متلازمة دخول جحر الضب

متلازمة دخول جحر الضب

في الفترة الأخيرة، وقع على البشرية ابتلاء عظيم، لم يسلم منه أهل الشرق ولا أهل الغرب ولا أهل القبلة. هو وباء عالمي سمي بالكورونا المستجد، وأعاد إلى الذاكرة متلازمة الشرق الأوسط التنفسية، ولكنه في الآن ذاته قد كشف الغطاء عن أمر هو أشد خطورة وفتكا بالشعوب المسلمة من الأوبئة العابرة للقارات، سواء منها الطبيعية أم المصنّعة. إنها متلازمة تقديس الغرب!

فهل صار الإيمان بالغرب وعلومه وكل إفرازات حضارته عقيدة راسخة لا تتزعزع عند البعض من بني جلدتنا؟ وهل كان لا بد من وباء أو طاعون كي يراجع البعض حساباتهم خاصة فيما يتعلق بطبيعة التعامل مع الغرب؟

مغناطيس الغرب

تعيش جمهرة من الناس بفعل الاستعمار وقوة دعايتهانجذابا قويا نحو القطب المستحوذ على الأذهان حتى لا تكاد ترى غيره. ينتصب الغرب في موقع المركز الذهني، ليصبح الطرف النموذجي المقابل للذات الجمعية التي تم تجهيلها من قبل الأنظمة العملية خدمة لمصلحة هذا الغرب، بما يبقيه مستحوذا لا على ثروات الشعوب فحسب بل على أذهانهم، وهو ما يسهل عملية الإخضاع الكلي والجماعي لكل منتجات الحضارة الغربية، فضلا عن مدنيّتها، لتصبح ثنائية (هم) و(نحن) مستساغة بما فيه الكفاية عند ضخها كمادة إعلامية من قبل ماكينات صناعة الانهزام النفسي.

سطع الغرب فأخذ بالألباب، وكان يكفي ابتداءً ذلك التململ المعهود من الضمور الحضاري الذاتي، عندما يأتي مشفوعاً بنظرة إلى ما بلغه “الآخرون” من مراتب الرقيّ والتقدّم والعلياء. ولكنّ هؤلاء “الآخرين” لم يكونوا في واقع الأمر سوى “الغرب” ذاته، ولا أحد سواهم يشغل الوعي.

وما إن يباشر أحدهم شرحه في أي موضوع كان، حتى تتخذ إشاراته إلى “الغرب” سبيلها في حديثه عجباً. هي تقفز هنا وهناك بداعٍ وبدونه، ويستوي في ذلك الإمام والمأموم، الطبيب والمريض، المعلم والتلميذ، الحاكم والمحكوم.

سيقال: إنّ “لدينا هذا وذاك قبل أن يكتشفه الغرب بمئات السنين”، وسيدفع بعضهم بالتوطئة المعتادة: “عندهم في الغرب يفعلون كذا، وعندنا نفعل كذا”. ويمضي آخرون إلى استبطان الغرب نموذجاً في التفاصيل جميعاً، منطوقها ومفعولها، وهم في أفضل حالاتهم نسخة مقلّدة عن الأصل الذي لم يحصل التحقق من جدواه.

إلا أن تفاصيل الثقافات الأخرى عربها وعجمها، حاضرها وماضيها، لن تنال حظها ولن تجد سبيلها إلى القبول إلا بعد اجتيازها المشروعية الذهنية التي يمنحها السيد الغربي، ومن ذلك الإسلام الذي صار لا بد له أن يكون ديمقراطيا مستجيبا للقيم الكونية ولمبادئ حقوق الإنسان التي أقرتها النظم الغربية.

وهكذا ظلّ الوعي بالدوائر الثقافية المتنوعة، يمرّ غالباً عبر نظّارات غربية، وسيبدأ الأمر مع برامج الأطفال وينتهي بعد منتصف الليل. ولنا أن نتصور الآن كيف نجح الغرب في تركيع الجميع وجرّهم إلى طاولات حوار الحضارات التي تنصب فوق المقابر الجماعية لضحاياهم. ومع ذلك ترى أن هؤلاء يبيحون تقديم كل القرابين وإراقة كل الدماء من أجل عيون الغرب.

