إشادتي بالنموذج الكوري مبنية على دراسة وتدبّر في مجموع السياسات المتّبعة في العالم ضدّ وباء كورنا، وما أشرت إليه في مقال سابق بعنوان: “كورونا: أزمة الإدارة وإدارة الأزمة”، كمقارنة بين النموذج الفرنسي والكوري، هو في الحقيقة نتيجة لتلك الدراسة السابقة. والحمد لله، فإنّي أرى كثيرا من المختصّين في العالم، وفي تونس أيضا، بدأوا التوجّه نحو هذا النموذج والدعوة إلى اعتماده. وسألخّصه في كلمات قليلة، ولكن أحبّ قبلها أن أشير إلى مسألة.
كلّ شيء في الحياة مهما كانت بساطته يحتاج قبل الشروع فيه إلى رؤية واستراتيجية وخطّة تبيّن كيفية تناوله والتعامل معه. فسياسة التعامل مع كورونا مهمّة جدّا، وهي أساس النّجاح في القضاء على هذا الوباء. والناظر في سياسات دول العالم يجد اختلافا في خططهم وكيفيات تناولهم للأزمة؛ فهناك من الدول من أقرّ الحجر الصحي العام وألزم الناس بالبقاء في بيوتها، وهناك من دعا إلى حجر صحي في مناطق معيّنة، وهناك من دعا إلى نظرية مناعة القطيع وترك الناس تمارس حياتها العادية مع الاكتفاء بالتباعد وأخذ الاحتياطات لمقاومة العدوى. وبناء عليه، لا توجد سياسة موحّدة تتعلّق بكيفية تناول وباء كورونا؛ ولهذا فمن الخطأ التشنيع برأي ما وإنما الواجب النظر بتعقّل وروية والاستفادة من التجارب للوصول إلى سياسة حكيمة.
فقد اختارت تونس تقليدا إجراء الحجر الصحي العام، وألزمت الناس بقوّة القانون البقاء في بيوتها، ومع أنّها سياسة معتبرة من وجهة نظر شرعية وعلمية طبيّة إذا طبّقت بإحسان، إلّا أنّها لا تليق بتونس لأسباب كثيرة منها المشكلة الاقتصادية التي يعاني منها البلد دولة وأفرادا. فكيف يلزم الناس بعدم العمل رغم فقرهم واحتياجهم، وكيف يلزم الناس بالبقاء في بيوتهم رغم أنّ الدولة لا توفّر لهم الحاجات الضرورية؟ فمن أقرّ سياسة الحجر الصحي العام كبعض بلدان أوروبا تجهّز لها اقتصاديا وثقافيا؛ بمعنى أنّ الناس منضبطة وقادرة على الالتزام بالحجر، كما أنّ الدّولة بادرت باتخاذ إجراءات للتعويض وسدّ حاجيات الناس. وأمّا تونس فليست مؤهلة لهذا، ولم تتجهّز له، وإنما اتّخذت القرار تقليدا والتزاما بقرارات الغرب؛ ولهذا يخشى من التبعات السلبية لهذا الحجر.
ونعود الآن إلى نموذج كوريا الجنوبية التي أشاد العالم بأسره بكيفية تناولها للوباء. فهذا البلد لم تتوقف الحركة فيه، ولا زال الناس فيه يمارسون حياتهم العادية، ولا زالت العجلة الاقتصادية فيه دائرة، والسبب يعود إلى سعة أفق وعمق نظر في اتّخاذ السياسة الحكيمة لمكافحة الأوبئة.
وتقوم سياسة كوريا الجنوبية على نقطة محورية هي: إذا كان وباء كورونا سريع الانتشار من خلال العدوى، فعلينا إذن أن نحدّد المريض، ولا يكون ذلك إلّا بالتحليل. وبناء عليه، فإنّ كوريا الجنوبية حدّدت سياستها في الإكثار من التحليل لمعرفة المصاب بالداء ثمّ متابعته ومتابعة اتّصالاته، وتأتي بعدها إجراءات العزل والمعالجة وغيرها. وقد أدّى تحديد هذه السياسة إلى تنافس الشركات في اكتشاف أدوات التحليل، ونجحت في اختراع نماذج كثيرة متعدّدة، أمكن للسلطات اعتمادها بكيفية ناجحة. وهكذا ترى في كوريا الجنوبية طوابير من الناس تتجهّز للتحليل، علما أن التحليل يكلّف 140 دولارا تدفعها الدّولة إذا كانت نتيجة الفحص إيجابية. إذا، التحليل، مع اتّخاذ إجراءات الحيطة من تعقيم ولبس القناع والابتعاد، أدّى إلى نجاح كوريا الجنوبية في مكافحة الوباء واستمرار الحياة فيها.
وقد كان بإمكان تونس أن تتبّع هذا النموذج، فتستثمر في اكتشاف أدوات الفحص والتحليل، أو في استيرادها، مع حملة تثقيفية توعوية للبس الأقنعة الطبّية والتباعد، ثمّ القيام بحملة في كامل البلاد من أجل الفحص والتحليل. وهكذا تستبق المرض وتمنع تفشيه وتحصره، وتواصل النّاس حياتها بكيفية عادية، ولكن غرامنا بفرنسا خاصّة يمنعنا من التفكير السليم ويرغمنا على اتّباعها في سياستها وعلاجها رغم فشلها ورغم أنّ كثيرا من قراراتها غير علمية وغير صحيحة. ومثال ذلك: ففي فرنسا، وأوروبا بصفة عامة، يقلّل بعض الخبراء من قيمة لبس الأقنعة الطبّية، في حين أنّ كوريا الجنوبية وبعض بلدان آسيا تركّز على أهميته في منع تفشي المرض وتستشهد بالواقع عندها، والسبب عند الأوروبيين ليس علميا ولا عمليا، إنّما هو فشلهم في استباق الأزمة وخوفهم من نفاذ الأقنعة الطبّية التي تحتاجها الطواقم الطبية. ونرى الآن بعض ولايات أمريكا وبعض بلدان أوروبا قد اقتنعت بأهميته وتطالب النّاس بلبسه. فمتى ندرك أن لا خير في اتّباع فرنسا وأوروبا، وأن الخير كلّ الخير في استقلالنا الفكري والحضاري والسياسي والاقتصادي.