تونس بين الاستقلال المزعوم والتبعيّة الفعليّة ½
تُحيي تونس هذه الأيّام الذّكرى الرّابعة والستّين لاستقلالها المزعوم (20 مارس 1956) في ظلّ أجواء غريزيّة مشحونة بفوبيا وباء (كورونا) استهلكت المناسبة وميّعتها وأفقدتها ألقها ورونقها الذي شاع منذ ستّينات القرن المنصرم :فقد أُهمِلت وابتُذِلت وامتُهِنت وكادت تندرس من الأذهان لعدم انطباقها على مسمّاها بالمشاهد الملموس حتّى أضحت باهتة مُحتشمة شبيهة بعيد الشجرة..والأصل في هذه الذكرى أنّها عزيزة على الكيانات القوميّة والوطنيّة التي تُؤرّخ لكينونتها وقيامها بانفصالها السياسيّ عن جسم دولة معادية،ولكن هل يصدق هذا التوصيف على الدويلات الكرتونيّة التي نبتت في العالم الإسلاميّ إثر انفراط عقد الدّولة العثمانيّة وتقاسم الكافر المستعمر لتركتها ضمن اتفاقيّة (سايكس/بيكو) المشؤومة..؟؟ فبعد أن جثم على صدر الأمّة أكثر من قرن اضطلع خلاله (برسالته) المتمثّلة في (الحماية والإعمار والتمدين والتأهيل للدّيمقراطيّة) عمد الغرب الاستعماريّ إلى تسليم الشعوب الإسلاميّة بطاقات ميلادها ككيانات وطنيّة كسيحة تابعة منزوعة المخالب في إطار صفقات مسمومة سُمّيت زورا وبهتانا (استقلالا) تحوّلت بمقتضاها مهامّ الاستعمار بالوكالة إلى زمرة من العملاء والصّنائع المضبوعين بالغرب وثقافته تسلّموا المشعل عن أسيادهم وتكفّلوا بمواصلة وتسهيل المهمّة الاستعماريّة المتمثّلة في نهب مقدّرات البلاد وطمس عقيدتها ومسخ هويّتها أرضا وبشرا وثقافة..وقد جاءت العقود الستّة التي عاشتها الشعوب الإسلاميّة في كنف هذه الاستقلالات الصّوريّة مصداقا لهذا التحليل،إذ لم تزدها إلاّ نأيا عن تطبيق الإسلام وحرفا عن النهضة الصّحيحة وإمعانا في التخلّف والتبعيّة والانحطاط والتفقير والتسخير، ممّا يؤسّس لمشروعيّة التساؤل حول حقيقة هذا الاستقلال المزعوم ومصداقيّته وانطباقه على واقع تونس اليوم:فهل هو فعلا ـ كما يُفترض به أن يكون ـ سيادة وسلطان وتحرّر وانعتاق وعودة لحضن الهويّة الإسلاميّة ،أم أنّه على النقيض من ذلك مجرّد نيابة للاستعمار ووكالة عنه في إنجاز مهامّه القذرة بقفّازات محليّة..؟؟
لا مُشاحة في الاصطلاح
منهجيّا تفترض منّا الإجابة عن هذا التساؤل المركزيّ ضبط المصطلحين (استقلال/استعمار) أي تحديد ماهية كلّ منهما ثمّ تنزيل ذلك على واقع تونس لنصل عبر المقارنة إلى الحكم لها أو عليها والجزم باستقلالها من عدمه،معتمدين في ذلك المعاني التي حمّلهما بها واضعوهما أنفسهم ـ إذ لا مُشاحة في الاصطلاح ـ عسانا نتمكّن من قلب الدّليل على أصحابه وحسبنا بذلك حجّة دامغة بالغة..
اصطلاحا:يعني الاستقلال التحرّر من أيّة سلطة خارجيّة مادّية كانت أم معنويّة،وعدم الخضوع لأيّ سيطرة أو قيد أو نفوذ أجنبيّ،أي أن تكون سيادة الدّولة على مجالها الترابيّ والفكريّ والبشريّكليّة وكاملة وأن تتفرّد بحكم نفسها حسب إرادة شعبها ووجهة نظره في الحياة من غير ضغط أو إكراه..فالاستقلال -إذن- يفترض السّيادة الكاملة والسّلطان التّام والإرادة المطلقة والسّيطرة الكليّة على المقدّرات والقرارات وإدارة الشّؤون الدّاخليّة والخارجيّة بما يقتضيه المبدأ المتبنّى مع غياب كلّ أشكال التبعيّة لا نستثني من ذلك الوصاية أو الإشراف أو الرّقابة الدوليّة..وهو تعريف جامع مانع ينطبق تمام الانطباق على واقع دول العالم “الحرّ”.
