الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه, وبعد:
العلوم الإنسانية والخلط بين العلم والمعرفة
قلنا في الحلقة الماضية:
إن المنهج العلمي يتميز بالأمور التالية:
أولا: أن النتائج الصادرة في المختبر نتائج لا تخضع لاعتقاد الذي يجري التجربة، ولا لتصوراته عن الكون والإنسان والحياة من حيث الخلق والإيجاد. فقوانين نيوتن في المختبر مثلا تعطي نفس النتائج سواء أكان العالم الذي أجراها مسلما أو ملحدا أو بوذيا.
ثانيا: البحث العلمي في المادة وخواصها يحتم التنازل عن أي أراء سابقة حولها والتسليم بالنتائج التي تخرج من التجربة.
ثالثا: البحث العلمي لا يقع إلا على مادة محسوسة ولا يقع على الأفكار والعقائد والشرائع والسلوكيات. فهذه لا يمكن وضعها في مختبر للتعرف على كنهها وتعريفها.
ونتيجة للخلط بين ما هو معرفة أي ناتج من العملية العقلية وبين ما هو علم أي ناتج من الطريقة العلمية، تم الخلط بين العلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء التي تنتج من البحث في صفات المادة حين إخضاعها لغير ظروفها الأصلية، والتي من صفاتها أنها عالمية ولا تتأثر باعتقاد العالِم الذي أجراها، وبين ما سموه العلوم الإنسانية مثل علم النفس والتربية والاجتماع. فجعلوها سواء. مع أن ما يسمى العلوم الإنسانية ناتجة من الطريقة العقلية في البحث والتي تعتمد الاستنتاج بعد اكتمال عناصر العملية العقلية.. المكونة من معلومات سابقة وواقع وإحساس ودماغ صالح للربط، فيتم نقل الإحساس بالواقع إلى الدماغ، فيقوم الدماغ بربط هذا الإحساس المنقول بالمعلومات السابقة.. فتِنتجُ العملية الفكرية نتائج تختلف باختلاف الشخص الذي قام بالعملية الفكرية.. بحسب اعتقاده ووجهة نظره في الحياة وما يوجد لديه من معلومات سابقة..
ونضرب مثالا لذلك وهو تفسير سلوك الطفل ذكرا كان أم أنثى تجاه والده ووالدته ، وذلك بدوام مراقبته، وتحليل سلوكه فينتج من ذلك أفكار تختلف باختلاف الشخص الذي يقوم على العملية الاستنتاجية…
فمثلا من يأخذ بفكر فرويد ووجهة نظره في الحياة وتحليله للسلوك الإنساني سيقوم بجعل النظرة الجنسية هي التي تحكم سلوك الأطفال تجاه الوالدين.. فيما يسمى “عقدة إلكترا” عند البنات وعقدة أوديب عند الذكور..
وخلاصة “عقدة إلكترا” أن البنت تبدأ بالغيرة على أبيها من جهة أمها، وتتعلق به وتزداد تعلقا به، وتحس في أمها منافسة لها في هذه التعلق، وهي في تحليل فرويد نظرة جنسية خالصة فتحاول قدر الإمكان الاستفراد بأبيها، وعندما تعجز تبدأ في تقليد سلوكيات أمها فتكتسب مع الوقت نفس العادات والسلوكيات.
وعقدة أوديب تفسر النظرة نفسها من جهة الطفل الذكر تجاه والده وحالته النفسية “الجنسية”، ويراه منافسا له في أمه من الناحية الجنسية حيث تعلقه بأمه تعلق جنسي .
وبالرجوع أيضا إلى تسميات هاتين “العقدتين” يعتبر أن تحليل سلوك الطفل والطفلة تجاه الوالدين قائم على النظرة الجنسية..
هذا مثال لتناول ما يسمى علم النفس لسلوكيات الإنسان، وهو تناول ناتج من وجهة نظر معينة في الحياة ومن اعتقاد معين ومن مفاهيم معينة، أدى إلى استنتاج معين، وهو استنتاج تختلف فيه العقول والأفهام، بحسب ما يحكمها من معلومات سابقة حين القيام بالعملية الفكرية.
فغريزة النوع من مظاهرها الميل الجنسي وحب الوالدين للأولاد وحب الأولاد للوالدين، وتفسير درجات الميل العاطفي والحب والغيرة بين الأطفال بناء على النظرة الجنسية خاصة قبل أن يبلغوا سن التمييز أو البلوغ، يدل على انحطاط في الفهم وعلى نظرية دونية أنتجها فكر مريض يسيطر عليه الهوس الجنسي.
