بعد أن فرضت علينا وزارة الشّؤون الدّينية هيئة تباعديّة بدعيّة باطلة للصّلاة على مذهب منظّمة (السّقم العالميّ) وكبّلت المساجد بكرّاس شروط كفيلة بتخريبها وحرفها عن أبسط أدوارها ،ها أنّ مركز دراسة الإسلام والدّيمقراطيّة يدخل على الخطّ ليساهم في عمليّة البناء الدّيمقراطي للمساجد ودمقرطة الحياة المسجديّة: وللتّذكير فإنّ هذا المركز هو بؤرة استخباراتيّة أمريكيّة بقفّازات محليّة تونسيّة تضطلع بمهمّة تكريس الإسلام الدّيمقراطي المعدّل المخفّف المنزوع الدّسم على مذهب (الشّيخ سام) ومسخ شخصيّة الشّباب التونسيّ وتمييعه وتهيئته للتّطبيع مع كيان يهود.. وقد أطلق هذه الأيّام مشروعا لتدريب وتكوين 800 (فاعل دينيّ) يشمل 10 من أهمّ الولايات التونسيّة، وتندرج هذه الخطوة في إطار الجزء الثّاني من مشروع (اليد في اليد) الذي أطلق المركز جزءه الأوّل منذ مارس 2017 وقد (انتفع) به حينها 400 إطار دينيّ في خمس ولايات تونسيّة..
ويستهدف هذا المشروع المسموم فئات مختلفة من الفاعلين الدينيّين (الأيمّة الخطباء ـ أيمّة الخمس ـ أساتذة التّربية الإسلاميّة والتّفكير الإسلاميّ ـ الواعظين والواعظات..) ويتواصل على امتداد سنة ونصف يتلقّى خلالها المتدرّبون تكوينا حول آليّات الخطابة والتّواصل الاجتماعيّ ونشر قيم المواطنة ومكافحة الفساد والتطرّف وترسيخ قيم الاعتدال والتّسامح والتّعايش هذا إلى جانب تكريس قيم الديمقراطيّة وحقوق الإنسان..وبشكل متواز ،أطلق المركز دورة تدريبيّة حول (آليّات مكافحة التطرّف) كما انخرط في مباحثات مع وزارة شؤون الشّباب والرّياضة لتوحيد الجهود في مجال تأطير فئة الشّباب ورعاية المشاريع التي يُديرها المركز لفائدتهم على غرار مشروع (شباب قائد من أجل غد أفضل) الذي يُعنى بتكوين 400 شابّ وشابّة من الولايات العشرة المستهدفة..وحسبنا فيما يلي لفهم هذه الخطوة المشبوهة أن نضعها في سياقها السياسيّ وإطارها الحضاريّ ضمن الرّؤيا الأمريكيّة لدمقرطة الإسلام و(إصلاح) العقيدة الإسلاميّة..
القلاع الحصينة تؤخذ من الدّاخل
رغم القضاء على دولة الخلافة وتعطيل أحكام الإسلام وتمزيق المسلمين إلى أكثر من 50 مزقة تابعة مرتهنة مخسيّة، إلاّ أنّ العقيدة الإسلاميّة السّياسيّة الرّوحية ظلّت تنبض بالحياة: فالمبادئ لا تنتهي بسقوط الدّول التي تطبّقها ولكن تنتهي إذا تخلّت عنها الشّعوب التي تحملها وتعتنقها ـ وهذا ما حصل مع الاشتراكيّة الماركسيّة ـ أمّا المبدأ الإسلامي فقد تواصل وجوده حيويًّا متّقدًا لأنّ الأمّة الإسلاميّة بمختلف شعوبها ظلّت تعتنقه رغم أنّه غير مطبّق عليها وغير موجود دوليًّا ،بل لقد دبّت في أبنائها المخلصين الواعين منذ خمسينات القرن المنصرم أحاسيس النّهضة والتحرّر والقيادة وإنقاذ البشريّة على أساس تلك العقيدة ممّا دقّ ناقوس الخطر عند الغرب فقرّر استهداف العقيدة الإسلاميّة ذاتها..وكانت الولايات المتّحدة الأمريكيّة قد تولّت كبر نشر المبدأ الرّأسمالي بعد الحرب العالميّة الثّانية، ثمّ وبعد سقوط جدار برلين صارت تعمل لتُفرد هذا المبدأ عالميًّا، وقد نجحت بمساعدة العالم الحرّ في جعل الرّأسمالية أساس العلاقات والأعراف الدّولية، وهي تريد الآن جعلها دين أمم وشعوب الأرض كلّها بحيث لا يكتفون بتطبيقها قَسْرًا، بل يعتنقونها ويُكيّفون مقاييسهم وقناعاتهم على أساس أفكارها ومفاهيمها..