صورة من المشهد السياسي في تونس: الاستعمار يتزاحم على أرض تونس.. فهل من رجل رشيد؟
أجرت كاتبة الدولة للشؤون الخارجية التونسية يوم الأربعاء 27/05/2020 مكالمة هاتفية مع نائب وزير الخارجية الأمريكي للشؤون السياسية دافيد هال وثمنت كاتبة الدولة علاقات الصداقة والتعاون المتينة التي تجمع البلدين مؤكدة تطلع تونس لمزيد تعزيز الشراكة الإستراتيجية مع أمريكا في مختلف المجالات. أمّا نائب وزير الخارجية الأمريكي فتحدّث عن استعداد بلاده مواصلة دعم تونس لاستكمال تجربتها الديمقراطية ومواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تعترضها.
من المعلوم بداهة أنّ أمريكا لا تقدم مساعداتها للدول مجانا إنما تقدّمها بل تفرضها لغايات السيطرة على مكامن الطاقة والموارد الأولية وطرق التجارة وغيرها.وليست بلادنا تونس مستثناة من عين أمريكا، وهذه الحقيقة تدعونا إلى تدقيق النظر في الأمور التّالية:
-
الأمر الأول هذا الانفصام في الشخصيّة الذي أصيب به الوسط السياسي التونسيّ،
أمريكا تقدّم ما تزعمه “مساعدات” لتونس، وتدّعي أنّها تدعم الدّيمقراطيّة الناشئة في تونس، والمسؤولون في تونس يرحّبون ويهلّلون ويبتهجون لهذه المساعدات الأمريكيّة. وأمريكا هذه هي نفسها التي مزّقت العراق تمزيقا وحطّمت أفغانستان تحطيما، وأمريكا هذه هي نفسها التي تدعم كيان يهود الغاصب وبأسلحتها ومساعداتها يقتل الأطفال والنساء ويستبيح الأعراض والمقدسات و ينكّل بعلماءنا، وما مثال الشهيد الحي محمد الزواري عنا ببعيد. وأمريكا هذه هي نفسها التي ترعى صفقة القرن الآثمة لتمكين كيان يهود من أرض المسلمين هناك.
ويبدو أنّ كلّ ما تفعله أمريكا ضدّ المسلمين في الدّنيا ومع كلّ أطماعها في تونس وإفريقيا (شمالا وجنوبا) لا تراه أعين المسؤولين في تونس:
لا تراه أعين القائد الأعلى لقواتنا المسلحة قيس سعيد، الذي اعتبر التطبيع مع كيان يهود خيانة عظمى (وهو في ذلك صادق) ولكن أليس أمريكا هي القوّامة على ما يُسمّى (إسرائيل) أليست أمريكا هي التي تتخذ من كيان يهود أداة لتمزيق العالم الإسلامي، أليس التطبيع مع أمريكا أشدّ وأخطر من التطبيع مع كيان يهود؟؟؟
لا تراه أعين الوسط السياسي. بل لا نراهم إلا قد عشيت أبصارهم وأصابهم عمى الألوان، فتراهم يستأسدون على قطر والإمارات وتركيا، الذين هم أدوات تستعملها بريطانيا وأمريكا (بالضبط كما تستعمل كيان يهود المسمّى “إسرائيل”) يزبدون ويرعدون لتوافه الأمور أمّا العدوّ الحقيقي أمريكا وبريطانيا فيهرولون إلى سفاراتهم ويستقبلون مسؤوليها بالأحضان ويباركون مساعداتهم المسمومة ويدافعون عمّا يزعمونه تعاونا ودعما لتونس.
-
الفئة الحاكمة في تونس لا تردّ يد لامس، القوى الاستعماريّة تتزاحم على أرضها تخطّط وتضع السياسات، والمسؤولون يتعاركون على المناصب والكراسيّ:
كانت تونس مستعمرة فرنسيّة ثمّ ورثتها بريطانيا التي نصّبت عميلها بورقيبة على رأس الحزب الدّستوري الحرّ ثمّ مكّنته من الرئاسة مدى الحياة، ولمّا عجز بورقيبة وضعت بريطانيا بن علي وأوجدت حوله وسطا سياسيّا مواليا لها، وكانت أمريكا منذ ذلك الوقت تحاول أن يكون لها مكان في تونس، لكنّ بن علي الذي كان قويّا في الدّاخل وتدعمه بريطانيا كان يداري أمريكا ويماطلها، دون أن يستجيب لها إلا ظاهريّا. وبعد الثورة انكشف انبطاح كلّ الوسط السياسيّ وصارت عمالته لبريطانيا خاصّة مفضوحة، وزال حاجز الخوف وما عاد النّاس يخافون عصا البوليس، فضعفت قدرة الوسط السياسيّ وبخاصّة الحكّام عن السيطرة على الجماهير فصارت سلطة ضعيفة وفي هذا الإطار تكثّف الحضور الأمريكي واستطاع فرض أمور على “حكّام” ضعفاء لا يستطيعون ردّ شيء رغم ارتباطهم ببريطانيا، وبذلك يمكن أن نقول أنّ أمريكا تزاحم الوجود البريطاني مستغلّة ضعف الوسط السياسي الموالي لبريطانيا، ونراها تحاول وتبحث عن تكوين سياسيين موالين لها حتّى يكونوا القاعدة والأداة التي تستعملها في السيطرة التامّ، على تونس أمام الضّعف الشديد الذي أصاب بريطانيا وفرنسا. وفي هذا السياق نرى التمويلات الكثيرة لما يسمّى المجتمع المدني، وتحريكهم في أوقات مخصوصة لإرباك الحرس القديم الذي أصابه الوهن ومحاولة إظهار قيادات جديدة.
