نعم، الفلاحة هي من سُبل تعزيز سيادتنا وتنمية اقتصادنا ولكن، أين هي السيادة حتى نعزّزها؟
من البديهي أنّ الفلاحة عمود أساسيّ من أعمدة اقتصاد أيّ بلد فهي المسؤول عن توفير الأمن الغذائي، وقد عدّتها الدّول التي تحترم نفسها وشعوبها من أمنها القومي، ولكنّنا في تونس البلد الواقع تحت الوصاية الاستعماريّة تتحكّم في سياساته، وتوجّهها حسب مصالحها ولا قيمة لمصلحة أهل البلد. ولعلّ أخطر المؤشّرات على سوء الوضع أنّ الميزان التجاري الغذائي سجل إلى غاية شهر ماي 2020 عجزا قدره 171.6 مليون دينار مقابل 533.3- مليون دينار خلال نفس الفترة من سنة 2019 (حسب المرصد الوطني للفلاحة) ممّا يعني أنّ غذاءنا ليس في أيدينا. وهذا أمر في غاية الخطورة، فنحن شعب مهدّد بالجوع. ومع ذلك لا تحرّك الحكومة ساكنا، فسياساتها (إن كان لها من سياسة) تُهمل الفلاحة إهمالا تامّا.
وفي هذا السياق نظم الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، ندوة صحفية، يوم الثلاثاء، 30 جوان لتقديم دراسةأعدّتها المنظمة تحت عنوان “الفلاحة هي الحل لتعزيز سيادتنا وتنمية اقتصادنا”. وقال رئيس اتّحاد الفلاحين عبد المجيد الزّار، أنّها تتضمن مقترحات لتعزيز السيادة الغذائية والدخل المجزي للفلاحين والبحارة. وجاءت هاته الدّراسة صيحة فزع من الواقع المرعب الذي وصلت إليه حال الفلاحة والفلاح.
الفلاحة في تونس مشاكل بالجملة
-
المخاطر الطبيعية كالانجراف والحرائق والجفاف والتغيرات المناخية وشح الموارد المائية وعوامل أخرى أهمها تخلّي الدولة الصريح عن دورها في معاضدة الفلاح أثناء الإنتاج مما سبب عزوفا عند الفلاحين عن الإنتاج بفعل تراجع المردودية وارتفاع المديونية. ممّا سبب اختلالا في الميزان الغذائي.
-
تفاقمت ظاهرة الحرائق التي تذهب سنويا بآلاف الهكتارات من الغابات والثروات الطبيعية إضافةإلى خسائر في محاصيل الحبوب والتي تهدد الأمن الغذائي. ومع ذلك لا تحرّك الحكومة ساكنا.
-
المديونية متواصلة وتتمدّد: تفاقمت ديون الفلاحين غير المستخلصة خلال السنوات الأخيرة لتعمّق أزمة القطاع الفلاحي. وتسلّطت البنوك على الفلاحين، فخنقتهم بالدّيون التي بلغ مقدارها إلى نهاية شهر جوان الفارط لدى البنك الوطني الفلاحي (وحده) قرابة 640 مليون دينار وهي تتعلق بقرابة 100 ألف فلاح من مختلف الجهات ويعملون في مختلف الأنشطة الفلاحية أي بمعدل أكثر من 64 ألف دينار لكل فلاح.وصارت المديونية السيف المسلط على أعناق الفلاحين والبحارة وعائقا كبيرا أمام تطور القطاع الفلاحي وقدرة الفلاح التونسي حتى على توفير قوته وتأمين حاجاته خاصة.
-
وإضافة إلى هذه المشاكل يواجه أصحاب الأنشطة الفلاحية مشكلات انعدام الأمن التي تؤثر سلبًا على الاستثمار في القطاع الزراعي من سرقة الماشية وتدهور معدات الري.
ورغم كلّ هاته المشاكل ما يزال القطاع الفلاحي الذي أنقذ البلاد نسبيا خلال أزمة الكورونا مهملا ومهمشا بشكل هيكلي في غياب أي خطة تهدف إلى تطويره أو الاهتمام به أساسا.
إهمال يبلغ حدّ الجريمة بل الخيانة
رغم أنّ الفلاحة أساس من أسس حياة أيّ مجتمع، ورغم كثرة المشاكل فإنّ الحكومةلا تحرّك ساكنا بل نراها ونسمعها تهدد القطاع باتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق “الأليكا” التي ستقضي (لو وقعت) على الفلاحة والفلاحين. أمّا عن سياسة الحكومة (إن كان لها من سياسة) فسيّئة حيثما قلّبتها:
-
فحصة القطاع من الاستثمارات لا تمثل إلّا 7 ٪ من إجمالي الاستثمارات العامة والخاصة منذ سنة 2010. ووفقا للتقرير، فإن توزيع الاستثمارات حسب نوع أصحاب المصلحة يُظهر ركودا في الاستثمار الخاص مرتبط بشكل أساسي بالقيود الهيكلية (حالة الأراضي) والقيود الدورية (ارتفاع تكلفة الاستيراد). وهذا من مسؤوليّات الدّولة التي يمكنها إزالة القيود الهيكليّة عن الأراضي الصّالحة للزراعة، ولكنّها لم تفعل،
-
الميزانية المخصصة للبحث العلمي والإرشاد والتكوين الفلاحي لا تتجاوز 0.7 بالمائة من مجموع ميزانية الفلاحة بينما لا تصل الفلاحين من هذه البحوث سوى 5 في المائة.
