يبدو أن الرصيد السياسي والشعبي الذي ينفق منه قيس سعيد منذ فترة الانتخابات وإلى الآن أوشك على النفاذ، بما يضع القائمين على هذا النظام الأعرج في تونس أمام تحدّ جديد في أساليب إدارة الأزمات المتراكمة، أو ربما في حسن الإصغاء إلى توجيهات وإرشادات المسؤولين الكبار والسفراء الأجانب الذين لم تعُدْ وصفاتهم السياسية تحقق النتائج المرجوّة لتخدير الشعوب وتنويمها مغناطيسيا…
ولعل هذا الاصطدام المتكرر بالواقع، يفرض على الجميع أسيادا وعبيدا تقاسم حالة الأرق المتزايد ومشاعر الحيرة العميقة تجاه التقلبات اليوميةالتي تفرضها حالة الوعي التراكمي المتنامي المصقولة بالإسلام وأحكامه المطابقة للواقع،بما يُسقط كل حسابات الدول الغربيّة في الماء، ويُبرزُ هذا البلد (تونس) في الخارطة كجزء من أمة إسلامية عريقة صامدة لا تأبى إلا أن تخوض كغيرها من الأقطار الممزقة معركة التحرير والاستقلال الحقيقي والنهائي عن إرادة الغرب ونفوذه، مدركة أن الانتصار في معركة الوعي هو الذي سيمكنها منتحقيق النهضة الفكرية المنشودة ومن رسم مسار جديد في تاريخ البشرية بإذن الله.
فلم تمض أشهر قليلة على توليه رئاسة تونس، حتى اكتشف الشعب أن هذا الفقيه الدستوري ليس سوى الوجه المزين للنظام (تماما كما أشار إلى ذلك حزب التحرير منذ أول وهلة) وأن السياسة ليست كلاما إنشائيا واسترسالا أدبيا بلاغيا وخطابات مشاعرية دون فعل وإنجاز حقيقي ملموس على أرض الواقع، كما اكتشف أن الدولة العميقة ليست سوى الشماعة التي يعلق عليها كل من يوضع على رأس النظام فشله في إدارة المشهد السياسي وممارسة الحكم فعليا، يضاف إليها في عهد الرئيس قيس سعيد عدد من الغرف المغلقة.
وهكذا، يسير حكام تونس في حمل لواء مكافحة الفساد، ومواجهة المكائد والمؤامرات وخوض البطولات الدونكيشوتية، ظنا منهم أن سياسة الهروب إلى الأمام هي التي ستجعل الشعب يصدق تعرضهم لأكبر المؤامرات الكونية التي تهدف إلى وقف سيطرتهم على الأرض وغزوهم للفضاء كما جاء على لسان السيد الرئيس في جربة، مع أنهم جزء من المؤامرة وطرف رئيسي في عملية التحيل على هذا الشعب لسلب إرادته، مهما كانت النيّات، لأن العبرة في السياسة بالفعل لا بالنوايا الطيبة.
بل إن وجود “الدولة العميقة” و”الغرف المغلقة” والحديث عن صراع بين أجنحة النظام في باردو والقصبة وقرطاج أوعن تمرّد المنظمة الشغيلة لهو أكبر دليل على فساد النظام وعجزه على منع تحكم اللوبيّات النافذة في الدولة والموالية للغرب في مفاصل الدولة، هذا إن لم يكن ذلك كله يتم في إطار تبادل الأدوار لتقديم النموذج الديمقراطي الذي يسعى الغرب إلى تكريسه في تونس، ولذلك فإن حرص الاستعمار على مصالحه في بلادنا، يجعله حارسا لهذا النظام مشرفا على تنظيم الحياة السياسية وضبط إيقاع كل المعزوفات السياسية المتناحرة ظاهريا، موغلا في إقصاء الإسلام من الحكم وموهما الناس بأنها تعيش وهم الاستقلال…
فيروس “كورونا” والاستثمار في الأزمة
منذ اللحظات الأولى التي أعلنت فيها السلطات الرسمية عن وجود حالات مؤكدة لفيروس كورنا المستجد، شرعت الدولة المفترضة في تونس إلى التملص من كل مسؤولياتها، وإلى إعلان استقالتها التامة من كل المهام، باستثناء بعض الإجراءات التي توحي بادئ الأمر بأنهم يتعاملون مع مرض عرضي سرعان ما يزول، مع أن الشواهد من كبرى الدول كفيلة لأن تعلن حالة الطوارئ الصحية وتسارع الدولة بتعبئة الموارد البشرية وتقسيم الأدوار وتزويد العاملين في القطاع بما يلزمهم في مختلف الجهات من تجهيزات وسيارات إسعاف وغيرها، خاصة أمام هشاشة القطاع الصحي في تونس. ولكننا بدل ذلك، وجدنا السلطات الرسمية في تونس، تستثمر في وجود هذا الفيروس، لتعلمنا عبر رئيس الحكومة أن التعامل مع صندوق النقد الدولي هو خيار لا مفر منه، وكأن الفيروس حجة كافية للتعامل مع هذا القاتل الاقتصادي.
