منذ مسرحيّة الاستقلال ما فتئت تونس تتمرّغ في وحل النّظام الجمهوريّ وتنوس بين تفريعاته وترقيعاته التي يستر بها سوءته ويرسكل بها فشله نشدانا للنّجاعة المفترضة: فمن النّظام الرّئاسي المطلق مع بداية الحقبة البورقيبيّة إلى النّظام الرّئاسويّ مع الهادي نويرة وطيلة حقبة بن علي فالنّظام الرّئاسي/البرلماني مع بداية الثّورة ثمّ النّظام البرلمانيّ مع المرزوقي وصولا إلى النّظام البرلمانيّ المعدّل منذ حكومة الصّيد إلى حكومة الفخفاخ.. هذا التّذبذب ليس خاصّا في الواقع بتونس بل هو إشكال مبدئيّ بالأساس تتخبّط فيه جميع الدّول الرّأسماليّة الكبرى فضلا عن الدّويلات الكرتونيّة التّابعة، إذ لا نكاد نجد دولة واحدة تطبّق النّظام الجمهوريّ النّظريّ الخام دون تعديل وتحوير يقلّ أو يكثر وفق الرّؤى المعتمدة وطريقة توزيع الصلاحيّات بين رأسي السّلطة التنفيذيّة (الرّئيس ورئيس الوزراء)..كما أنّ هذا التّذبذب يعكس أيضا تهافت المبدأ الرّأسمالي الدّيمقراطي وقصور طروحاته ومعالجاته وعجزه عن حلّ مشكلة الحكم والإجابة المقنعة عن سؤالها المحوريّ الجوهري: من يحكم، الفرد أم المجموعة، الرئيس أم رئيس الوزراء أم مجلس الوزراء أم جميعهم..؟؟ هذه المعضلة تلقي اليوم بظلالها وضلالها على المشهد السياسيّ في تونس :فقد أثبتت هذه التّنقيحات السطحيّة المستهدف لشكل الحكم دون طبيعته عقمها وفشلها عمليّا بل أفرزت تغوّلا آخر أكثر خطورة انحصر في شخص رئيس الوزراء وحوّل الصّراع من شكل الحكم إلى تركيبة الحكومة نفسها (حكومة سياسيّة حزبيّة أم حكومة كفاءات مستقلّة) بما يؤسّس لمشروعيّة التّساؤل: هل أنّ الإشكال يكمن في النّظام الجمهوريّ أم في ترقيعاته وتجلّياته العمليّة، في المبدأ الذي انبثق عنه أم في قراءاته وترجماته وأشكاله، في معالجاته وأحكامه الجزئيّة أم في الأشخاص الذين يتولّون تطبيقه..؟؟ ثمّ ما السّبيل إلى الخروج من مأزق هذا النّظام الوضعي وما هي منظومة الحكم البديلة الكفيلة بتحقيق ذلك..؟؟
إشكال مبدئيّ
قبل الانخراط في التّحليل نجزم ابتداء أنّ إشكاليّة الحكم في النّظام الجمهوريّ هي إشكاليّة مبدئيّة نابعة من المنظومة العقائديّة التي انبثق عنها ذلك النّظام ألا وهو المبدأ الرّأسماليّ الديمقراطيّ :فالنّظام الجمهوريّ أوّل ما نشأ كان ردّة فعل على طغيان النّظام الملكيّ ،فالشّعوب الأوروبيّة في القرون الوسطى كانت ترزح تحت كلكل ثالوث طاحن لإنسانيّة الإنسان (الملكيّة ـ الإقطاع ـ الكنيسة) حيث كان الملوك يجمعون بين السّيادة والسّلطان ويحكمون ويتصرّفون بالبلاد والعباد كما يحلو لهم فيضعون التّشاريع من بنات أفكارهم ويطبّقونها بالكيفيّة التي يرونها.. وكانوا يستعينون في ذلك بطبقة من النّبلاء متمثّلة في العائلة المالكة الموسّعة وكبار القادة ومشاهير السياسيّين والأسر العريقة، يُقطعونهم أراضي المملكة بما عليها من خيرات ومن عليها من بشر.. وينصّ نظام الإقطاع هذا على احتكار النبلاء للملكيّة وعلى اعتبار النّاس (أقنانا) أي عبيدا للأرض ومجرّد أشياء مملوكة للنّبلاء والملوك.. ولإسباغ المشروعيّة على هذا الاسترقاق وإخضاع النّاس لنزواتهم استعان الملوك بالكنيسة التي تولّت أمر تخدير العامّة روحانيّا بزعم الحقّ الإلاهيّ الذي يجعل من ظلم الملوك قدرا مقدورا واستحقاقا فوّضه الله لهم يجب الخضوع له والاستسلام ويحرم الخروج عنه أو السّخط عليه.. وكان ردّ الفعل الطبيعيّ للشّعوب الأوروبيّة المقهورة التي فاض بها الكأس هو الثّورة على هذا الواقع المظلم والانفكاك من براثنه وسحب البساط من تحت ثالوث الشرّ وتحويل سلطاتهم الواسعة للشّعب المستعبد ،فكان ذلك إيذانا بنشوء المبدأ الرأسماليّ (فصل الدّين عن الحياة والسّلطة الرّوحيّة عن السّلطة الزّمانيّة)..
