حديث عن الوعي: لماذا يُستثنى المتطاولون على الشعب من التحجير؟

حديث عن الوعي: لماذا يُستثنى المتطاولون على الشعب من التحجير؟

الوعي هو جوهر الإنسان وخاصيته التي تميزه عن باقي المخلوقات،وهو الذي يميّز فكرا عن فكر وسلوكا عن سلوك.إذ الوعي هو ذاك الإدراك العميق لواقع الأشياء والإحاطة بجميع جوانبها, وفهمها فهما صحيحا للتمكن من تحديد الموقف المناسب منها

لكن للأسف فإن للوعي عند بعض من يشاركوننا الحياة على هذه الأرض معنى آخر، يمثل جِماعا من الصفات والأفعال الدنيئة التي تصبّ جميعها في بركة آسنة ملؤها أوحالٌ فكرية ورواسبُ عقود طويلة من الانحطاط والانبطاح والهزائم التي تشرّبتها النفوس المريضة واستساغتها قلوبهم وأذهانهم عبر الزمن..

تلك المجموعات من المتحلقين في بعض منابر الإعلام المشهود لها بالتآمر على الشعب لم تفوّت فرصة منحة ولا محنة إلّا فاضت ألسنتهم بأبشع ما تسمع الآذان.. ويقودهم في التهجم مسؤولون في الصف الأول، وجنرالات في الكذب والتسويف يعانون أمراضا فكرية ونفسية مزمنة، فأغلبهم فاقد للشجاعة والجرأة الفكرية التي تخول لصاحبها اتخاذ القرارات الصائبة والصالحة له ولمن يقوم على شأنهم إن كان على رأس مسؤولية حكمٍ أو إدارة. (وهنا مكمن أزمة أمتنا الإسلامية بأكملها).

فمنذ أن أعلنت الحكومة التونسية عن حجر صحي عام في البلاد، هبّت جماعات ممن يدعون النخبوية والتفقه في كلّ أمور الدنيا والدين، جماعات لا تتقِن إلا الرّجعة إلى الوراء، لا يخفون حنينا مرضيّا لماضي البطش ودولة البوليس. وأغلبهم ممّن عاقبهم الشعب بالمنع من الحديث في شأنه العام مرات ومرات، وعدم الظهور في شاشات الإعلام بعد أن انهالوا عليه وعلى جميع فئاته بشتى النعوت المنحطة تسفيها وترذيلا…

وهاهم اليوم رغم ذلك تتعالى أصواتهم مطالبين “بكبح جماح الشّعب” وإلزامه البقاء في البيوت بالقوة العامّة… دونما إشارة إلى مسؤولية الحكومة منذ البداية في دخول المرض وانتشار العدوى، ولا إلى عِظم جُرمها في حقّ العائلات التي تبيت ليلها تعاني وطأة الجوع والفاقة، بعد أن سلّمت زمام أمرهم وأقواتهم بيد لوبيّات النّهب الاقتصادي التي صارت تتصارع في العلن، حتّى وصل الأمر بكبير أعرافهم أن ردّ على رئيس الحكومة وأحد وزرائه بالقول: ما عندك ما تعملي وقداش باش تقعد وزير، في لهجة فظّة لا تدانيها إلا لغة “البلطجيّة”.  نعم لقد عميت أعين أولئك المتزحلقين على بساط السلطان المضرج بعرق الرجال، عميت أعينهم عن الذين لا يجدون قوت يومهم،عمن قطع عنه الحجر سُبل اللقمة بعد أن كان رزقه يأتيه من بعض القوارير البلاستيكية يجمعها من القمامة. وخرست ألسنتهم الآثمة أمام ما عدّه المعهد الوطني للإحصاء من التونسيين القابعين تحت عتبة الفقر بأكثر من مليون و700 ألف شخص. لعل تلك الحكومة ورئيس البلاد يذكّر أو تنفعه الذكرى..

إن أولئك العابثين بالرأي العام والسليطة ألسنتهم على شعبنا، هم بالأساس أبواق لمنظومة فكرية غارقة في الفساد، معطوبة بالجهل المركب، يعبدون الرواية الرسمية لكل وقيعة وكل حدث، ويستميتون في الدفاع عنها بل وإذكائها بجرعة من التخوين والترهيب لعامة الناس إن هم خالفوها. يستمرؤون اللقمة المغمّسة بالدّم تأتيهم من معاداة الشعب المنهك أصلا قبل المحنة وبعدها، فبعد أن أكلوا من لحمه بألسنتهم حيا وميتا، يستمتعون بالألقاب الزائفة التي يهبهم إياها القائم بأعمال رأس المال المنصب على رأس كل مؤسسة لها شيء من التأثير في الرأي العام والقدرة على توجيهه صوب الوجهة التي يريد، وهو غالبا ما يريد وجهة تبرئة موظفيه ووكلائه صلب التشكيل الحكومي الفاشل.