ثم بعد ذلك، تحول الأمر إلى سباق محموم بين أطراف عدة تطالب الشعب بالتبرع للدولة والتصدق عليها بما تيسر، وشعارها: للصندوق يا محسنين…
فبعد رئيس الحكومة الذي اكتفى بالحد الأدنى وهو دينار، طالب اتحاد الشغل بالتبرع بيوم عمل من أجل إعانة الدولة على تجاوز الأزمة، وجعله تبرعا إجباريا بما ينفي عنه صفة التطوع…
أما رئيس الدولة، فراح يزايد على مجلس النواب على ما يبدو، ليعلن أن وطنيّته تحتم عليه التبرع بنصف راتبه الشهري، مطالبا الجميع بالتنافس في ذلك…
وهكذا، راح الجميع يصرف أذهان الناس عن الأموال المنهوبة والثروات المستباحة والمؤسسات المالية التي أقرضتها الدولة وكل المتهربين الضريبيين، ليصبح الشعب في موضع مساءلة ومحاسبة، ويصدق الجميع الكذبة التي أرساها نظام بن علي، من كون تونس بلد فقير لا قبل له بتعبئة موارد الدولة، مع أنها كما أشرنا أزمة نظام تتميز سياسته الاقتصادية بخضوعها التام للمصالح الغربية التي لا يمكن لها أن تستقر في تونس إلا فوق أعمدة الفساد وأباطرة المال والأعمال.
وقبل هذا كله، فقد كشف فيروس كورونا عن تناقض صارخ من قبل رئاسة الحكومة، حيث سارعت إلى تعليق صلاة الجماعة في المساجد ومنها صلاة الجمعة في وقت مبكر، في المقابل، فقد تركت المقاهي والمطاعم والمحلات التجارية مفتوحة طيلة اليوم، فسارعت إلى غلق بيوت الله باسم الدين في نفس الوقت الذي تحتشد فيه الناس في الأماكن العامة والمحطات ووسائل النقل الجماعي، بل وجدنا النظام يرعى عمليات تعقيم الخمر وتقديمه في الحانات، مقابل عجزه عن تعقيم بيوت الله وآداء فريضة الجمعة وفق الأحكام والرخص الشرعية التي جعلها الله سبحانه لعباده عند الوباء.
وهكذا، راح النظام يسابق غيره من أنظمة الملك الجبري ليستثمر في وجود الفيروس بما يخدم القوى الاستعمارية، فيبدأ باستهداف تجمعات المصلين ويثير موضوع المساواة في الإرث عبر الإعلام ويشكك في أحكام الدين، ويستميت في نشر الرذيلة في المجتمع، ويتناسى كل أزماته ونكباته، وكأنه في راحة من أمره.
ولم يقف الأمر عند ذلك، بل انبرى عدد من الوجوه الإعلامية إلى جلد أبناء الشعب وحط عزائمهم وضرب معنوياتهم في مواجهة الفيروس مع التشكيك في وعيهم، بما يخفف وينفس عن أسيادهم في الغرب، حيث سمعنا من ينعت أبناء بلده بأبشع النعوت، ويصفهم بأقذر الصفات، عبر مقارنات انهزامية تجل الكافر، وتحقر من المسلم، مع أن النظرة إلى الصورة كاملة يري أن الغرب الذي يسوقون لحضارته ووجهة نظره في الحياة قد أفلس تماما، وكل ممارساته صارت مكشوفة مفضوحة تضرب تلك الصورة الناصعة التي يصورها عبيد الاستعمار وأبواقه الدعائية في بلادنا. كما تظافرت جهود جميع ركائز هذا النظام الذي وصلت به الوقاحة إلى أن يحمل الأفراد مسؤولية رعاية شؤون الدولة وإعانتها على تجاوز الأزمة ضمن صورة معكوسة مخزية، تتجلى فيها كل معاني غياب الدولة.