هذه الحملة الأمريكيّة لعولمة المبدأ الرّأسمالي ـ وإن نجحت في سائر أنحاء العالم ـ إلاّ أنّها تعثّرت في العالم الإسلامي وفشلت فشَلاً ذريعًا ممّا حَدَا بالغرب الاستعماري عمومًا إلى تطوير خططه وأساليبه بحيث تتولّى دُولهُ بأجهزتها الرّسميّة وعملائها من الحكّام والمفكّرين مهمّة الإجهاز على العقيدة الإسلاميّة ذاتها واستبدالها بعقيدة فصل الدّين عن الحياة.. وقد انعقد عزمهم على اختراق تلك العقيدة وفرقعتها من الدّاخل للسّيطرة عليها وتدجين أتباعها وتوظيفهم لصالحهم (ومن مأمَنِهِ يُؤتى الحَذِرُ).. من هذا المنطلق شهد الصّراع بين المعسكرين تطوُّرًا نوعيًّا تحَوّلت حَلَبَتُه بمقتضاه من خارج العقيدة الإسلاميّة بوصفها عقيدةً شيطانيّة منحرفة معاداة مرفوضة ابتداءً بالجملة ،إلى داخل العقيدة الإسلاميّة باعتبارها مادّةً خامًا جَمُوحًا عصيّةً على التّرويض تحتاج إلى بعض التّشذيب والتّنقيح والتّعديل حتّى تتأقلم مع الحضارة الغربيّة وقيمها وتستجيب للمواصفات الرّأسماليّة وتُكرّس لتحقيق مصالح الكافر المستعمر فيتيسّر بالتّالي التّعايش معها ـ ولو على مضض ـ إلى حين تركُّز الثّقافة الغربيّة ومفاهيمها الحضاريّة ووجهة نظَرها في الحياة..
مراكز البحث
إنّ خطورة هذا المشروع الأمريكي وفعاليّتهُ ونجاعته وتداعياته الكارثيّة على الإسلام والأمّة الإسلاميّة تكمن في كونه ثمرة دراسة واقعيّة ميدانيّة تمتاز بالعمق السّياسي وبعد النّظر الاستراتيجي أجريت من طرف مراكز البحث والفكر والمنظّمات البحثيّة على يد كبار المفكّرين والخبراء والباحثين على غرار (برنارد لويس) صاحب أطروحة الشّرق الأوسط الكبير، و(ميلتون فريدمان) الملقّب بكارل ماركس الرّأسماليّة، و(فرانسيس فوكوياما) صاحب أطروحة نهاية التّاريخ، و(صامويل هنتنجتون) صاحب أطروحة صراع الحضارات، وهي كلّها أطروحات تبنّتها الإدارة الأمريكيّة..فقد أصبحت مراكز البحث هذه جزءًا لا يتجزّأ من السّياسة الأمريكيّة وأضحى خبراؤها وباحثوها يلعبون دورًا خطيرًا في توجيه السّياسات وتشكيل الرّأي العامّ وتكوين أفكار القادة والرّؤساء بصفتهم مستشاريهم..من أخطر هذه المؤسّسات البحثيّة على الإطلاق (مركز كارنيغي للشّرق الأوسط) و(مركز راند)، وقد أُسِّسَا تحت إشراف البنتاغون وتكمن خطورتهما في قربهما من مراكز اتّخاذ القرار في الإدارة الأمريكيّة وشدّة تأثيرهِما فيها: فتقاريرهما هي التي تُشكّل ملامح استراتيجيّة الأمن القومي الأمريكي وتصوغ النّظرة الأمريكيّة للإسلام والمسلمين والسياسة العمليّة تجاه منطقة الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا.. هذه المراكز اتّخذت من الإسلام بكلّ أفكاره وتيّاراته وجماعاته مادّة بحثٍ رئيسيّةً وتناولت صورة الإسلام الذي يمكن اعتباره معتدلاً وسُبُل توجيه المسلمين نحوهُ، ودعت إلى فهم طبيعة الإسلام وتصنيف الإسلاميّين إلى متشدّدين ومعتدلين وحثّت على دعم توجّهات محدّدة داخل الطّيف الإسلامي (إسلام مدني ديمقراطي طُرُقي..) وبناء شبكات التيّار العلماني واللّيبرالي لمواجهة الأفكار الإسلاميّة المتشدّدة..كما نوّهت بأهمّية جعل تركيا نموذجًا يُحتذى به للتّغيير في باقي دول الشّرق الأوسط مع شيطنة سائر التّجارب الإسلاميّة ومحاربتها حرب إبادة، وقد التزمت الإدارة الأمريكيّة بهذه (التّوصيات) بصفتها مشاريع حكوميّة وهي تسير فيها هذه الأيّام بحذافيرها..أمّا آخر هذه التّقارير فيتمثّل في الوثيقة المسرّبة سنة 2018 عن مركز بحث في وزارة الخارجيّة الأمريكيّة والتي تنصّ صراحةً على الدّفع باتّجاه (إصلاح الإسلام) ودمقرطته ولبرلته وعلمنته وتدعو إلى إيجاد (شخصيّة مارتن لوثر مسلم لتحديث الإسلام) على أن يستهدف هذا الإصلاح بالأساس (جماعتين مهمّتين هما المرأة والشّباب)..
