأمّة اليوم. فإنه وإن كان حزب التحرير يعي أن وجود دولة الخلافة هو الذي يوجد تأثيراً سياسيا للمسلمين في العلاقات الدولية، إلا أنه لا ينتظر قدوم الدولة لكي يأتي تأثيرها، بل إنه كتكتل يسعى للتأثير في المجتمع تأثيرا مبدئيا من أجل التسريع في هذا التغيير المنشود، تماما مثلما يسعى رجال الدولة القادمة قريبا بإذن الله إلى التسلح بكل الأدوات التي تعينهم على تحمل أعباء حمل دعوة الإسلام إلى العالم.
وعليه، اخترنا أن نتطرق في هذا المقال إلى واقع الدبلوماسية، كمفهوم فكري أوّلا، ثم كمؤسسة من مؤسسات دولة الخلافة، لندرك ما يجب أن يكون عليه أمرها، قبل الحديث عن دبلوماسية قيس سعيد أو عن مؤسسة رئاسة الدولة في تونس.
فما هو إذن مفهوم الدبلوماسية؟ وكيف نكسب معركة الدبلوماسية في ظل دولة الخلافة الراشدة الموعودة؟ ثم إلى أي مدى يصح الحديث عن تجديد دبلوماسي في ظل الأنظمة الراهنة التي تجعل تغييب الإسلام من الحكم ومن تسيير العلاقات الدولية في السلم والحرب ثابتا من الثوابت المقدسة؟
أولا: مفهوم الدبلوماسية
الدبلوماسية Diplomacy مصطلح غربي يوناني الأصل، مشتق من كلمة Diplum ومعناها “يطوي”. ثم أطلق الرومان كلمة Diplum على وثيقة السفر المعدنية المختومة والمطوية الصادرة عن الرؤساء السياسيين للمدن التي يتكون منها المجتمع الإغريقي القديم.
وقد اختلف فقهاء القانون الدبلوماسي في تعريف الدبلوماسية وتحديد معناها، فمنهم من عرّفها بأنها فنّ توجيه العلاقات الدولية، وعرّفها آخرون بأنّها السياسة الخارجية للدول وقت السّلم، ومنهم من وجد بأنها فنّ المفاوضات، ومنهم من حدّدها بأنّها علم وفنّ تمثيل الدول. غير أن المفهوم الأكثر تداولا، هو ذلك الذي يحددها بأنها فنّ توجيه العلاقات الدولية والسياسية الخارجية للدول، والمفاوضات القانونية الدولية بين الأشخاص، وفنّ تمثيل الدول ورعاية مصالحها وقت السّلم. كما تعني أيضا المهمة التي يضطلع بها المبعوث الديبلوماسي كحلقة وصل بين دولته والدولة المعتمد لديها.
وإذا كانت الدبلوماسية تعني حسن تمثل السياسة الخارجية للدولة وحسن إدارة علاقاتها السياسية مع بقية الدول زمن السلم والحرب، بما يحقق مصلحة الدولة، فإن ذلك جزء لا يتجزأ من عمل دائرة الخارجية في دولة الخلافة. فهي التي تتولّى جميع الشؤون الخارجية المنظمة لعلاقة الدولة بالدول الأجنبية، مهما كانت هذه الشؤون وهذه العلاقات، سواء أكانت تتعلق بالناحية السياسية، وما يتبعها من اتفاقات، ومصالحات، وهُدَن، ومفاوضات، وتبادل سفراء، وإرسال رُسُل ومندوبين، وإقامة سفارات وقنصليات، أم كانت هذه العلاقات تتعلق بالنواحي الاقتصادية، أو الزراعية، أو التجارية، أو المواصلات البريدية، أو السلكية، أو اللاسلكية، ونحوها.
وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يُقِيم العلاقات الخارجية مع الدول والكيانات الأخرى، فقد أرسل صلى الله عليه وسلم، عثمان بن عفان ليفاوض قريشاً، كما فاوض هو صلى الله عليه وسلم، رسل قريش، وكذلك أرسل الرسل إلى الملوك، كما استقبل رُسل الملوك والأمراء، وعقد الاتفاقات والمصالحات فعقد صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية وأرسل وفدا إلى النجاشي وأرسل الرسائل إلى هرقل والمقوقس وكسرى… وكذلك كان خلفاؤه مِن بعده يُقيمون العلاقات السياسية مع غيرهم من الدول والكيانات. كما كانوا يُولّون من يَقوم عنهم بذلك، على أساس أن ما يقوم به الشخص بنفسه له أن يُوكِل فيه عنه، وأن يُنيب عنه من يقوم له به. وقد أرسى الإسلام أحكاما صارت أعرافا دبلوماسية للدولة الإسلامية، خاصة مع انتشار الفتوحات الإسلامية وتنامي أطراف الدولة وامتداد نفوذها في أصقاع العالم.