هذا التخبط الفاضح، والتهجم المجاني الواضح، على الشعب الصامد في تونس، يعكس حالة الانهزام النفسي التي يعيشها نظام يسعى إلى عقاب الشعب جماعيا على خيار الثورة والتغيير، وأن يخضعهم ويركعهم إلى سياسات وإملاءات الصناديق الجائرة، ليصبح التفقير والتجويع سياسة رسمية تتبناها الدولة، رغم وجود الموارد والخيرات من غاز ونفط وفوسفات وأملاح وموارد طبيعية وبشرية قادرة على صناعة التغيير الجذري والحقيقي. ولذلك فإن كل محاولات الاستثمار في هذه الأزمة على حساب مصالح الشعب، لا تعد إلا أن تكون رقصة من رقصات الديك المذبوح، تبشر بقرب زوال هذا النظام وسقوط كل دعائمه وركائزه بإذن الله، خاصة أمام سرعة تهاوي الأنظمة الغربية نفسها وعجزها عن قيادة البشرية وتقديم حلول لمشاكلها…
قيس سعيد، بين واقع الاستعمار ووهم الاستقلال
مع أنها أزمة نظام وليست أزمة أشخاص، إلا أن المدقق في نشاط مؤسسة رئاسة الجمهورية في تونس، ليرى فضلا عن محدودية صلاحياتها وانحسار دورها في أمور لا تتعلق برسم السياسات الداخلية للبلاد، أنها تهتم بالنواحي الشكلية دون المضمون، حتى تكاد المضامين تقتصر على خطابات الرئيس الموسمية، والتي تحولت على ما يبدو إلى أسطوانة مشروخة تدور معزوفتها حول المعاني الأساسية التي خاض بها الرئيس حملته الانتخابية، بنفس النغمة ونفس النبرة وعلى نفس الإيقاع الروتيني، بما يجعل من الرئيس استثناء حقيقيا داخل الاستثناء التونسي المطلوب غربيّا، ولذلك نجده يبالغ في رسم صورة طوباوية للديمقراطية الناشئة، بخطاب ملتوٍ وفصيح في الآن ذاته، ينسبإلى الواقع السياسي الذي نعيشه كل معاني الإرادة والتحرر مع يقينه التام من كونه يخاطب شعبا مقهورا مسلوب الإرادة.
بل يمضي في فلسفة الإرادة إلى أن يعانق درجة خياليةمن الصدق والمسؤولية تؤكد للشعب أنه لا وجود لدولة في تونس…بل الموجود فقط شعب يريد، يحكمه صوريا رئيس يهنئ الشعب في كل لقاء بوجود هذه الإرادة، ويؤكد لهم أنهم قادرون على تحقيق إرادتهم إذا توفرت الوسائل القانونية لذلك، دون أن يعطيهم إجراءات عملية أو كيفية لتفعيل إرادتهم، وهو ما يعفيه من اتخاذ القرارات الحازمة المنتظرة في كل مرة، لأن الأهم لدى رئيسنا المفدى هو أن هناك شعبا يصرخ ويريد…
وهكذا، يظهر جليا أن الدور الأساسي للرئيس، هو احتواء هذه الإرادة، وضمها إلى صدره أو في حضنه الدافئ، إلى أن تنطفئ شعلة الغضب، ويعود الشعب أدراجه آملا أن يأتي اليوم الذي ينتصر فيه الرئيس العاجز على تلك الغرف المظلمة، كي يقدر العصفور النادر في قرطاج أن يحقق أمانيّ شعبه الحالم…
فقد تلى الاجتماع الوزاري المنعقد يوم 9 مارس 2020، اجتماع مجلس الأمن القومي بإشراف رئيس الدولة قيس سعيد. ثم أكد في كلمة له على طمأنة التونسيين موضحا أنه سيتم اتخاذ إجراءات أخرى بالتنسيق مع مختلف الوزارات ومع عدد من الدول. هذا من حيث الناحية الشكلية الروتينية.
أما من حيث المضمون، فلم يستطع تمالك نفسه بعد التأكيد على الرفع من حالة التوقيحرصا على سلامة التونسيين. ليعود إلى لعب دور الضحية من موقعه كقائد أعلى للقوات المسلحة، فيقول حرفيا في مفارقة عجيبة: “سنقضي على كل الفيروسات والجراثيم مهما كان مصدرها ومن رتب لها”، تماما مثلما قال في وقت سابق: “أي رصاصة من أي إرهابي يقابله وابل من الرصاص”.
