“إن الأسوأ لن يقع معنا” هذا حال ومقال كل من دفعت به، مناورات الالتفاف على سعي أهل تونس للانعتاق، والتخلص من قيود العبودية التي كبلته بها القوى الاستعمارية، لتولي مسؤولية إدارة الشأن العام في البلاد. وذلك هو المعنى الحقيقي لإجابة رئيس الوزراء إلياس الفخفاخ حين أجاب السفيرة البريطانية، حين استمزجت رأيه، وهي تبحث عن العصفور المناسب للقفص. فعبر لها عن عدم تعجله في إخراج البلاد من القاع، فيكفيه شرف الانشغال بالبحث عن المسلك، تاركا لمن سيأتي بعده إتمام حمل الصخرة.
إلا أن العبث السياسي الذي نلمس أوج قبحه في ” مجلس نواب الشعب ” وفي أغلب المنابر الإعلامية بمختلف أوجهها، أو في الصراع بين مراكز القرار، لا يزال ينحدر إلى بؤر لا قعر لها. فلو أن الأمر بقي في حدود المناكفات بين العائلات السياسية والايديولوجية بين اليمين واليسار، وعلى علاتها، عن المفاهيم و القناعات والبرامج لقيل أن في الإمكان انتظار ظهور النور في آخر النفق.
إلا أن السوء يزداد قتامة مع اتفاق كل المكون السياسي الممثل في البرلمان وغير الممثل فيه ، أو المنضوي تحت غطاء تكتل حزبي أو مستقل عن الأحزاب والتكتلات السياسية، على أمرين أساسيين يحطان من القدر ولا يبوآن المتصف بها مكانة الريادة والقيادة، بلى، أن يكون دليل قوم إلى الخلاص والانعتاق:
1 ــ أننا في مرتبة الدون بالنسبة للديمقراطيات الراسخة ولم نصل بعد إلى نعيم حكم الحزب الحاكم ومعارضة الحزب الثاني.
2 ــ وجوب التخلص من كل مقوماتنا، الفكرية السياسية، التي تقوم عليها شخصيتنا باعتبارها أصل بلائنا وسبب تخلفنا وحتى ندرأ عن أنفسنا شبهة التطرف والانعزال، بدعوى أن لا أحد يملك الحقيقة، وهم يبطنون أن الحقيقة يمتكلها مثلهم الأعلى، السيد الغربي.
إلا أنه ومع اتفاق كل الفرقاء السياسيين، دون استثناء، والقبول بالاستضلال بظل الحضارة الغربية، مفاهيمها وقوانينها، وأنه تكفينا إجادة النواحي الإجرائية، حتى نلحق بركب الأمم الناهضة وحتى يكون لنا شأن بينها، فإن الأوساط السياسية التقليدية، سواء الماسكة بالسلطة منذ سنة 1956، الحزب الدستوري وما تفرع عنه، أم الفصائل التي لعبت دور المعارضة، اليساريون والقوميون، ومن تشبع بالفكر الديمقراطي الليبرالي ــ نجيب الشابي مثلا ــ لا زالوا لم يهضموا سلطة حركة حزب النهضة بينهم، لأنها تمثل ما استطاع الغرب أن يدسه في المفاهيم السياسية الدولية اليوم ” الإسلام السياسي ” حتى لا يعلن جهرة حربه على الإسلام. وذلك خاصة بعد الفشل المتتالي في تجربة الحكم بعد الثورة مما اتخذوه دليلا على عجز الإسلام على قيادة دولة.
رغم الشواهد الحسية والفكرية التي دأب حزب النهضة على تقديمها، خاصة منذ المؤتمر العاشر أن لا علاقة له بالإسلام السياسي، وهو الأمر الذي حرك الراكد بين كثير من منتسبيه، فإنه آن أوان طرح سؤال متى حكم الإسلام منذ سقوط دولته دولة الخلافة، الخلافة العثمانية، حتى يقال أن الإسلام يفشل في الحكم؟
فلا النظام السعودي نظام شرعي وحكمه حكم الإسلام، ولا الجمهورية الإسلامية الباكستانية كما تعرف رسمياً، والتي انفصلت عن الهند على أساس ديني، حيث اعتبرت أنها دولة المسلمين أقامت الحياة على أساس الإسلام، ولا أقام إخوان سودان الترابي والبشير حكم الله في الأرض، فكيف يجرؤ البهتان على القول أن ” الإسلام السياسي ” خطر على الحياة؟ إلا أن يكون الأمر مستبطن عند البعض في الانخراط في الحرب الغربية على الإسلام، والجهل أعمى آخرين.
إلا أن الخطير والمؤلم أن يكون فريق من أبناء المسلمين يسهمون في ما يحقق غاية الأعداء، تحت طائلة الهزيمة الحضارية والفكرية والنفسية بالتنظير لما يدعم سيطرة الأعداء تحت حجة العقلانية والبراغماتية والواقعية، بتضليل جمهرة أبناء الأمة عما يحييهم.
والأخطر أنه يوجد من أبناء الحركة الإسلامية من يرى أنه كان لا بد للديمقراطية أن تمر عبرهم حتى تتعبد الطريق لها. وأن هذه الحركة من مهامها تجفيف منابع الفكر السياسي الشرعي حتى تتهيأ الظروف… وتسلس الريح للأحزاب والتكتلات المثالية ولا تعوقها هرطقة الغوغاء وغباء العامة.
كيف يغفل أبناء الأمة وقد حملوا مسؤولية الإنسان في هذه الحياة الدنيا عما أكرمهم به الله من نور ورحمة يعالج كل شأن يهمه؟ وكيف يرضى بعض أبناء الأمة أن يعرضوا نور ربهم وينحازوا إلى أعدائه، برفض الخير الذي ارتضاه لهم ولا يكون ذلك إلا بإقامة حكمه في ظل دولة الإسلام، الخلافة على منهاج النبوة.