بل لنا أن نتصور قبل ذلك، كيف نجح هذا الغرب المقدس، في إيقاف عجلة الزمن في بلاد الإسلام من حيث الإنتاج والإبداع، ليتقدم في علومه وبحوثه ومعارفه أشواطا رهيبة، وأداته في ذلك أنظمة من صنعه وتدبيره، وحكام مضبوعون بفكره نشؤوا بين أحضانه،فعطّلوا طيلة قرن من الزمان نشاط الأمة وثروتها التشريعية وكبّلوا طاقتها الذاتية وحاربوا كفاءاتها إلى حد الاغتيال أو إقامة الحد في سجون الأنظمة “الديمقراطية”، باستثناء من طبع منهم بالثقافة الغربية فجذبه الحنين إلى الغرب ليعيش بين دفئ أحضانه ويصبح سنّا في دولاب الإنتاج الصناعي والتكنولوجي في الغرب.وربما يشتد الابتلاء على قومه عند عودته فاتحا للبلاد فتحا ديمقراطيا مبينا، ليتولىبتزكية غربية أعلى المناصب في السلطة، مع أنهلا قبل له بوضع إبرة في خيط إلا عبر مشورة الغرب.

ثقافة جلد الذات

منذ صغرنا جُبلنا على تقديس صورة الغرب المتطور والمتحضر حتى أصبحنا شعوبا تجلد ذواتها مقابل أتفه موقف يقوم به إنسان غربي. تكاد تتكسر رقابنا احتراما وإجلالا لإنسانيتهم وأخلاقهم المزعومة. بينما لو تطلعنا للتفاصيل الثقافية والحضارية والأخلاقية لهم، لرأينا تلك الهوة التي لا تردم بين ما يدعيه الغرب وما يمارسه في الواقع. وهذا يقودنا للسؤال “ما مدى إنسانية ذلك المجتمع الغربي وما مدى حضارته؟ ببحث صغير نجد أن جل المجازر التي شهدها العالم كانت أنظمة الغرب سببا فيها. لكن بما أن الإعلام بأيديهم فستبقى صورتهم براقة لامعة وستضل صفة المتخلف الإرهابي الملتحي وصمة على جبيننا.

أما أن يخرج علينا هؤلاء المنبهرين كل يوم محاولين بث سموم فكرهم المهزوم في الأمة، محاولين تولية وجوه شبابها شطر كل إفرازات الحضارة الغربية. منادين فيهم بأن الحل يكمن في الأخذ عن الحضارة الغربية واقتفاء آثارها في الكبير والصغير، في الصالح والطالح، وحتى في إجراءات الوقاية من الوباء ومراحلها، فهذا هو الخطر بعينهالذي يغيب معه كل دور منوط بالأمة وتذوب شخصيتها في حضارة الغرب وكأننا أمة بلا دين ولا تشريع، أو كأن الإسلام بلا سلطان.

أليس قدوة هؤلاء هو مجرم العصر وهادم دولة الخلافة (مصطفي كمال أتاتورك) الذي دعا الأتراك أن يأخذوا من الغربيين كل شيء حتى الديدان التي هي في بطونهم؟ وما أطول قائمة المنهزمين والمنبهرين بحضارة الغرب اليوم في بلادنا وفي مجتمعاتنا وفي منتدياتنا وفي مؤسساتنا الرسمية. وما أكثر تواجدهم. وما أخطر المواقع التي يبوئونها، والتي منها يطلون علينا ليل نهار يدكون حصون هويتنا، وحضارتنا، وثقافتنا، ويعطوننا دروسا في الأخلاق الحميدة مع أنهم في العمالة غارقون، كالعاهرة التي تحاضر عن العفة.

ولذلك نجدهم يغالون في جلد شعوبهم ونعتهم بأبشع الأوصاف يتصيدون زلاته للتشكيك في وعيه ولمزيد إحباطه، ويغمضون أعينهم في المقابل عن توحش النظام الرأسمالي وفتكه بشعوبه، والاعتداء على بقية الشعوب بالحروب ونشر الإرهاب وإثارة الفتن والقرصنة البحرية ونهب ثرواتهم وامتصاص دمائهم…

متى سيخرجون من جحر الضب؟

إنه لمن المؤلم حقاً أن الحكام في بلاد المسلمين يتبعون خطوات الغرب شبراً بشبر وذراعاً بذراع، فإذا اضطربت تلك الدول في معالجتهم داء معينا تبعوهم، وإذا اقترحوا حلاً ولو كان على غير سواء صفق له الحكام في بلاد المسلمين وعدوه صحة وشفاء!ومع أنهم قد دخلوا جحر ضبّ الغرب يتخيرون أحسن ركن داخل هذا الجحر في أحسن الحالات، فإن أسبوعا من الحجر الصحي (من لبنان إلى المغرب) كان كافيا لتظهر فيه المبادرات والصناعات والقدرات والطاقات التي تنشد التحرر النهائي من الغرب.

فهل آن للمخلصين ولبعض المغرّر بهم أن يخرجوا من جحر الضب ويعودوا إلى أحضان أمتهم من أجل استعادة خلافتهم، أم أنهم ينتظرون سقوط البنيان الذي صدعه مكر الغرب ونفاقه العالمي؟

قال تعالى: “قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُون”.

المهندس وسام الأطرش

CATEGORIES
TAGS
Share This