ونظيره شرعا – من زاوية العقيدة الإسلاميّة- السّلطان والأمان:أي أن يكون سلطان القطر ذاتيّا نابعا من أصحابه المسلمين وأمانه بأمان الإسلام وأهله..
وفي المقابل فإنّ الاستعمار يعني فرض السّيطرة العسكريّة أوالسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة على الشّعوب المستضعفة لاستغلالها أي للاستئثار بخيراتها ومقدّراتها ومحو هويّتها العقائديّة والحضاريّة وتذويبها في هويّة المستعمر..
هذا المعنى الاصطلاحيّ الخام المستفزّ وقع تلطيفه غربيّا وتسويقه في صورة رسالة حضاريّة ومهمّة إنسانيّة في ذمّة الأمم المتقدّمة تجاه الشّعوب المتخلّفة لتأهيلها وتمدينها وترشيدها والأخذ بيدها..وإمعانا في المكر والتضليل استُعيض عن الشّكل التقليديّ للاستعمار المتمثّل في التسلّط العسكريّ الدمويّ المباشر بشكل خفيّ من أساليب السّيطرة الاستعماريّة الحديثة (نيوـ أمبريالزم)وهو التسلّط غير المباشر الذي يقوم على الوصاية السياسيّة والسّيطرة الاقتصاديّة والغزو الثقافيّ للدّول والشّعوب مع الاعتراف باستقلالها الظّاهريّ الشّكلي وسيادتها الجزئيّة،ويتحقّق بوسائل (سلميّة) من قبيل تكريس التبعيّة الاقتصاديّة والتكبيل بالمعاهدات الدوليّة المجحفة والاستثمار والإعانات المشروطة والخبرات الأجنبيّة والقواعد العسكريّة والإغراق بالقروض الربويّة وفرض اللغة والثّقافة وأسلوب العيش،وخاصّة عبر الارتهان السياسيّ بتنصيب العملاء والسّماسرة حكّاما على الرّقاب..وقد عبّر الفيلسوف الأمريكيّ (نعوم تشومسكي) عن ذلك بقوله (لم يعد الاحتلال العسكريّ السّافر ضروريّا فقد برزت وسائل حديثة تعوّضه مثل صندوق النّقد الدوليّ والبنك الدوليّ وسائر مؤسّسات الإقراض..)
الهويّة بين الأصل والنّسخة
إنّ من أوكد مهامّ الاستعمار وأخصّ خواصّه ـ إلى جانب نهب الثّروات ـ مسخ هويّة البلاد والعباد وغزوهم ثقافيّا وإلحاقهم حضاريّا بهويّته،لذلك من المفيد منهجيّا في هذا السّياق أن نستعرض هويّة تونس أرضا وشعبا قبل الاستعمار وبعده،أي كيف تسلّمت فرنسا البلاد في 1881 وكيف سلّمتها لبورقيبة وزمرته في 1956 ،حتّى نستطيع عبر المقارنة أن نجزم هل أنّ الذي حصل في ذلك التّاريخ هو استقلال فعليّ عن فرنسا أم أنّه صفقة تحوّلت بموجبها مهامّ الاستعمار بالوكالة إلى الطّاقم المحلّي..؟؟ ولعلّه من فضول القول التذكير بأنّ هويّة هذه الرّقعة من الأرض بمن عليها من سكّان قد تحدّدت بشكل نهائيّ منذ ألفيّة ونصف يوم جاءها العبادلة السّبعة في 27هـ/648م:فهي منذ ذلك التّاريخ أرض إسلاميّة خراجيّة رقبتها بيد بيت مال المسلمين،أمّا شعبها فمكوّن أساسيّ من مكوّنات الأمّة الإسلاميّة وركن ركين من بنيانهاحسُن إسلامه ووُضِعت عنه الجزيةبقدوم موسى ابن نُصير سنة90هـ.وقد اغتصبت فرنسا البلاد والعباد على هذه الهويّة:إيّالة عثمانيّة تُطبّق فيها أنظمة الإسلام ويُحكم فيها بما أنزل الله طيلة 1400 عام،أي دار إسلام في إطار دولة الخلافة العثمانيّة الإسلاميّة..والمنطق يقتضي أنّ استقلالها لا يتحقّق إلاّ باستعادة تلك الهويّة كاملة غير منقوصة،فهي النّسخة الأصليّة التي يُقاس عليها والنّموذج الذي يُحتذى لتجسيم الاستقلال الفعليّ.