الإسلام الأمريكي
إنّ جماع المخاوف الأمريكيّة والغربيّة عمومًا من الإسلام تتمثّل في أنّه يملك من المقوّمات ما يمكن أن يجعله بديلاً حضاريًّا ومنافسًا مستقبليًّا خطيرًا يثير مخاوفهم ويهدّد في مصالحهم بل في وجودهم على غرار (الشّمول والكمال ـ النّزعة الجهاديّة ـ التوسّع والانتشار ـ القدرة على صهر الشّعوب)..فوحدة الشّعوب وتَكَتُّلُها واستقلاليّتها وقوّتها ومناعتها الفكريّة في أخطر وأهمّ وأغنى منطقة في العالم من حيث الموقع الاستراتيجي والثّروات يمثّل تهديدًا مباشرًا للمصالح الأمريكيّة..وبما أنّها تعلم جيّدًا أنّ محو الإسلام تمامًا من كيان الشّعوب وإخراجهم منه بالكليّة مطمح بعيد المنال، لجأت إلى محاولة احتوائه وإفراغه من مبادئه التي تهدّد مصالحها عبر قصقصَة أجنحته ونزع مخالبه وتقليم أظافره وجعله مُخفّفًا منزوع الدّسم ليتحوّل إلى جثّة هامدة وجسد بلا روح..على هذا الأساس انخرطت الماكنة السّياسيّة الأمريكيّة في تشذيب العقيدة الإسلاميّة وإصلاح الإسلام وإعادة بنائه ديمقراطيّا لصياغة مواصفات الإسلام الأمريكي المنشود عازفة على وتر (التطرّف/الاعتدال) شاهرة سيف الإرهاب توسّع مفهومه حينا ليشمل كلّ من يقف حائلا دون تحقيق مصالحها وتضيّقه أحيانا لتستثني به معتنقيّ إسلامها والمرتمين في أحضانها.. وليتيسّر لها ذلك لا مفرّ من توظيف أطراف منتسبة إلى الإسلام والمسلمين وتدعيمهم إمّا مباشرةً أو عبر الأنظمة التّابعة والاتّفاقيّات المجحفة وشبكات التيّار الإسلامويّ والعلمانيّ الليبراليّ والمراكز المخابراتيّة (على غرار منتدى الجاحظ ومركز دراسة الإسلام والديمقراطيّة في تونس) ليتولّوا عمليّة التّوجيه الفكري للأمّة وتركيز الحضارة الغربيّة والعقيدة الرّأسماليّة في أذهان المسلمين إمّا باسم الاعتدال والوسطيّة واليسر والاجتهاد ومقاصد الشّريعة والمصالح المرسلة أو باسم التّجديد والتّطوّر والحداثة والتمدّن والعصرنة.. وفي الأثناء عملت جاهدة على ضرب فكرة الجهاد والدّعوة إلى الإسلام وأثخنت في الحركات الجهاديّة تقتيلا وشيطنة وحرصت على فرض فكرة التّوافق والتّعايش المشترك وحصر الحركات الإسلاميّة في سياقات سهلة الاحتواء والتّوظيف (يسار إسلاميّ ـ صوفيّة ـ سلفيّة علميّة ـ تبليغ ـ هرطقات..) ،كما سعت إلى إثارة الأقليّات العرقيّة والإثنيّة وإذكاء الفتن المذهبيّة والطّائفيّة وتغذية بذور الفرقة والاختلاف لمزيد تقسيم المقسّم وتفتيت المفتّت وتأبيد التشتّت والضّعف.. وفي هذا الخضم من الفوضى الخلاّقة ينقدح ـ عبر آليّة العرض والطّلب ـ الإسلام المنشود بمواصفاته الأمريكيّة: متعدّد فضفاض مائع نسبي غامض كهنوتيّ منزوع المخالب مفصول عن الحكم والحياة لا مكان فيه للمقدّس والمحرّم والقطعي والثّابت والكامل واليقينيّ.. يدعم العمل الدّيمقراطي ويؤمن بحقوق الإنسان وينبذ العنف والتّمييز والتّكفير ولا يتدخّل في السّياسة ولا يُضمرُ العداء للغرب ولا لإسرائيل ويتشكّل وفق أهواء ومصالح العمّ سام..