ردّ فعل غريزيّ
وبما أنّ الضّغط يولّد الانفجار فقد نصّ هذا المبدأ غريزيّا على أضداد ونقائض العهد البائد عنوة واقتدارا وثأرا وتشفّيا :فإزاء ديكتاتوريّة الملوك نُقِلت السّيادة والسّلطان للشّعب ،وإزاء وضع العبوديّة فُرِضت الحريّة المطلقة ،وإزاء الإقطاع أُقِرّت حريّة التملّك ،وإزاء الحقّ الإلاهي وتواطؤ الكنيسة فُرِضت حريّة المعتقد وفصل الدّين عن الدّولة وهكذا دواليك من النّقيض إلى النّقيض نكاية في سنيّ القهر والظّلم والاستعباد والاضطهاد.. فالعقيدة الرّأسماليّة برمّتها مجرّد ردّ فعل غريزيّ وانعكاس شرطيّ ضديد لواقع الشّعوب الأوروبيّة في القرون الوسطى، وهي بتلك الصّورة بعيدة كلّ البعد عن البحث الدّقيق والتّفكير العقلاني المستنير والاستنتاج الهادئ الرّصين ،فكان من الطبيعيّ أن تستعيض عن ديكتاتوريّة الملوك وعبوديّة الإقطاعيّين وشعوذات الكنيسة بديكتاتوريّة العقل البشريّ القاصر وعبوديّة الرّأسماليّين الجشعين وفراغ الإلحاد الموحش والمخالف للفطرة.. وكان من الطّبيعيّ أيضا أن تؤدّي إلى التّناقض والتّهافت والعجز والقصور وبالتّالي إلى شقاء معتنقيها والمكتوين بنارها.. كما أنّ العقيدة الرّأسماليّة التي انبثق عنها النّظام الجمهوريّ في الحكم هي عقيدة الحلّ الأسهل والحلّ الوسط والتّوفيق والتّلفيق :فهي تلغي الحقائق ولا تبحث في الواقع المختلف فيه ولا تُعنى بالحقّ والصّواب بل تحاول التّوفيق والتّرضية وترجيح كفّة الأغلبيّة أو كفّة المتنفّذين بصرف النّظر عن الحقّ والصّواب، وما الدّيمقراطيّة إلاّ مجرّد آليّة إجرائيّة لإدارة الصّراع على المصالح والمبادئ التي تنشأ في المجتمع..
هاجس الدّيكتاتوريّة
هذا المنطق الغريزيّ المتشفّي من التّاريخ واصل تكبيله للعقل الرّأسماليّ الدّيمقراطيّ أثناء معالجته لإشكاليّة الحكم ـ تصوّرا وتصميما شكلا ومحتوى منهجا وصلاحيّات ـ فالنّظام الجمهوريّ المنبثق عن العقيدة الرّأسماليّة كمنظومة حكم مناقضة للنّظام الملكيّ الكليانيّ الاستبداديّ ظلّ محكوما بهاجس الخوف من التغوّل والدّيكتاتوريّة والاستبداد بالحكم ممّا أثّر على طروحاته المتعلّقة بشكل الحكم وسلطة الحاكم :فبعد أن نقل السّيادة والسّلطان للشّعب فيما سُمّي بالدّيمقراطيّة ومكّنه من صلاحيّة التّشريع ووضع الدّساتير وسنّ القوانين فيحلّل ويحرّم ويحسّن ويقبّح من بنات أفكاره وحسب هواه وما يُمليه عليه واقعه ومصالحه ،وبعد أن همّش شخص الحاكم وجرّده من معظم صلاحيّاته ومن تلك الهالة والكاريزما التي كانت تحيط به وحوّله إلى مجرّد أجير لدى الشّعب لتطبيق ما اختاره لنفسه من قوانين ،لم يكتف بذلك بل تمادى وأوجد ـ مدفوعا بنفس الفوبيا ـ مبدأ تجزئة الحكم والفصل بين السّلط حتّى يقطع الطّريق أمام التغوّل والاستبداد بالسّلطة بحيث يكون الحكم بشكل جماعيّ مجزّأ مشتّتا بين الرّئيس والوزارات والبرلمان ومجلس الوزراء في شكل حلّ وسط لا في يد الحاكم ولا في يد الشّعب بل السّلطة نفسها هي التي تتولّى محاسبة السّلطة كما يزعمون.. هذا التصوّر الأخرق السّاذج لإشكاليّة الحكم أوجد هوّة شاسعة بين النّظريّة والتّطبيق وفتح الباب مشرعا على التّحوير والتّعديل نزولا عند واقع كلّ دولة وخصوصيّاتها وأعرافها وموازين القوى فيها ،كما فرقع مادّة النّظام الجمهوريّ الخام التي لم تكد تتجسّد على أرض الواقع إلى عدّة أشكال وتجارب تطبيقيّة متمايزة متباينة في توزيع الصلاحيّات بين رأسيّ السّلطة (الرّئاسة والبرلمان/الرّئيس ورئيس الوزراء)..
