الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
النّظام, من ناحية هيكلية بنائية, هو مجموعة الأفكار المنظّمة لشؤون الناس, أو هو جملة القواعد والأحكام الضابطة للعلاقات. ومن ناحية عملية تنفيذية, فهو معالجات لمشاكل الإنسان, وبيان لكيفية تنفيذ المعالجات, والمحافظة على العقيدة وحمل المبدأ. ويتميّز نظام الإسلام بجملة من الخصائص التي تضمن صلوحيته للتطبيق في كلّ زمان ومكان، منها:
أولا: إنسانية المعالجات
المعالجات, هي أحكام منظمة لعملية إشباع الإنسان حاجاته العضوية وغرائزه, كإباحة شرب الماء وحرمة شرب الكحول, وإباحة الزواج وحرمة الزنا, وإباحة البيع وحرمة الربا وغير ذلك من الأحكام المنصبّة على تنظيم عملية الإشباع ذاتها.والمراد بإنسانية المعالجات هو أنّ الشريعة الإسلامية عندما تعالج مشاكل الإنسان إنما تعالجها له بوصفه إنسانا لا غير. فالشريعة الإسلامية لا تعالج مشاكل الإنسان بوصفه الفردي أو بوصفه يعيش في عصر ما وفي مكان ما، إنما تعالج مشاكله بالنظر إليه كإنسان هو الذكر والأنثى، وهو العربي والأعجمي، وهو الأبيض والأسود، وهو إنسان الماضي والحاضر والمستقبل.
فلا فرق في نظر الشريعة الإسلامية بين إنسان هذا العصر وبين إنسان العصور السابقة؛ فإنسان هذا العصر شأنه شأن إنسان العصر السابق, يحسّ بالجوع والعطش, ويشعر بالخوف والشبق؛ لأنّ الحاجات العضوية والغرائز واحدة في الإنسان لا تختلف من فرد إلى آخر أو من عصر إلى عصر آخر. وما يرى من تغيّر في حياة الإنسان, هو في واقعه ليس تغيرا في ذات الإنسان, إنما في أشكال الحياة. فالإنسان الأول سكن الكهوف وركب الحصان, وإنسان اليوم يسكن ناطحات السحاب ويركب الطائرة. ولو دققنا النظر, لوجدنا الدافع لسكنى الكهف وركوب الحصان عند الإنسان الأول هو نفس الدافع لسكنى العمارة وركوب الطائرة عند إنسان هذا العصر. ومن هنا فإن الشريعة الإسلامية وضعت معالجات لمشاكل تنطبق على كل إنسان بغض النظر عن لونه وجنسه وعرقه ومكانه وزمنه.
فالميل الجنسي مثلا غريزي في الإنسان، نظمّته الشريعة بحكم تحريم الزنا والحثّ على الزواج. قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}. وحبّ البقاء والمحافظة على النوع غريزي في الإنسان، نظمّته الشريعة بحكم تحريم القتل. قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}. وهكذا فإنّ كل المعالجات التي شرعها الإسلام غير مرتبطة ببيئة أو مكان أو زمان، فهي معالجة للإنسان من حيث هو إنسان.
ثانيا: طريقة التنفيذ
كما سبق ذكره، فإنّ النظام هو معالجات لمشاكل الإنسان, وبيان لكيفية تنفيذ المعالجات, والمحافظة على العقيدة وحمل المبدأ. وعليه، فالشريعة الإسلامية لم تكتف ببيان المعالجات اللازمة للإنسان، بل بيّنت له طريقة تنفيذها لضمان تطبيقها في الواقع. فليس الإسلام كالنصرانية مجرد معالجات إجمالية وتوصيات أخلاقية للفرد أن يأخذها أو يردّها، بل الإسلام منظومة علمية وعملية متكاملة، فهو يبيّن المعالجة ويبيّن معها سبيل تطبيقها وتنفيذها فيما يتعلّق بالفرد والمجتمع.فالشريعة الإسلامية حين توصي بالمحافظة على النفس الإنسانية تبيّن طريقة لتنفيذ ذلك وهي قتل القاتل، وحين أمرت بالمحافظة على أموال الناس بيّنت طريقة لتنفيذ ذلك وهي قطع يد السارق.
ثالثا: الاجتهاد
لقد أحاطت الشريعة الإسلامية بجميع أفعال الإنسان إحاطة شاملة كاملة، فما من شيء إلا وبيّنت حكمه. قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ}، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ…» (رواه ابن ماجه عن العرباض).
قال الشافعي رحمه الله تعالى في الرسالة: “فجِمَاع ما أبان الله لخلقه في كتابه مما تَعَبَّدَهم به لما مضى من حكمه جلّ ثناؤه من وجوه:فمنها ما أبانه لخلقه نصاً. مثل جمُل فرائضه في أنّ عليهم صلاةً وزكاةً وحجاً وصوماً، وأنه حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونصّ الزنا والخمر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وبيَّن لهم كيف فرض الوضوء، مع غير ذلك مما بيّن نصاً.ومنه: ما أَحكم فرضه بكتابه وبيَّن كيف هو على لسان نبيه. مثل عدد الصلاة والزكاة ووقتها وغير ذلك من فرائضه التي أنزل من كتابه.ومنه: ما سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس لله فيه نصُّ حكم، وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إلى حكمه، فمَن قبل عن رسول الله فبِفَرْضِ الله قَبِل.ومنه: ما فرض الله على خلقه الاجتهادَ في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم”.