وبالنظر لتطور العلاقات الدولية، فقد ظهرت في عهد الخلافة العباسية على وجه الخصوص العديد من المؤلفات العلمية الخاصة بإدارة العلاقات الدولية. فصدرت موسوعات تناولت الدبلوماسية والسياسية الخارجية جاءت بأسلوب متميز. ومن أبرز ذلك كتب السير والمغازي (السلام والحرب) والوقائع والفتوح والأنساب والأمم والأديان والتراجم والطبقات والحوليات والخطط، وغيرها الكثير، وهي إلى جانب السيرة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين مراجع هامة لفهم طبيعة العمل الدبلوماسي في الإسلام، ومدى أهميته للحفاظ على نفوذ الدولة وعلى مصالحها على مستوى عالمي.
ولتعقيدات الحياة السياسية الدولية، واتساع وتنوع العلاقات السياسية الدولية، فقد تبنى حزب التحرير في هذا الأمر، أن ينيب الخليفة عنه جهازاً من أجهزة الدولة خاصاً بالعلاقات الدولية، يتابعه الخليفة كما يتابع أي جهاز آخر من أجهزة الحكم والإدارة في الدولة، مباشرة أو بواسطة وزير التنفيذ، وفق الأحكام الشرعية المتعلقة بذلك.
ثانيا: المؤسسة الدبلوماسية في دولة الخلافة
إن أول عنصر من عناصر قوة الدولة هي وجهة النظر في الحياة، وهي التي تجعل من الدولة دولة مبدئية لها طراز معين من العيش يميزها عن غيرها عالميا، فوجهة النظر في الحياة هي التي تبني شخصية الأمة وتوجهاتها وتطلعاتها العالمية، وتحدد الكثير من مصالحها. فالأمة المبدئية تحسُّ بل وتؤمن بمسئولياتها عن غيرها من الأمم، فتعدَّ نفسها لذلك الدور، وتصوغ مصالحها على مستوى العالم فوق النظرة التي حددها كتاب ربها في قوله سبحانه: “كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ”.
ومعلوم أن المبادئ لا تعترف بالحدود، فهي تنتقل مع الأفراد وعبر وسائل الإعلام بأنواعها، حتى أنها لتنتقل مع الهواء، فينتقل أثر الدولة ونفوذها إن لم ينتقل سلطانها مع انتقال مبدئها العالمي حتى في الدولة الخصم، مما يعطيها قوة على الساحة الدولية. وكما يساهم المبدأ في صياغة المصالح فإنه يحدد كيفية سلوك الدولة مما يعطيها شخصية متميزة وأثراً فاعلاً.
إلا أن وجهة النظر في الحياة وإن كان عاملا أساسيا لبناء الدولة ومرافقا لها في كل لحظة، إلا أنه لا يمكننا الحديث عن قوة هذه الدولة إلا إذا استكملنا العامل الاقتصادي والتكنولوجي والعامل الديمغرافي والقوة العسكرية والعامل الجغرافي وكذلك الدبلوماسية التي قد تحقق ما تعجز عن تحقيقه القوة العسكرية. هذه هي العناصر الستة التي تضمن قوة الدولة واستمراريتها، وبدونها تظل الدولة في عالمنا اليوم خاضعة عاجزة يقودها الفكر الرأسمالي المهزوم فتسير في فلك غيرها بسيادة منتزعة في أحسن الحالات، إن نجت من آلة الحرب ومن الاستعمار المباشر.
وتتكون المؤسسة الدبلوماسية في دولة الخلافة من قسمين:
-
الدائرة الحكومية التي تعهد إليها الدولة بتنفيذ السياسة الخارجية، مثل “وزارة الخارجية”.
-
البعثات الدبلوماسية في الخارج المتمثلة بالسفارات وما يقوم مقامها، أي الرسل بين الدول بجميع أنواعهم.