حلول ترقيعيّة
يمكن أن نميّزة بيسر بين خمسة أشكال كبرى نزولا نحو تحديد صلاحيّات الرّئيس :الشّكل الأوّل هو النّظام الرّئاسي ،ويتميّز بالفصل التّام بين السّلطتين التّنفيذيّة والتّشريعيّة مع استفراد رئيس الدّولة بالأولى ،فلا وجود لرئيس حكومة ولا رئيس وزراء ولا وزير أوّل على شاكلة الولايات المتّحدة الأمريكيّة.. الشّكل الثّاني هو النّظام الرّئاسويّ الذي يحافظ فيه رئيس الدّولة على صلاحيّات السّلطة التنفيذيّة كلّها لكنّه يستعين بحكومة ووزير أوّل يحاسبهما بنفسه ويغيّرهما متى شاء دون أدنى تدخّل من البرلمان على شاكلة ما كان يحدث في تونس أواخر عهد بورقيبة وطيلة عهد بن علي.. الشكل الثّالث هو النّظام الرّئاسيّ المعدّل ويُدعى بشبه الرّئاسيّ أو نصف الرّئاسيّ أو الرّئاسيّ البرلمانيّ ،ويقوم على الخلط بين النّظامين الرّئاسيّ والبرلمانيّ على شاكلة فرنسا حيث يكون للسّلطة التّنفيذيّة رئيس منتخب من الشّعب ورئيس وزراء مسؤول أمام البرلمان الذي يتولّى محاسبته وعزله.. الشّكل الرّابع هو النّظام البرلمانيّ الصّرف الذي يتميّز بالتّداخل والتّشابك بين السّلطتين التّنفيذيّة والتّشريعيّة مع صلاحيّات واسعة لرئيس الوزراء ،فيما يكون رئيس الدّولة صوريّا على شاكلة ألمانيا وأغلب الأنظمة الملكيّة.. الشّكل الخامس هو النّظام البرلمانيّ المعدّل الذي يحفظ للنّظام البرلمانيّ خصوصيّاته مع منح صلاحيّات أوسع لرئيس الدّولة حتّى لا يبقى مهمّشا وهو ما يدّعيه لنفسه النّظام السياسيّ الحالي في تونس.. هذا التّذبذب والنّوسان والدّوران في حلقة تلك الأشكال المفرغة التي تتناسل من بعضها بفُويرقات جزئيّة طفيفة أحيانا ،يعكس في الواقع قلقا مبدئيّا وضبابيّة إيديولوجيّة وتشوّشا في الرّؤيا وفقدانا للتصوّر الواضح لواقع الحكم وجحودا ونكرانا لطبيعة السّلطة وحقيقتها التي يقرّها المنطق وتفرضها سنن الحياة من حيث كونها فرديّة مركزيّة في شكلها لدنيّة ربّانيّة في مضمونها أو لا تكون..