فالاجتهاد يبقي أحكام الإسلام متجدّدة مواكبة لكل عصر؛ لأنه طريق معرفة حكم الشرع فيما استجدّ من حوادث ومشكلات. ولهذا حثّ الشرع على الاجتهاد ورغّب فيه وجعله فريضة شرعية. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» (رواه الشيخان عن عمرو بن العاص). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا». (رواه أبو داود عن أبي هريرة). وأخرج النسائي في سننه عن عبد الرحمن بن يزيد قال أكثروا على عبد الله ذات يوم فقال عبد الله : «إِنَّهُ قَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ وَلَسْنَا نَقْضِي، وَلَسْنَا هُنَالِكَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدَّرَ عَلَيْنَا أَنْ بَلَغْنَا مَا تَرَوْنَ، فَمَنْ عَرَضَ لَهُ مِنْكُمْ قَضَاءٌ بَعْدَ الْيَوْمِ، فَلْيَقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ جَاءَ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ نَبِيُّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ جَاءَ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا قَضَى بِهِ نَبِيُّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ، فَإِنْ جَاءَ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا قَضَى بِهِ نَبِيُّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ، فَلْيَجْتَهِدْ رَأْيَهُ، وَلَا يَقُولُ: إِنِّي أَخَافُ، وَإِنِّي أَخَافُ، فَإِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ»قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: “هَذَا الْحَدِيثُ جَيِّدٌ جَيِّدٌ”.وأخرجه الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي. وقد روي مثله عن جمع من الصحابة منهم عمر وابن عباس.
رابعا: سعة الشريعة الإسلامية
لا تعني سعة الشريعة أنها تتكيّف مع كل واقع ولو خالفها، أو أنها قادرة على التطور بحيث تتغيّر أحكامها الثابتة لتوافق هوى بعض الناس أو بدع بعض المجتمعات، إنما تعني السعة أنّ الشريعة الإسلامية قادرة على معالجة كلّ المشاكل المستجدّة بما فيها من خصائص ذاتية تضمن لها مواكبة العصر. فما من شيء إلا وقد بيّنت الشريعة الإسلامية حكمه، فإن لم يكن بنص عليه، فبأمارة تهدي من تطلبها.ومثال ذلك: قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}، فإن ما يستنبط من هذه الآية هو وجوب إعداد القوة لإرهاب أعداء الله، فإذا كان الإعداد في الماضي يكون بالرماح والسيوف والخيل، فيجب أن يكون اليوم بالطائرات والدبابات والقنابل النووية وغير ذلك من قوة حديثة تتماشى مع التطور العلمي والتكنولوجي. فقوله تعالى: {ما استطعتم من قوة}، عام يدخل فيه كل أمكن تجهيزه واتخاذه من عدّة. وقوله تعالى: {من رباط الخيل}، خاص عطف على العام. وقوله تعالى: {ترهبون}، علة للإعداد. فيكون المطلوب هو إعداد القوة التي ترهب العدو، وهذه القوة تختلف أشكالها ومظاهرها باختلاف العصر. فيكون الإسلام قد طلب منا بدلالة الآية أن نجهّز الأسلحة الحديثة المواكبة لزمننا.
خاتمة
“أراد الله للإسلام أن يكون خاتمة الأديان والشرائع، وأن يكون لذلك دينا عاما لجميع البشر، وباقيا على امتداد الدهر، إرادة دلت عليها نصوص القرآن، وأيدها متواتر أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم مما لا يترك مجالا للشك في نفس المتأمل” (كما قال الشيخ الطاهر ابن عاشور في تحقيقات وأنظار)؛ ولأنّ إرادة الله سبحانه قد قدّرت لهذا الدّين التأبيد، فقد دعمته بالتأييد والتجديد؛ فالتأييد بتكفّل المولى سبحانه بحفظه ونصره، والتجديد بتكفّل أولياء المولى بالدفاع عنه وتنقيته من كل شائبة واستنباط ما يلزم من الأحكام لكل حادثة مستجدة.ففي الشريعة الإسلامية من السعة ما يسع مشكلات أي عصر، ولكنها ليست سعة تميّع الإسلام وتهدم أحكامه الثابتة، وليست سعة تكيّف الدّين حسب الأهواء والرغبات فيعمد إلى التلفيق والترقيع بزعم الاجتهاد والتجديد. ورحم الله الدكتور محمد محمد حسين القائل (في كتاب الإسلام والحضارة الغربية)” “الفرق واضح بين الاجتهاد النزيه الذي يقصد مخلصا إلى استنباط حكم الله، وبين التسويغ الذي يضع نصب عينيه حكما مسبقا يريد أن يسوغ إباحته أو حظره؛ فالمجتهد المخلص يسأل نفسه: ما حكم الشرع في هذا الأمر؟ أما الذي يريد تبرير الأنماط الغربية – يمينها وشمالها، وكلاهما شمال – فهو يسأل نفسه منذ البدء: ما هي النصوص الشرعية التي تؤيد هذا الأمر وتبيحه، أو التي تعارضه وتحرمه؟ ومن أجل ذلك فهو يراجع كتب الفقه على اختلاف مذهبها، وعلى تباين ألوانها بين الصحة والفساد، وتفاوت طبقاتها بين التثبت والتهور، ليتصيد منها ما يلائم هدفه وهواه، فإذا صادفه ما يخالف هواه، أسقطه من حسابه، وإذا وجد في النص شيئا له وشيئا عليه، أثبت ما له، وأهمل ما عليه، وبذلك يجيء اجتهاده المزعوم مبنيا على البتر والتحريف والتدليس”.
فلا يجب أن ننسى أن الواجب تغيير الواقع ليناسب الإسلام، وليس تغيير الإسلام ليناسب الواقع. قال تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ}.