حذف اسم (فلسطين) من خرائط غوغل وآبل: لا يكتمل اغتصاب الجغرافيا إلا بمصادرة التاريخ وتزوير اصطلاحاته

حذف اسم (فلسطين) من خرائط غوغل وآبل: لا يكتمل اغتصاب الجغرافيا إلا بمصادرة التاريخ وتزوير اصطلاحاته

في خرق واضح للقانون الدولي وعدوان صارخ على التاريخ والهويّة، أقدمت شركتا (غوغل وآبل) على شطب اسم (فلسطين) من محرّكات البحث وإزالته من خرائطهما واستبداله باسم (اسرائيل) مع تغييب كلّي لأيّ إشارة إلى فلسطين التاريخيّة أرض المسرى والمعراج من منتجات الشركتين بحيث أصبح المتصفّح الذي يُدخِل اسم (فلسطين) على الخريطة يُفاجئ بوجود اسم (اسرائيل) بدلا عنها: فقد تعمّدت خرائط (آبل وغوغل مابس) إظهار الأراضي الفلسطينية باسم (غزة والضفة الغربيّة) ضمن نطاق خريطة اسرائيل دون أي إشارة إلى أنها أراض فلسطينية..وبرّرت الشركتان هذا الحذف بسعيهما إلى عرض المناطق المتنازع عليها باستخدام خط حدودي رمادي متقطّع وأنّهما تحصلان على المعلومات من المنظّمات ومصادر رسم الخرائط عند تحديد كيفيّة رسم الحدود المتنازع عليها (مع الحرص على عدم تسييس المسائل والتعامل بحياديّة فيما يتعلّق بالخلافات الجيوسياسيّة)..ولا تعدّ هذه الخطوة سابقة من شركة غوغل: فقد قامت سنة 2016 بحذف (فلسطين) من خرائطها وتعويضه باسم (إسرائيل) على الخريطة بشكل كامل موضّحةً أنّها لا تعتمد اسم (فلسطين) في خرائطها..وفي شبه هجمة الكترونية افتراضيّة أثار اسم (فلسطين) الكثير من الجدل خلال هذا الشهر حيث عمد موقع (أنستاغرام) إلى حذف صورة جواز سفر رجل الأعمال الفلسطيني الشهير (محمّد حديد) لأنّها تتضمّن اسم مسقط رأسه (فلسطين)، وكانت ابنته المودال (بيلا حديد) التي تحظى بمتابعة أكثر من 31 مليون شخص قد شاركتها وروّجتها بشكل واسع..وقد أثارت هذه الخطوة موجة استياء شديدة في الداخل الفلسطيني لاسيما على مواقع التواصل الاجتماعي حيث عمد مغرّدون إلى تدشين هاشتاغ بعنوان (فلسطين حرّة) ونشروا خارطة لفلسطين التاريخية من النهر إلى البحر معربين عن غضبهم من السياسات الإعلاميّة المنحازة إلى الاحتلال الإسرائيلي..وفي ذرّ للرماد على العيون هدّدت السلطة الفلسطينية باعتماد محرّكات بحث بديلة وبمقاضاة الشركتين كون ما أقدمتا عليه مخالفًا للقوانين والشرائع الدولية..وحسبنا فيما يلي أن نموقع هذه الخطوة الرّعناء في سياقها السياسي وأن نحاول فهم العوامل (النفساـ سياسيّة) التي تحرّكها..