-
كثّفت أمريكا من حضورها في تونس، ففرضت منذ زمن “بن علي” تنسيقا عسكريّا مع تونس وفرضت بعد الثورة على تونس أن تكون تحت مظلّة حلف النّاتو، وهي التي تدعم بسخاء كثيرا من منظّمات ما يُسمّى المجتمع المدني. ويجول سفيرها في تونس في البلاد بالطّول والعرض يقتحم البلديّات ويفرض المساعدات والبرامج، وجعلوا من أرض تونس مكانا للتنسيقات والاتّصالات في المنطقة وبخاصّة ليبيا.
ممّا يعني أنّها تريد أن يكون لها نصيب في تونس بل وفي المنطقة، فالمعلوم أنّ عين أمريكا هذه الأيّام منصبّة على ليبيا إذ دفعت بعملائها حفتر ثمّ تركيا ليفتكّوا ليبيا من النّفوذ البريطاني أو على الأقلّ أن يكون لهم نصيب
فتحريك الملفّ الليبي باستعمال الورقة التركيّة بدل ورقة حفتر التي يبدو أنّها احترقت (أو استنفذت كلّ أدوارها) ومن ثمّ الاتّصال وفرض التّدخّل بدعوى مساعدة تونس في حماية حدودها، وخضع السياسيّون في تونس لتكون أمريكا هي الواضع لمنظومة مراقبة الحدود مع ليبيا، وفي هذا الأسبوع تدخل أمريكا على الخط لتعلن على لسان ستيفن تاونسند قائد القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) الجمعة 29/05/2020 نشر قواتها في تونس على خلفية الأنشطة العسكرية الروسية في ليبيا. ولمّا تعالت الأصوات أعلنت أمريكا أنّها لا تنشر قوّاتها إنّما هي مجموعة تدريبيّة تعنى بتدريب عناصر من الجيش التونسيّ. وكان هذا بعد اتّصال قائد الأفريكوم يوم الأربعاء هاتفيّا بوزير الدّفاع عماد الحزقي. والسؤال هنا: هل يحتاج جنودنا أمريكا لتدرّبهم أو تعلّمهم الدّفاع عن حدودهم؟ أم هو الخضوع والخنوع والاستسلام المهين أمام مستعمر طامع؟
-
هذا جانب من المشهد السياسيّ في تونس، مشهد حزين مؤلم، إذ يؤلمنا أن يتكالب المستعمرون على بلادنا والحكّام يستقبلونهم ويفتحون لهم الأحضان بل البلاد ليجوسوا خلالها، يحزننا أن يجد جنرال أمريكيّ هو مجرم حرب آذان وزير الدّفاع التونسي تصغي إليه وتنفّذ طلباته ويغضبنا أن يصرّح هذا الجنرال أنّه أرسل مجموعة صغيرة لتدريب الجيش التونسيّ في إهانة بالغة لقوّاتنا المسلّحة (التي يظلّ قائدها الأعلى في صمت وذهول لا يتكلّم إلا في سفاسف الأمور).
-
ولكن لهذا المشهد السياسيّ جانب مشرق يمثّله:
-
وعي المسلمين في تونس الذين بدؤوا ثورة أمّة على النّظام الاستعماري، هذا الوعي الذي نبذ كلّ الطبقة السياسيّة الموالية للغرب قديمها وجديدها وهو وعي يتطلّع إلى قلع هذه الأنظمة.
-
حزب سياسيّ لا كالأحزاب هو حزب التحرير يقود وعي الأمّة بعقيدة الإسلام المستنيرة التي ترفض كلّ ولاء لغير الله تعالى ترفض الولاء للمستعمر وتدعوا إلى قلعه وترفض تشريعات البشر الوضعيّة المناقضة لشرع الله وتدعوا إلى إقامة الحياة كما أمر بها ربّ العالمين حياة تنظّمها أحكام الإسلام وتعالج كلّ أمراضها. ولهذا الجانب المشرق من المشهد السياسيّ في تونس نُذر وبشائر، فهو ينذر من شرّ المستعمرين يكشف خططهم ويفضح العملاء والأتباع الموالين، ويبشّر أنّ في هذه البلاد رجال عاهدوا الله أن لا يهدأ لهم بال حتّى تتحرّر البلاد من الاستعمار وأن يسود الإسلام وتعمّ أحكامه العادلة. ومن أهمّ بشائره أمّة استفاقت وتحرّكت فما هي إلا أن تُسقط أعداءها خاصّة بعد أن انكشفوا وزال عنهم كلّ غطاء.
محمد السحباني