فلا بأس أن نذكّرهم وكل من يطعن في وعي الشعب وتذهب به حالة العدوان تجاهه أيما مذهب بأن:

-أول من يتحمل مسؤولية تفشي عدوى فيروس كورونا في البلاد هي الحكومة التي تشرف على حركة العبور في الموانئ والمطارات، ولقد طالبها الشعب منذ بداية تفشي الفيروس في إيطاليا بإغلاق المطارات وإيقاف حركة المسافرين من إيطاليا وإليها، ولكنها تعنتت ورفضت خوفا أو ضُعفا أو ارتهانا لأصحاب الارتباطات الخارجية المالية والرأسماليين المتنفذين) وذلك طبعا على حساب أرواح الناس وآلامهم (.. إلى أن أغلقت إيطاليا كل مطاراتها وآخرهم مطار روما الذي حاولت الحكومة التونسية استغلاله للظهور بكونها هي من بادرت بالفعل والحال أن تقاعسها كان مكشوفا للجميع.

-الحكومة مسؤولة عن كل الذين دخلوا البلاد ولم تُخضِعهم للحجر الصحي الإجباري، فمنهم من لم توفر لهم الأماكن المخصصة ومنهم من رأيناه يتحدث على مواقع التواصل الاجتماعي عن عدم وجود أي إجراءات للمراقبة والتقصي في المطارات… بعد أن ادعت امتلاك إستراتيجية متكاملة للتعامل مع الوافدين.

ومن جهة أخرى، لتتذكر شلّة المتهجمين على عموم الشعب كيف عجزت الحكومة عن صرف مساعدات للناس وخرجت بإجراءات رافقها كثير من الارتباك والارتجال وغاب عنها التنسيق بين مختلف الأطراف المتدخلة فكانت نتائجها عكسية بل كارثيّة، إذ تسببت حسب العديد من ممثلي قطاع الصحة في إجهاض مجهودات وزارة الصحة في حربها ضد الوباء. بعد أن أدّت بآلاف العائلات إلى التجمهر أمام البلديات والمعتمديات ومكاتب البريد، والاصطفاف في طوابير، بل التكدّس والاحتشاد من أجل الحصول على شيء من «السميد» و«الفارينة»، فكانوا ضحية لاستهتار الدولة وفشلها اللامتناهي في تصريف شؤون الناس زمن السلم فما بالك والزمن زمن الحرب. وللإشارة فان الحكومة كعادتها بحثت عن التبرير وحبل التهرب من المسؤولية ووجدته في إلقاء اللائمة على أطراف مجهولة “تبيّن لها” فيما بعد أنها كانت تبعث بإرساليات قصيرة إلى كبار السن للخروج لتسلم مساعداتها من مقرات البريد وغيرها لتسجيل أسمائهم في مقر المعتمدية للانتفاع بالمساعدات التي أقرتها الدولة.

ثمّ إذا ما نظرنا في التطبيق المباشر لحظر التجول إبان إعلانه من قبل رئيس الجمهورية فانه لم يكن ذا جدوى باعتبار التوقيت الذي ينص عليه وهو من السادسة مساء إلى السادسة صباحا لتكون باقي ساعات اليوم متاحة لتعاطي المواطنين لنشاطهم اليومي.
وإذا ما نظرنا كذلك لإقرار الحجر الصحي العام فان فجئيته أربكت الناس ولخبطت حساباتهم ما جعل الكثيرين يتجاوزونه. وللحد من تجاوزه أقرت الحكومة مؤخرا المرور إلى تطبيق عقوبات مالية وصفت بأنها في حجم الخطايا المرورية، تسلط على المترجلين والمنتصبين على حافات الطريق ومستعملي وسائل النقل دون ترخيص.. وقد تذهب لاحقا في إقرار خطايا لعدم استعمال الأقنعة الواقية باعتبار أنها ستصبح إجبارية بعد رفع الحجر الصحي الشامل كما أكده وزير الصحة في أكثر من مناسبة.
وهنا يعكس النسق الذي تتعاطى به الحكومة وما تقره في كل مرة من إجراءغاب فيها البعد الاستشرافي اللازم، ما جعلها تهدر وقتا كبيرا وثمينا منذ بروز الجائحة في الصين ولم تركز مع تعاطي هذا البلد مع الفيروس وركزت مع الدول الأوروبية وخاصة فرنسا وجميعها تأخرت في اتخاذ الإجراءات السريعة والضرورية وكانت نتيجة ذلك كارثية.