تهيئة للضمّ

وممّا لا شكّ فيه أن هذه الخطوة لها ارتباط وثيق بعمليّة ضمّ كيان يهود لأراضٍ فلسطينيّة جديدة: فقد أشار رئيس الحكومة الإسرائيلية (بنيامين نتنياهو) إلى أن حكومته بدأت برسم خرائط جديدة وفق صفقة القرن الأمريكية تشمل الأراضي التي سيضمّها كيان يهود من الضفّة الغربية إلى حدوده..وكان نتنياهو في أعقاب الانتخابات الثالثة التي جرت في إسرائيل (أفريل 2020) سارع إلى تشكيل حكومة ائتلافية مع منافسه السياسي (بيني غانتس) تضمّنت صفقة تسمح لحكومة إسرائيل بالبدء في عمليّة ضمّ أجزاء من الضفّة الغربية المحتلّة تشمل ما يقارب 33%  من إجمالي مساحتها ضمن المنطقة (C) التي تضمّ المستوطنات الكبرى والمستوطنات العشوائيّة ومنطقة غور الأردن..وتأتي هذه الخطوة في أعقاب إعلان الرئيس الأمريكي ترامب عمّا أسماه (صفقة القرن) في جانفي 2020 التي اقترح فيها ضمّ تلك المناطق من الضفة الغربية المحتلّة إلى إسرائيل..وفي ظلّ غياب الخرائط والتكتّم المتعمّد على التفاصيل، وفي تواطؤ مفضوح وتبادل سافر للأدوار مع السلطة الفلسطينية وأمنها الوقائي، أوعز نتنياهو لمحرّكات البحث الصهيونيّة بأن تنخرط في تهيئة الأجواء للضمّ مستغلاًّ الانحياز الفاضح للإدارة الأمريكيّة ومنظوماتها الإعلاميّة والإلكترونية التي تمّ تسخيرها لتزييف وتزوير الحقائق الجغرافية والتاريخيّة بغاية وأد الهويّة العربية الإسلاميّة لفلسطين..وتشكّل هذه الخطوة العدائيّة الإجراميّة جزءًا لا يتجزّأ من الحرب التي يشنّها الصهاينة وشركاؤهم ـ سواء في الإدارة الأمريكية أو في السلطة الفلسطينية ـ على ثوابت القضيّة الفلسطينية في سياق  تنفيذ مخطّط صفقة القرن وفرض الأمر الواقع الاسرائيليّ الأمريكيّ الرّامي إلى تذويب الهوية الإسلاميّة لفلسطين وعبرنتها وتهويدها وتحييد أهمّ مقتضيات القضيّة الفلسطينيّة 🙁 حقّ العودة)..

تطهير لغويّ

على أنّ هذه الخطوة ما هي في الواقع إلاّ تتويج لمسار كامل من الطّمس والإلغاء والتّزوير الذي طال أرض المسرى والمعراج بنظام (القطرة قطرة) منذ أن داستها حوافر قطعان العصابات الصّهيونيّة مطلع القرن العشرين :فالحضور المكثّف للميثولوجيا العبريّة وخذلان شواهد التّاريخ وحقائق الحاضر للطرح العبري اليهودي دفع بأحفاد بني إسرائيل إلى اعتماد سياسة (الأرض المحروقة) وإدخال الجرّافة لميدان القتال كآلية عسكرية وسلاح نوعي لأنّهم يستهدفون اجتثاث الوجود العربي الإسلامي من جذوره، يستهدفون القرية والمخيّم والمسجد وشجرة الزيتون والجهاز اللغوي العلامي قبل الجندي والمقاتل لأنّهم يرومون (حلاقة) الهويّة العربية الإسلامية لأرض الإسراء والمعراج التي استعصت على التّزوير والعبرنة بكل مكوّناتها البشرية والعقائدية والاجتماعية والثقافية واللغويّة ليخلو المكان والزمان لأساطير التوراة وضلالات التلمود..هذا المنطق العدميّ الإقصائيّ  البراغماتي أفرز تسييسا مشطّا للّغة موغلا في العنصرية والنّفي والإلغاء : فقد قرّرت إسرائيل سنة 2009 عبرنة الأسماء العربيّة الإسلاميّة في أرض الرّباط وتهويدها ،وهي خطوة من قبيل إعدام ميّت إذ انخرط فيها اليهود منذ مطلع القرن المنصرم ،ولم يتأسّس كيانهم حتّى كانوا مزوّدين بجهازهم الاصطلاحي العلامي الخاصّ الذي حرصوا على بصمته اليهوديّة التوراتيّة ولو بتغييرٍ طفيفٍ في النّطق يُميّزه عن نظيره العربي الإسلامي (عكّا/عكّو ـ يافا/يافو ـ تلّ الربيع/تلّ أبيب..) إرضاءً لنفسيّاتهم المريضة وغرورهم وتعاليهم..وقد تعايش هذا الجهاز مع نظيره العربيّ الإسلاميّ إلى تاريخ صدور ذلك القرار، وهو ليس قرار عبرنة ـ فهي من تحصيل الحاصل ـ بقدر ما هو قرار تطهير عرقي وإثني للجهاز الاصطلاحي الرّسمي لكيان يهود كآليّة من آليّات محو الهوية العربيّة الإسلامية لأرض المسرى والمعراج ،ناهيك وأنّه تزامن حينها مع تسارع وتيرة الاستيطان والتّهويد والمطالبة بالنّقاء اليهودي لإسرائيل وخيار (التّرنسفار) لعرب 48 وإنكار حقّ العودة للاّجئين..وهو إطار عنصري إقصائي يرمي إلى وأد ذاكرة المسلمين الحيّة الموصولة بالواقع حاضرًا وماضيًا وإحلال محلّها ذاكرة أسطوريّة متحفيّة أركيولوجيّة مختلقة لكي تبرّر الاحتلال وتكرّسَهُ بما أن اغتصاب الجغرافيا لا يكتمل إلاّ بمصادرة التّاريخ وتزوير ما يحيل عليه من أجهزة اصطلاحية وعلاميّة…