-
مع أنّ الفلاحة تضطلع بدور محوري في المحافظة على السيادة الغذائية، بيد أن هذه الأهمية لا تتجلى في قرارات حكومات ما بعد الثورة ولا في سياساتها التي أظهرت العكس وقامت على التفريط كلّيا في القطاع الذي يعاني من التهميش, خاصة أنّ تمويل المشاريع الفلاحية لا تتجاوز 16 بالمائة في هيكل تمويل الاستثمار. حيث يشهد منذ عقود تلاعبا وتهاونا مرتبطا بسياسات حكومات متعاقبة أدت إلى تدهور الوضع الاجتماعي للفلاحين والبحارة وارتفاع المديونية وسوء تصرف في منظومة التخزين والتبريد وإتلاف نحو 50 ألف طن من المنتوجات الفلاحية بقيمة 35 مليار دينار سنويا… وجعلت حاجة أهل البلاد من المواد الأساسية مرتبطة بما يستورده حيتان المال بصفقات غالبا ما يجنون منها الكثير ويدفع أتعابها وتكاليفها عامة الناس. ممّا ينهض دليلا على مقدار الإهمال الذي يرقى إلى مستوى الجريمة بل الخيانة.
قد يعدّ البعض كلمة جريمة أو خيانة، مبالغة أو تخوين لا محلّ له، فليس كلّ إهمال خيانة وليس كلّ خطإ جريمة. إذ قد يكون الأمر عجزا وقلّة موارد؟
نقول: ما قولك فيمن يفرّط في مجال حيويّ وحوّل الموارد إلى مجال طفيليّ لا ينتفع به إلا قلّة من لوبيّات المال؟
الفلاحة قطاع أساسيّ مهمّش بالقصد، والسياحة قطاع طفيليّ مدلّل بالقصد
-
القطاع الفلاحي، يشغل 2,5 مليون نسمة (20 بالمائة من الشغل القار)، لا يحظى في المقابل سوى بنسبة 7 بالمائة من التمويلات (2 بالمائة منها لصغار الفلاحين) وهو ما يعادل نصف التمويلات البنكية الموجهة للسياحة وثلث تمويلات الصناعات الغذائية.
-
عائدات الفلاحة تقدّر بـ12000 مليارا وتشغّل 600 ألف شخص، بشكل مباشر، ويحصل القطاع على تمويلات بنكية في حدود 2650 مليارا سنويا ، بينما تقدّر عائدات السياحة 4700 مليارا وتشغّل 80 ألف شخص، بشكل مباشر، ويتحصّل هذا القطاع على تمويلات بنكيّة تقدّر بـ4634 مليارا.
فلمصلحة من؟ أليست هاته الأرقام بيّنة؟ ألا تعرفها الحكومة والنّوّاب؟؟؟
نداؤنا إلى المسؤولين عن المنظّمة الفلاحيّة، أسمعت لو ناديت حيّا
أراد أصحاب هذه الوثيقة المرجعية لفت انتباه صناع القرار للتحلّي بالإرادة السياسية الصادقة والفعلية لاستخلاص الدروس من أزمة كورونا والعمل على مراجعة أولوياتهم وإرساء منوال تنموي جديد يكون قطاع الفلاحة والصيد البحري عموده الفقري وركيزته الأساسية.
لكنّ ندائهم لم يتخط عتبات النزل الذي أقيمت فيه الندوة. والأمر المؤكد أن الوثيقة ستجد مكانها في رفوف الأرشيفات والمراجع التي انتهى دورها بانتهاء لحظة التقاط الصور بين المسؤولين أثناء تسلمها..
ولا نقول هذا الكلام تيئيسا أو استهانة بجهد معدّي الدّراسة، فالحقّ أنّهم أثبتوا معرفتهم بخبايا القطاع، وغيرتهم على بلدهم وأهلهم وحرصهم على التغيير،
ولكن أحببنا أن لا تذهب جهودهم سدى، إذ التغيير يحتاج إلى رجال صادقين جادّين يملكون أمرهم.
أمّا هاته الحكومة وكلّ الفئة الحاكمة (بمن فيهم المعارضة)، لا يملكون أمرهم لأنّهم يعتقدون أنّنا متخلّفون وعاجزون وبالتالي فحاجتنا إلى أوروبا متأكّدة (حسب زعمهم)، ولأجل ذلك سلّموا للدّول الغربيّة أمر البلد وأطلعوهم على كلّ الملفّات الحسّاسة. ثمّ ألم تروا إليهم كيف نظروا إلى القطاع الفلاحي ومشاكله؟ أهملوه إهمالا ثمّ جاؤوا بحلّ عجب: الأليكا وما أدراك ما الأليكا، ولولا أنّ الفلاّحين عارضوها بشدّة لكانت هي الآن سياسة الحكومة، ومع ذلك ترون أنّها تواصل إهمال الفلاحة تيئيسا لكم حتّى تذعنوا وتستسلموا للأليكا.
ثمّ هل نحتاج إلى دراسات لتثبت أهميّة الفلاحة كركن ركين من أركان الاقتصاد؟ أليس الأمر من البديهيّات؟؟