كذلك فإن الملاحظة وتكرارها ثم الاستنتاج ليس من الطريقة العلمية لأن نتائج الطريقة العلمية أو البحث العلمي نتائج لا تقررها مفاهيم الإنسان عن الكون والإنسان والحياة وإنما يقررها المختبر ونتائجه. وهي نتائج تتوحد فيها النتائج بغض النظر عن الاعتقاد بينما مباحث ما يسمى العلوم الإنسانية يقررها البحث العقلي وهي قائمة على اختلاف النتيجة باختلاف وجهة النظر في الحياة واختلاف النظرة التحليلية لقضايا السلوك والذكاء والتعلم والدماغ وغيرها.
وهناك عدة نظريات في علم النفس تقوم عليها تفصيلاته وهي في مجملها، تقوم على الظن وعلى الاستنتاج، وليس على الطريقة العلمية، والمهم ألا ينظر إليها كما ينظر إلى العلوم الطبيعية والى نتائج العلم التجريبي، أي لا يصح أن ينظر إليها على أنها قطعية بل هي ظنية وأسسها خاطئة.
ومن نظريات علم النفس الفاسدة:
أنهم يعتبرون كل مظهر من مظاهر الغريزة الواحدة غريزة قائمة بذاتها.. وبالتالي فإن عدد الغرائز عندهم غير معروف، فمنها ما هو مكتشف ومنها ما لم يتم اكتشافه، فمثلا يقولون بوجود غريزة الأبوة والأمومة والميل الجنسي وإنقاذ الغريق وإغاثة الملهوف، فكلها عندهم غرائز قائمة بذاتها، مع أنها في الحقيقة مظاهر لغريزة النوع، وهكذا تردد عدد الغرائز عندهم من اثنتين كما هو الحلال عند فرويد (غريزة الحياة وغريزة الموت) إلى ثماني عشرة غريزة كما هو الحال عند مكدوجال، إلى جعلها مئات كما هو الحال عند أغلب من يسمون بعلماء النفس.
ومن نظريات علم النفس تقسيم الدماغ الى مناطق واعتبار أن جزءا منها يصلح لتعلم مادة معينة والجزء الآخر لتعلم مادة أخرى، وكذلك تقسيم أدمغة الناس إلى أدمغة ذات قابليات مختلفة فبعضها فيها قابلية للعلوم الطبيعية وبعضها فيه قابلية للآداب واللغات، وبنوا على هذه النظرية تقسيم المدارس إلى علمية وأدبية، فحرموا الطلاب من علوم معينة وحرموا طلابا من مباحث أدبية تتعلق بالتاريخ والجغرافيا واللغة وما يتعلق بالثقافة العامة.
وفي الحقيقة أن الأدمغة من حيث هي واحدة، ولا تختلف عن بعضها البعض من حيث القدرة على التعلم، وإنما التفاوت يكون في عناصر العملية الفكرية فتتفاوت الناس في المعلومات السابقة من حيث المحتوى والكمية، وتتفاوت في الإحساس ونقل الواقع إلى الدماغ، فمثلا من يتعلم الفيزياء والكيمياء كجانب عملي ونظري يكون قوة الإحساس عنده والربط بين المعلومات السابقة وما تعلمه أقوى ممن يتعلم نظريا ولا يمارس الناحية التطبيقية.. وهذا الجانب يؤكد ضرورة ربط العلوم التجريبية بالناحية العملية في المدارس والجامعات والكليات، وليس الاكتفاء باستظهار المعلومات، ومعرفة القوانين نظريا.
وهناك أمر لا بد من توضيحه في ناحية القدرة على تعلم مادة دون مادة، فكما قلنا الأدمغة كلها عندها القدرة على تعلم كل المواد والتفاوت راجع في قوة الربط وكم المعلومات السابقة والاحساس بالواقع، ولكن هناك من البشر من يحب تعلم مادة دون مادة ويحبذ مثلا المباحث الأدبية على المباحث العلمية، فهذا الميل لا علاقة له بكون دماغه لا يصلح لدراسة العلوم التجريبية دون غيرها، و إنما الاختلاف يكون في الرغبة أي الحافز وليس بسبب التقسيم المتوهم لأدمغة البشر.
في الجزء القادم نكمل الحديث إن شاء الله عما يسمى العلوم الإنسانية ونتحدث فيه عن علم الاجتماع وعلم التربية، ثم نختم هذا المبحث المتعلق بالخلط بين العلوم والمعارف بالموقف الصحيح من نتائج ما يسمى بالعلوم الإنسانية.