ثم لم يفته أن يسجل هدفا جديدا في مرمى شباك البرلمان، حيث ذكر في ختام كلمتهإلى ضرورة التسريع بسن التشريعات اللازمة كتركيز مؤسسة فداء لرعاية الجرحى وعائلات الشهداء من أبناء المؤسستين الأمنية والعسكرية، وكذلك المبادرة المتعلقة بتنقيح القانون المتعلق بمكافحة الإرهاب وغسل الأموال.
قيس سعيد نفسه، رئيس نفس الدولة المتسولة على أعتاب مؤسسات النهب الدولي، والطامعة في إعانة أبناء شعبها، وجدناه يوم 19 مارس 2020 ينفق مجددا من ذلك الرصيد المتآكل ليجتمع بمديري البنوك التونسية وعلى رأسهم محافظ البنك المركزي، من أجل التباحث حول آليات مساعدة المؤسسات الاقتصادية المتضررة وذلك بتوفير السيولة اللازمة لتجاوز الأزمة، بما يطرح ألف سؤال حول مدى جدية السلطة في تونس في الوقوف إلى جانب شعبها في هذه المحنة، خاصة بعد تصريحات سياسية وإعلامية تؤكد أن الدولة قد حسمت موقفها من المقاربة التي وضعت أمامها، لتخير عند الضرورة أن يموت أبناء الشعب نتيجة لغياب الوعي (على حد زعمهم) على أن يموت الناس جوعا في بيوتهم نتيجة لتقصير الدولة.
يأتي اجتماع قيس سعيد في نفس اليوم الذي أصدر فيه رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ منشورا يقر امتيازات، ومسكنا وظيفيا وسيارتان لكل عضو حكومي، ما يعني أن أولويات المرحلة، هي إنقاذ من تبوأ كرسي الحكم، ولا علاقة لذلك بآلام الشعب أو آماله…
أما في اليوم الموالي، 20 مارس 2020، فقد عادقيس سعيد ليشرف بقصر قرطاج على اجتماع مجلس الأمن القومي، والنظر في الإجراءات الواجب مزيد اتخاذها إثر تقييم القرارات والإجراءات المعلنة في الفترة الأخيرة لمقاومة انتشار فيروس كورونا وذلك على ضوء المستجدات الصحية بالبلاد، بحسب ما أعلنته رئاسة الجمهورية.
ثم في كلمة توجّه بها للشعب التونسي بعد انتهاء الاجتماع، توجّه قيس سعيد بعبارات التهنئة للتونسيين بمناسبة عيد الاستقلالمؤكدا على وجود استقلال حقيقي في تونس سيتم تدعيمه في قادم الأيام، تأكيدا يستشف منه مدى حرص النظام المتهاوي على خدمة الكافر المستعمر إلى آخر رمق، حيث ما كان ليؤكد على هذا الأمر لولا شعوره باهتزاز الثقة اهتزازا كاملا وبحقيقة بيعه للأوهام.
وقد طمأنهم بأن لا يصيبهم الخوف والذعر من انتشار فيروس كورونا بقوله ”نحن نخوض مع البشريّة كلها حربا ضدّ هذه الجائحة” وأكّد أنّ تونس ستنتصر بوعي شعبها وإرادته على هذا الفيروس، مؤكدا أن ”الوضع في تونس تحت السيطرة وأنه لا مجال للخوف والفزع”ثم رسعان ما ناقض نفسه حين قال بأنّ الإجراءات التي تمّ اتخاذها تبقى غير كافية ولذلك تمّت الدعوة اليوم على أن تكون هناك مقاربة عالميّة لتطويق أزمة فيروس كورونا وذلك بتدخّل العديد من المنظّمات الدوليّة على غرار منظّمة الأمم المتحدّة التي طالبها وبشكل مباشر بالتدخل العاجل لأنّ الإجراءات الوطنيّة ستبقى غير كافية، فعن أي استقلال يتحدث هذا الرئيس الهاوي؟
وهكذا، يبتلينا الله بفيروس، ليعري به النظام تعرية كاملة أمام شعبه، وتظهر جميع سوءاته، وتنكشف كذبة القرن في تونس، من كونها “دولة استقلال”…
نسأل الله أن يعجل لشعوب الأمة بدولة الخلافة الراشدة حيث التحرير الكامل والشامل للبلاد والعباد بإذن الله، وما ذلك على الله بعزيز.