دمقرطة المساجد
في هذا الإطار بالذّات تتنزّل الخطوة الأخيرة موضوع مقالتنا :إطار دمقرطة المساجد أو البناء الديمقراطي للمساجد: فمن مقتضيات الإسلام الديمقراطي المعدّل المخفّف على مذهب الولايات المتحدة الأمريكية أن تقع دمقرطة الحياة المسجديّة ـ إطارًا وخطابًا وإشرافًا وعقيدةً وطقوسًا ـ عبر رسكلة إطارات المساجد والفاعلين الدينيّين وترشيد خطابهم وتنقيته من التطرّف والتشدّد والتمييز وإخضاع بيوت الله لمخرجات حقوق الإنسان وحقوق المرأة والحريات العامّة وانفتاحها على المجتمع المدني بل وعلى كنائس النصارى ومعابد اليهود في ظلّ التسامح الديني (تحت خيمة جدّنا إبراهيم التي تسع الجميع)..على هذا الأساس ونزولاً عند توصيات (مركز كارنيغي) وإملاءات المقيمة العامّة البريطانية (لويس دي سوزا) ومساعدها السفير الفرنسي (بوافر دارفور) أخضع الأيمّة والوعاظ وسائر الإطارات المسجديّة لعشرات الدورات التدريبيّة بإشراف (مركز دراسة الإسلام والديمقراطيّة) ومعاضدة اللجنة الوطنيّة لمكافحة الإرهاب (؟؟) حول أهمية الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والمساواة بين الجنسين وعدم التمييز والغلوّ والتطرّف والانغلاق..وبما أنّ هذا المشروع هو بمثابة (الفورماتاج) الفكريّ العقائديّ كان لا بدّ من إخضاع كافّة الفاعلين الدّينيّين لتكوين شامل مركّز طويل الأمد كفيل بتكريس العقليّة الحقوقيّة الدّيمقراطيّة وقيمها الليبراليّة فيهم.. وبشكلٍ متوازٍ وقعت عسكرة المساجد وتعبئتها بفيالق (الصبابة والقوّادة): فقد استُحدثت خطة مسجديّة جديدة هي خطّة (عون مسجدي) وقع تأثيثها بشباب الكشّافة المنحلّ المائع ومنتسبي المجتمع المدني العلمانيين واليساريين للقيام بوظيفة مراقبة سير الحياة المسجدية، ودخلت البلدية على الخطّ وأضحى من صلاحيّاتها مراقبة بيوت الله تمامًا كما تراقب مصبّات القمامة وأسواق الدّواب في إطار (الشفافيّة والديمقراطيّة التشاركيّة).. كما تمّ تأنيث الإطار المسجدي وإباحة الاختلاط في المساجد حيث وقع انتداب العديد من المؤدّبات والواعظات الدينيّات لتولّي مهامّ التّدريس وتحفيظ القرآن، ويبدو أنّنا على مشارف إمامة النساء والصلوات (الميكست).. أمّا الأخطر من هذا وذاك فهو أنّ فقهاء وزارة الشؤون الدينيّة ومشائخ وزارة الداخليّة إنبروا يؤسّسون لهذا الإجرام المنظّم في حقّ بيوت الله وشعائر الله ملتحفين بالفكر المقاصدي والمصالح المرسلة بعد أن أخرجوهما من رحاب مقاصد الشريعة السمحة والمصالح الشّرعيّة إلى مقاصد الاستعمار ومصالحه ومخطّطاته الدنيئة..