تونس نموذجا
يمكن اختزال تجربة الحكم التّونسيّة بعد الثّورة في معادلة التّجاذب بين قطبين متنافرين متناقضين: الخوف من استبداد رئيس الجمهوريّة والاستنكاف عن تحويل هرم السّلطة إلى مجرّد ديكور في نظام برلمانيّ.. فقد اكتوت تونس منذ مسرحيّة الاستقلال وإعلان الجمهوريّة بنار النّظام الرئاسيّ المطلق مع الرّجل الصّنم بورقيبة ،ورغم تعديل تلك الصّيغة وتلطيفها بإقرار خطّة الوزير الأوّل منذ الهادي نويرة وطيلة فترة بن علي على الشّكل الرئاسويّ، إلاّ أنّ ديكتاتوريّة رئيس الدّولة ظلّت سائدة وظلّ هرم السّلطة فوق المساءلة البرلمانيّة والشّعبيّة :فبورقيبة نصّب نفسه رئيسا مدى الحياة أمّا بن علي فكانت تجدّد له (البيعة) آليّا في انتخابات صوريّة مسبوقة بمناشدات مقرفة.. بعد الثّورة دفع منطق الثّأر من العهد البائد وفوبيا التغوّل والاستبداد بشكل الحكم في تونس إلى أحضان النّظام البرلمانيّ الصّرف مع أوّل رئيس منتخب ما حوّل الرّئاسة إلى منصب صوريّ شرفيّ شكليّ.. إلاّ أنّ الصّورة المهتزّة للمنصف المرزوقيّ كرئيس كرتونيّ (منزوع الدّسم) مبتور الصلاحيّات لم تكن لترضي عقليّة الشّعب الرّئاسيّة أو لتشبع صورة الرّئيس راعي الشّؤون المحاط بهالة من الكاريزما في المخيال الشّعبي.. إزاء هذه الوضعيّة لا يمكن للمنطق الرّأسمالي العفن أن يسعف الطّبقة السياسيّة في تونس إلاّ بالحلّ الوسط بين رئيس مستبدّ وآخر (قفل على وذن جرّة)، فكان الخيار الغريزيّ الشّرطيّ متمثّلا في النّظام البرلمانيّ المعدّل الذي تتوزّع فيه صلاحيّات السّلطة التنفيذيّة بين الرئيس ورئيس الوزراء مع صلاحيّات واسعة لهذا الأخير تمكّنه من رسم الملامح العامّة للدّولة ،فيما تُفوّض لرئيس الجمهوريّة بعض الصلاحيّات السياديّة (السّياسة الخارجيّة ـ الأمن القوميّ العامّ ـ القيادة العليا للقوّات المسلّحة ـ حلّ البرلمان وتكليف من يشكّل الحكومة في حالات معيّنة..) وبعض الصلاحيّات الجزئيّة (تعيين ثلث أعضاء المحكمة الدّستوريّة ـ ضمان علويّة الدّستور ـ تعيين وزيري الخارجيّة والدّفاع بالتّشاور ـ حقّ المبادرة التشريعيّة ـ حقّ المصادقة على بعض القوانين ـ ترؤّس مجلس الوزراء..) هذا إلى جانب بعض البروتوكولات الشّكليّة (تعيين مفتي الجمهوريّة ـ إعلان حالة الطّوارئ ـ إقرار العفو العام أو الخاصّ..) وهي توليفة يُشتمّ منها رائحة البارود لاسيّما في ظلّ غياب الانسجام السياسيّ أو الإيديولوجيّ بين رأسيّ السّلطة..
(ذيل الكلب)
على أنّ هذا الاشتراك في الحكم والتّداخل في الصلاحيّات ما كان له أن يُرضي غرور شخصيّة سلطويّة سليلة المدرسة البورقيبيّة مثل الباجي قايد السّبسي ،لاسيّما وهو حينها مؤسّس الحزب الفائز في الانتخابات التشريعيّة ويملك حقّا دستوريّا في تشكيل الحكومة وتعيين رئيسها.. من هذا المنطلق دفع الحنين إلى الاستبداد والتغوّل بالبجبوج إلى أن يجثم بكلكله على الحياة السياسيّة في تونس ويتجاوز صلاحيّاته ويتصرّف بعقليّة (الأب الرّوحيّ للتونسيّين جميعهم) ـ شعبا وحكومة ومعارضة وموالاة ـ لا بوصفه أحد طرفيّ السّلطة التنفيذيّة مهمّشا رئيس وزرائه الحبيب الصّيد متدخّلا في صلاحيّاته ملغيا له متسلّقا على زلاّته وأخطائه.. فإذا أضفنا إلى هذه ال… شطحات الشّيخ راشد الغنّوشي وصولاته وجولاته وتنسيقه المباشر مع رئيس الدّولة نجد أنفسنا وقد عدنا القهقرى من النّظام البرلمانيّ المعدّل إلى النّظام الرّئاسيّ الصّرف مع بعض (البهارات المشيخيّة).. كما أنّ هذه الطبخة غير المستوية ـ عقليّة وممارسة ـ قد أفرزت تغوّلا مضادّا من نوع آخر تمثّل في استبداد رئيس الحكومة إمّا بتغليب المصالح الحزبيّة الضيّقة على المصلحة القطريّة العامّة (حمّادي الجبالي ـ علي العريّض) أو ـ وهذا الأخطر ـ بتغليب مصالح الكافر المستعمر على مصلحة تونس والتونسيّين العليا بما يعرّض سيادتهم وسلطانهم وأمنهم وخيراتهم للخطر المحدق ،وما جرائم المهدي جمعة ويوسف الشّاهد وإلياس الفخفاخ في حقّ البلاد ـ أرضا وبشرا وعقيدة ومقدّرات ـ عنّا ببعيدين.. عن هذا التّوظيف الاستعماريّ للنّظام البرلمانيّ سنتحدّث في الجزء الثّاني من هذه المقالة بإذن الله..