بنهاية الديمقراطية.. النهاية الحتمية للمبدأ الرأسمالي

بنهاية الديمقراطية.. النهاية الحتمية للمبدأ الرأسمالي

إن اختزال مشكلة الحكم في التداول على السلطة تحت واجهة الديمقراطية هي الخديعة الكبرى التي يمارسها المبدأ الرأسمالي على شعوب العالم، لأن حصر مشكل الحكم في شخوص الحكام وفي مدى تمثيليتهم للأغلبية في شعوبهم هو قمة الاستهانة بمفهوم الحكم الذي يتكون من أساسين هما الشكل والمضمون

فالديمقراطية هي شكل الحكم الذي تبنته العقيدة الرأسمالية في مسيرة حكمها للعالم، فلا فرق عندها بين أن يكون شكل الحكم ثيوقراطي أو استبدادي أو عسكري أو فوضوي أو فاشي، فكل هذه الأشكال للحكم، قد بنيت على عقيدة المبدأ الرأسمالي بحيث لم تنبثق أو تتفرع عنها، كمثل هو الحال في مبدأ الإسلام الذي ينبثق فيه شكل الحكم ومضمون الحكم من عقيدته انبثاقا*( إن شكل الحكم هو الخلافة ومضمون الحكم هو مجموع الأوامر والنواهي التي جاء بها الإسلام لتنظيم حياة الناس والمجتمع، ولهذا فإن شكل الحكم ومضمون الحكم في الإسلام ينضويان ضمن نفس دائرة مفهوم الحكم الشرعي، ولقد فرقنا بينهما لإبراز التفصيل القانوني بين نظام الحكم أي شكله وبقية أنظمة الحياة والمجتمع ).

وعلى هذا فإن المبدأ الرأسمالي في حقيقته هو مبدأ فاشي تقوم إنتاجاته المعرفية على قاعدة النسبية ومقياسه الأوحد هو النفعية، فلا حقيقة ثابتة لديه غير مصلحة رؤوس الأموال وأصحاب القوة والنفوذ، فإذا وقع المس بمصلحتهم يخرج قبضته الحديدية فيكشف عن وجهه المتوحش الحقيقي، فلا ترى منه غير القمع والتقتيل والتشريد فتعطل جميع شعاراته البراقة كالحريات والحقوق والمساواة والعدل والفصل بين السلطات تحت مسمى المصلحة العامة *(الشواهد التاريخية على حجم القمع الذي تتعرض له الشعوب الغربية في كل مرة يثورون فيها على أوضاعهم أكبر دليل على ذلك كقمع احتجاجات أصحاب السترات الصفراء في فرنسا، أو المظاهرات ضد التمييز العنصري في ّأمريكا..)ولهذا فإنه ولئن غلف خلال القرون الأخيرة قبضته الحديدية بقفازات ناعمة أذعن بها الشعوب كالعدل والمساواة وحقوق الإنسان وفي شكل نظام الحكم تبنى الديمقراطية، فإن المبدأ الرأسمالي قد عجز في نهاية المطاف عن حل ومعالجة مشاكل الإنسان، فتفاقمت أزمة الحكم لديه بحيث أصبح في مواجهة عدائية دائمة ومباشرة مع الشعوب.

ولهذا فلقد انتهت الديمقراطية لدى هذه الشعوب كواجهة للحكم وانكشفت لديهم حقيقة استعمالها من المبدأ الرأسمالي الذي اختزلها في التغيير الدوري لشخوص الحكام فأوهم الشعوب بأن سوء إدارتهم للحكم هو السبب وراء شقائهم، وبأن الحل يكمن في تغييرهم الدوري، في حين أن السبب الرئيس لهذا الظلم والعسف هو مضمون الحكم الذي يعالج مشاكل الواقع، ي القوانين التي تنظم حياة الناس والمجتمع، ولذلك فإن نهاية الديمقراطية في هذا المستوى من تاريخ البشرية، هي أمارة ودليل على نهاية المبدأ الرأسمالي من حكم العالم، لأنه إذا تبنى وتحالف عبر تاريخه مع العديد من أشكال الحكم، فإن تبنيه للديمقراطية وعدم قدرته على النجاح والاستمرار  بها في حكم الشعوب، لهو دليل واضح على فشل الفكرة الرأسمالية في معالجة مشاكل الإنسان، بل وتسببها في الشقاء والبؤس الدائم له.