-وعلى المبدين امتعاضهم من حالات تفلّت بعض المحجورين أن لا ينسوا أثر عملية تهريب رجل أعمال وزوجته من مقر الحجر الصحي بشط مريم وسيارة الحرس الوطني خلفه وما أحدثته من ضجة في صفوف الرأي العام وصلت حد تراشق التهم بين بعض نواب ولاية سوسة حول ضلوع أحدهم في عملية تهريبه بالتواطؤ مع السلط الجهوية والأمنية.

-وبينما الفرق الأمنية والعسكرية تجوب الشوارع والمدن تطالب المتساكنين بعدم الخروج ورئيس الحكومة يؤكد ويكرر أن الحجر الصحي يجب أن يكون عاما وأن الاستثناء لا يجري إلا على القطاعات الحيوية والأساسية.. أصدرت وزارة الشؤون الثقافية يوم الأربعاء 8 أفريل 2020 بيانا يحمل إمضاء الوزيرة شيراز العتيري تسمح فيه لشركات الإنتاج السمعي البصري والقنوات التلفزية المتحصلة سابقا على تراخيص تصوير وتمّ تعليقها, بالعودة لتصوير الأعمال الدرامية الرمضانية واستئناف نشاطها. انصياعا للوبيات المال وسَيّء الأعمال.

في خطوة عكسية تماما لمطالب الشعب الذي دعا إلى تحويل ميزانيات بعض الوزارات لصالح وزارة الصحة معاضدة لجهودها في مقاومة انتشار الوباء، ومن بينها وزارة الشؤون الثقافية.. والأدهى من ذلك أن البيان ذكر أن هذا القرار تم اتخاذه بناء على تعليمات رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ وإيمانا بأهمية الأعمال الدرامية في شهر رمضان لدى العائلات التونسية. وزيادة على ذلك أكدت الوزيرة أن لا دخل للوزارة في المستويات المنحطة لتلك الإنتاجات التي سمحت لها بالاستمرار، وأن دور التعديل والتهذيب وتصحيح المحتويات والمضامين وردع العابثين بعقول جمهور المتفرجين ومخربي الثقافة لدى الشباب ومستهدفي الأسر في بيوتهم.. كل ذلك ليس دورها ورمت بالكرة في مرمى “الهايكا” لتؤكد أكثر أن وجود الوزارة في حد ذاته لا يمثل عند التونسيين أهمية بمكان.

أيّها المتحلّقون على موائد اللئام، قليلا من الحياء، قليلا من الاحترام لشعب مقهور يذوق ويلات الخذلان المتواصل منذ الاستقلال المزعوم يئن فيه الكبير والصغير من وطأة المظالم الاجتماعية والاقتصادية وتسلط المكابرين عليه. ألا تستحون؟ أليس الأولى أن تجعلوا منابر النقد والتنقيب موجهة صوب الحكومة المرهونة لكبار مرابي العالم، وإن لم تستطيعوا ولن تستطيعوا فاصمتوا والزموا بيوتكم وكفوا ألسنتكم السّوء عمن يكابدون مشقة الحياة في هاته الأيام العصيبة. ونسمعكم لو كنتم تسمعون قول رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأـم التسليم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت،…”

إنّ أولئك الذين ينهالون على شعبنا لا يعون ما خلّفته منظومة الحكم الباطلة من خراب طال المجتمع بأكمله ونشر فيه كلّ مظاهر البؤس والتهميش والحط من الكرامة.. إنّهم يفتقدون الوعي رغم ما كشفته أزمة كورونا من ظلم هذا النظام المتوحش للناس وكمّ اللامبالات والاستهتار بمصيرهم, واستعداد القائمين عليه لتقديم الفقراء والضعفاء والمهمشين قربانا لإله الرأسمالية الوحيد، “الربح وتكديس المال”, على النحو الذي أضحى فيه العمل على إرساء نظام بديل يرشد بوصلة الحياة نحو الخير الذي مكمنه أحكام الله دون سواها. إجراء حياة أو موت.

ولا يسعنا والحال هذه إلّا أن ننصح أهلنا وأحبّتنا في تونس باتخاذ أقصى درجات الحيطة والحفاظ على أنفسهم بعد أن ثبت عدم قدرة المؤتمنين على البلاد والعباد على الحفاظ على الأنفس والأرواح، وحتّى لا نسقط في ما سقطت فيه دول لم تتخذ حكوماتها التدابير المناسبة والصارمة. وما أدى إلى انفلات الأمور من أيديها خاصة في ظل افتضاح الحالة المزرية للمنظومة الصحية العمومية لديها بفعل التدابير التقشفية المسلطة عليها منذ عقود انسجاما مع منطق اقتصاد السوق الذي حوّل صحة الإنسان والمرافق والخدمات الأساسية إلى سلعة تجارية تسببت في تداعيات مأساوية وكارثية نراها أمامنا في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا فضلا عن الولايات المتحدة الأمريكية. فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين.

أحمد بنفتيته

CATEGORIES
TAGS
Share This