فالاستقلال بما هو سيادة وسلطان وأمان وإرادة وأصالة وهويّة وانعتاق وانفراد بالشّأن يكمن في استعادة هذه الهويّة الإسلاميّة التي اغتصبت فرنسا البلاد عليها ولا يتحقّق إلاّ بها..فهل أرجعت فرنسا البلاد إلى بورقيبة وزمرته يوم 20 مارس 1956 بتلك المواصفات حتّى نعتبر ذلك استقلالا..؟؟ هل أعادت لهم النّسخة الأصليّة التي استماتت القبائل التّونسيّة في الدّفاع عنها واسترخصت في سبيلها دماءها وأموالها ،أم سلّمتهم نسخة مشوّهة ممسوخة مغرّبة مزيدة منقّحة ونصّبتهم نواطير لمصالحها وكلّفتهم بمواصلة مهامّها الاستعماريّة بالنّيابة..؟؟ هل نتحدّث اليوم عن استقلال أم عن استقلاليّة (أوتونومي) أي استعمار ذاتي بقفّازات محليّة (أوتو ـ كولونيزاسيون)..؟؟
الدّستور والهويّة
ممّا لا شكّ فيه أنّ الدّستور في تونس قد اعتُمِد منذ وضعه في نسخته الأولى سنة 1861 كآليّة من آليّات استهداف الهويّة الإسلاميّة للبلادوالعباد:فدستور عهد الأمان ودستور الاستقلال (1959) ودستور الثّورة الحالي (2014) استهدفت ثلاثتها سيادة البلاد ومقدّراتها وانتماءها الثقافيّ والحضاريّ بخبث ودهاء ومكر وباعتماد المرحليّة ودسّ السمّ في الدّسم وذلك وفق سيرورة تصاعديّة مافتئت تنحو منحى الجراءة والسّفور والشّيء من مأتاه لا يُستغرب..
فالأوّل (أي دستور عهد الأمان) صدر بإيعاز وضغط وتدخّل سافر من القناصل الأوروبيّين وبتأثير شخصي من (جوزاف راف) الوزير الفرنسيّ في حكومة الباي (نعم ؟؟)..
والثّاني (أي دستور 1959) صِيغ بإشراف فرنسيّ بريطانيّ مباشر في شخص ابنهما البارّ (الحبيب بورقيبة) وحاشيته وتحت رقابة العين البصيرة لليهوديّ البريطاني (سيسيل حوراني) مستشار الرّئيس بورقيبة آنذاك..
أمّا الثّالث فقد وُضِعت بنوده بإملاء اليهوديّ الأمريكيّ (نوح فيلدمان) المتخصّص في دساتير العالم الإسلاميّ الممسوخة،لذلك فلا غرابة أن جاءت هذه الدّساتير محاربة لله ورسوله وأحكامه وتشاريعه..وفي هذا الخضمّ الخيانيّ الاستعماريّ لطالما تشدّق العلمانيّون ودعاة الإسلام المعتدل على حدّ السّواء بمجلّة الأحوال الشخصيّة وبالفصل الأوّل من دستور الاستقلال وتشبّثوا بتلابيبهما للتدليل على استقلال البلاد وعدم انبتاتها عن جذورها الثقافيّة والحضاريّة وذلك في مفارقة وقحة مناقضة لواقع تينك الوثيقتين. وبالمشاهد الملموس فمجلّة الأحوال الشخصيّة تتناقض ـ صياغة وتفسيرا ومنهجا وأحكاما ـ مع الشّرع الإسلاميّ،فقد تعمّد واضعوها التنصيص على بنود وقوانين مخالفة لنصوص محكمة وأحكام شرعيّة قطعيّة لاسيّما في أبواب الزّواج وموانعه والطّلاق والعدّة والعلاقة الزّوجية والتبنّي والوصيّة..أمّا الفصل الأوّل من دستور 1959 فقد نصّ على أنّ تونس (دولة مستقلّة ذات سيادة الإسلام دينها والعربيّة لغتها والجمهوريّة نظامها) وهذا حقل ألغام ينسف الهويّة الإسلاميّة للبلاد والعباد:فلا يُفهم منه أنّ الإسلام عقيدة الدّولة ومرجعيّتها التشريعيّة ،وممّا يؤكّد ذلك التنصيص على النّظام الجمهوريّ كخيار وحيد للحكم بما يحيل على العلمانيّة وفصل السّلطة الدّينية عن السّلطة الزّمانية..هذا من حيث كون الدساتير والقوانين وضعيّة مخالفة لعقيدة الأمّة بل محاربة لها صيغت بأعين الكافر المستعمر ووحيه خدمة لمصالحه ومخطّطاته الهدّامة تجاه الأمّة..