وعليه، فإذا تمكن المبدأ الرأسمالي من النكوص على عقبيه والتصدي للديمقراطية في بعض البلاد الإسلامية أين تحالف من جديد مع الديكتاتورية كالإبقاء على نظام الملالة في إيران والعراق ودعمه لنظام العسكر في مصر والسودان وتكريسه للفوضى في سوريا واليمن وليبيا، فإن هذه الحلول غير ممكنة ومستحيلة التحقق مع الشعوب الأوروبية التي انكشفت لديها خدعة الرأسمالية لها بالصندوق الانتخابي ووهم الديمقراطية، ولهذا فإنه وبنهاية الديمقراطية ستنتهي الرأسمالية وتذهب بقيام نظام عالمي جديد قادر بالفعل على تحقيق استقرار البشرية وضمان العدل والحقوق ومعالجة مشاكل العيش لدى الإنسان بوصفه إنسانا.

ولكل ما ذكر، فإن المشكل المعرفي الذي يريد البعض من أبناء المسلمين أن يكرسوه انطلاقا من إرادتهم في تبني المفاهيم الغربية عن الحياة، هو محاولة ملاءمة ما يسمى بالدولة المدنية مع الدولة الإسلامية ومحاولة تركيبهما على بعضهما بناء على العقيدة الرأسمالية المتمثلة في الحل الوسط، بالرغم من أن المزج بين نظام الدولة الإسلامية بنظام الدولة الغربية المدنية هو تناقض محض وهراء فكري لا يستقيم، لأن التصادم بين النظامين لاختلاف أساسهما العقائدي والفكري لا يتيح ذلك البتة، فهما يختلفان في قاعدتهما الفكرية وفي الغايات وفي مناهج التفكير والتشريع وفي مقياس الأعمال، بحيث أن المزج بينهما بمثابة حل لمشكل كيميائي باستعمال معادلة رياضية أو تطبيق قاعدة نحوية خاصة باللغة العربية على جملة باللغة الانكليزية، فإذا مزجنا اللون الأبيض باللون الأسود فإننا سنفقد اللونين معا..

فالديمقراطية تقوم على فكرة أن الشعب سيد نفسه ليحكم نفسه بالتشريع الذي يَسُنُّهُ وينفذه ويفصل في المختلف حوله ممثلوه الذين اختارتهم أغلبيته، فالشعب هو مصدر السلطات الثلاث وإرادته هي السيدة والعليا التي تتحكم في كل شؤون الحياة، تشريع وتنفيذا وقضاء، وهذا على خلاف التصور الإسلامي لكيفية إدارة الحكم وتنظيم شؤون الحياة حيث نجد أن الخليفة والأمة محكومان من صاحب الشرع وهو الله سبحانه وتعالى، وهي سلطة إلهية فوقية لا تعصى ولا تراجع فيما حكمت به من تشريع وقوانين، فلا دخل للأمة ولا لرئيس الدولة الإسلامية أو أجهزتها في التشريع، بل جميعهم مطالبون بالإذعان لنظام الإسلام المنزل من خالق الإنسان والكون وهذه الحياة، وهذا مقتضى معنى السيادة للشرع وتجسيم لقوله ﷺ “إن الله هو السيد” *(سبق تخريجه).

  وتأسيسا على هذا، ولما كانت السيادة للشرع هي قاعدة الحكم الإلهية التي يجسدها التشريع وهو جانب فوق الأمة وفوق الخليفة، ولما كان وضع الأمة والخليفة في علاقتهما بهذا التشريع هو تحقيق مقصود الشريعة من التكليف المتمثل في خروج جميع المكلفين من طاعة أهوائهم إلى طاعة الله عز وجل*(قاعدة أصولية)، فإن بقية قواعد الحكم في نظام دولة الخلافة هي من مشمولات الأمة والخليفة لأنها قواعد بطبيعتها بشرية، وقد خاطبهما الشارع بها وكلفهما بتنفيذ مقتضياتها، لأنها القواعد التي تنظم كيفية تنفيذ الشرع وإقامة نظام الإسلام، فهي ناحية ممارسة الحكم وليست تشريع الأحكام، أي تتعلق بالسلطة وليس بنظام الحكم.

مقتطف من كتاب الاستاذ عماد الدين حدوق

المحامي لدى محكمة التعقيب وعضو حزب التحرير – تونس

“دولـــــــــــــــة الخلافـــــــــــــــة”

فلسفة الحكم والنظام القانوني.

CATEGORIES
TAGS
Share This