النسخة التونسيّة المشوّهة

هذه الخطوة الصهيونيّة يبدو أنّها معدّة أيضًا للاستنساخ والتعميم على العالم الإسلامي برمّته في إطار العولمة الثقافيّة واستهداف الحضارة الإسلاميّة وتكريس الهويّة الإنسانية المائعة في الأمّة..ولئن كانت النسخة الأصليّة الإسرائيلية مبرّرة نوعًا ما بحكم واقع الاحتلال والتضادّ المشطّ بين الشعبين والحضارتين، فإنّ النسخة التونسية تتجاوز منطق الاستعمار العفن لتلامس حدود الخيانة والعمالة والجراءة على الله ورسوله بحكم كونها (ظاهريًّا) ذاتيّة منجزة بقفّازات محليّة إسلاميّة (نظريًّا) كما أنّها تطال بصفاقة (سرياليّة) أبسط مكوّنات الهويّة الإسلاميّة وأشدّها بداهةً (أسماء الأعلام): ففي خطوة مفاجئة أنهى لطفي زيتون ـ المحسوب سياسيًّا على حركة النهضة ذات المرجعيّة الإسلاميّة ـ مهمّته على رأس وزارة الشؤون المحليّة بانقلاب صفيق على المنشور عدد 85 لسنة 1965 الذي يقيّد تسجيل المواليد الجدد بالأسماء المستوحاة من الفضاء الثقافي العربي الإسلامي ويحجّر ما دونها..فبتاريخ 15 جويلية 2020 خرج علينا هذا الوزير المقال وقبل أن يغادر كرسيّ الوزارة بمنشور جديد يهدم آخر حصن تمترس خلفه الشعب التونسي المسلم (الحالة المدنيّة) يلغي فيه التحجيرات السابقة (نظرًا لتطوّر الإطار القانوني للحريّات في تونس خاصّةً بعد صدور دستور 2014 والمصادقة على الاتّفاقيات الدولية المتعلّقة بالحريّات وحقوق الإنسان وحقوق الطفل)..وبناءً عليه، فقد تقرّر إنهاء العمل بمنشور الاستقلال الذي (يضيّق على الحريّات) ولم يعد يتلائمُ مع ما تعيشه تونس من مناخ ديمقراطي..وبالتالي أصبح يحقّ لأي تونسي أو تونسيّة أن يسمّي أبناءه بما يحلو له من الأسماء ولو كانت متنافرة مع هويّة الشعب وعقيدته..وفي نفس سياق الحرب المسعورة على الهويّة الإسلاميّة للشعب التونسي ونمط عيشه الإسلاميّ، تكرّمت علينا (جمعيّة إنارة اللاّدينية) بإسناد (شهادة ردّة) تثبت أن أصحابها هجروا الدّين الإسلاميّ ولا يجوز معاملتهم كمسلمين (لمواجهة أخونة الدّولة بعد الحكم القاسي الصادر ضد المدوّنة (آمنة الشرقي) على خلفيّة نشرها (لسورة كورونا) والتجاوزات التي حصلت في بلديّة الكرم من رفض عقد زواج لتونسيات من أجانب غير مسلمين ورفض إسناد أسماء غير إسلاميّة للمواليد الجدد)..وبإمكان حاملي هذه الشهادة الاستظهار بها في أي إدارة عموميّة تعطّل مصالحهم أو في المغازات والحانات التي ترفض بيعهم الكحول أيام الجمعة (وتعتبرهم مسلمين رغمًا عنهم)..