لا سيادة ولا سلطان
وتتّضح الصّورة أكثر كلّما توغّلنا في التفاصيل والجزئيّات، فالحكّام الذين تداولوا على السّلطة في تونس منذ مسرحيّة الاستقلال قد جعلونا رهائن للغرب وأسرى لديه يتدخّل في شؤوننا ويفرض علينا طريقته في العيش ونظرته الاقتصاديّة في تلبية حاجيّاتنا ومواقفه السياسيّة في علاقاتنا الدوليّة، فتونس اليوم تُحكم عمليّا بتشريعات المستعمر في الحكم والقضاء والاقتصاد والتعليم..كما تتجلّى مظاهر الهيمنة في كلّ الجوانب الفكريّة والتشريعيّة والسياسيّة والأمنيّة والثقافيّة :فقانون الميزانيّة المعمول به اليوم ما هو إلاّ تعديل للقانون الذي وضعته فرنسا سنة 1882 وفرضت من خلاله الضّرائب الدّائمة على الشّعب..والتعليم يسير وفق مشروع (لويس ماشويل) الذي رفضه علماء الزّيتونة لما فيه من ضرب للشّريعة وتغريب للنّاشئة..ومجلّة العقود والالتزامات التي تنظّم المعاملات وضعها اليهوديّ الإيطاليّ (دافيد سانتلاّنا) سنة 1907..وقِس على ذلك القضاء والحكم والوسط السياسيّ وغيرها من أنظمة الحياة،فكلّها غارقة في حمأة العمالة والتبعيّة والقوانين الوضعيّة..
أمّا عن مخازي الزّمرة التي أفرزتها الثّورة فحدّث عن البحر ولا حرج، فقد رهنوا البلاد للكافر المستعمر وجعلوا اقتصادها مجرّد حساب جاري في صندوق النّقد الدوليّ وفرّطوا في مقدّراتها للشّركات النّاهبة تستأثر بها دون أهلها وسلّموا أمن تونس وإعلامها وصحّة شعبها ودوائرها الحكوميّة لبريطانيا..فعن أيّ سيادة نتحدّث واليهودي (نوح فيلدمان) يُملي على (النوّاب) بنود الدّستور التونسيّ..؟؟ وعن أيّ سلطان نتحدّث والانتخابات يشرف عليها القناصل الأجانب في مراكز الاقتراع..؟؟ وعن أيّ إرادة نتحدّث والبنوك الدوليّة تتحكّم في ماليّة البلاد وتتدخّل في كلّ كبيرة وصغيرة من دواليبها..؟؟ وعن أيّ استقلال نتحدّث ودستور تونس لا ينصّ على سياسة خارجيّة ووثيقة الاستقلال سريّة لم تُكشف بنودها للرّأي العامّ..؟؟
إنّ الاستقلال الحقيقيّ لا يتحقّق في الواقع إلاّ بقلع نبتته الخبيثة من جذورها وعدم الاكتفاء بما ظهر منها فوق الأرض ،أي بكنس أفكاره وعقائده وأنظمته ورجالاته ومؤسّساته من هذه الأرض الطيّبة وتعويضها بما تُمليه علينا عقيدتنا الإسلاميّة ،وهذا لا يتحقّق إلاّ في إطار دولة الخلافة الرّاشدة على منهاج النبوّة،وما سوى ذلك فاستخفاف بالعقول ورسكلة للاستعمار واستنساخ له بأشكال جديدة..
فهل نحن فاعلون..؟؟
أبو ذرّ التّونسي (بسّام فرحات)
CATEGORIES محلي