الاستعمار والصهيونيّة على الخطّ

أمّا أثناء الحقبة الاستعماريّة فقد سعت القوى الغربيّة جاهدةً بعد تفكيك الدّولة العثمانية واقتسام تركتها إلى محو كلّ ما يمتّ إلى العروبة والإسلام بصلة والعودة بالمنطقة العربيّة ـ حدودًا وتسميات ـ إلى الموروث التاريخي ما قبل الإسلامي (روماني ـ بيزنطي ـ إغريقي ـ فينيقي ـ بونيقي ـ فرعوني ـ فارسي ـ بربري ـ صليبي ـ عبراني..) فأنشأت على هذا الأساس دولاً جديدةً بتسميات وحدود جديدة: فظهرت سوريا وليبيا والأردن وأثيوبيا وأرتريا وتنزانيا وموريطانيا و(إيجبت)..على أنقاض الشام وبرقة والحبشة وزنجبار ودار السلام وشنقيط ومصر..وأصبح الخليج العربي فارسيًّا وسُمّيت عاصمة الأردن (عمّان) نسبة إلى المدينة النّبطيّة (ربّة عامون).. وكما فُصِل جبل لبنان عن بلاد الشّام وأُعطي للمسيحيّين لأنّه مطابق في حدوده لإمارة عكّا الصّليبية، فقد اقتُطع سنجق القدس المطابق في حدوده لدولة (يهودا والسامرة) التوراتية واختير له ـ بدهاء ومكر ـ إسمٌ يحيل على الحضور المكثّف للتاريخ ويجعله مهيّئًا لاحتضان المشروع الصّهيوني: فتلك البقعة المباركة من الأرض سمّاها الرّسول الأكرم أرض الرّباط وأرض المسرى والمعراج وبيت المقدس وأكنافها وعُرفت في العهد العثماني باسم سنجق القدس، ولم تكن تاريخيًّا منفصلة عن بلاد الشّام إلى أن وصلت جمعية الاتّحاد والترقّي الماسونية التي تمترس خلفها يهود الدونمة ففصلوها إداريًّا واختاروا لها اسم (فلسطين) الذي ينفي عنها عروبتها وإسلامها معًا: فمن الثابت تاريخيًّا أن المنطقة مثّلت منذ الألف العاشرة قبل الميلاد مستقرًّا للقبائل العربيّة الفارّة من التصحّر على غرار الكنعانيّين والأموريّين والعمّوريين والمؤابيين والأشدوديّين واليبوسيّين (الذين أسّسوا يبوس أي القدس)..وفي نهاية الألف الثالثة وبعد سبعة آلاف سنة من الحضور العربي ظهر شعب البحر (البلستو ـ Les Philistins) مهاجرًا من غرب المتوسّط، فاصطدم بدايةً بالفراعنة الذين أبادوه وأجبروا بقاياه على التّراجع إلى الأرض المباركة حيث ذابوا في القبائل العربيّة ولم يتركوا إلاّ تسمية لمنطقة تقع على البحر شمال غزّة (فلسطين)..إلاّ أنّ المنطق الإقصائي العنصري للاستعمار والصّهيونية أبى إلاّ أن يُسند أرض المسرى والمعراج وأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين إلى ذلك الشّعب البائد حتّى ينطبق عليها وصف (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) فعمّم تلك التّسمية على كامل المنطقة ليُخرجها من الدّائرة العربيّة والإسلاميّة معًا كمحطّة أولى نحو اغتصابها وتهويدها ،ويبدو أنّ الظرفيّة السياسيّة الحاليّة قد أصبحت ملائمة لذلك..

أبو ذرّ التونسي (بسام فرحات)

CATEGORIES
TAGS
Share This