لم يكف أهل تونس أن ابتلوا بمنظومة ديمقراطية رأسمالية التفت على ثورتهم حتى كادت تفقدهم كل أمل في الانعتاق من ظلم حكام استبدوا بهم واستعبدوهم، والتحرر من التبعية الاستعمارية، لعل أقل شرورها أن وصل الدين العام في البلاد الى 89 بالمئة من إجمالي الناتج الداخلي، ليكون في حدود 80 مليار دينار، بينها مبلغ 7.5 مليار دينار وجب سدادها في 2020. كل ذلك إضافة لفشل ذريع في إدارة أزمة جائحة كورونا وانعكاساتها على اقتصاد البلاد، بعد إغلاق مسام الحياة، فرضته التبعية للمصالح الغربية الاستعمارية. بل صارت البلاد لا يتسنى لها أن تعيش يومها إلا إذا اقترضت سنويا 15مليار دينارا.
لم يكفهم كل ذلك حتى ابتلوا برئيس حكومة، أقام “لطمية” عن الوضع العام للبلاد، والمنهار حقيقة، حين اعترف أن ” الحلم بتونس جديدة يعيش فيها المواطن مطمئنا، ويومه أفضل من سابقه هو مجرد حلم، بل انقلب وهما وخيبة أمل ويأس لدى الكثير من أبنائنا… وهربا من ظروف معيشية صعبة ومطاردة لأمل لا يرونه في وطنهم “، حتى لكاد يلعن الثورة ومن قام بها والشعب الذي ساندها…
مع كل الظروف التي أحاطت بتكليفه لتشكيل الحكومة، والمناورات التي أفضت إلى حصولها على تزكية البرلمان والتعليلات السخيفة لتلك التزكيات، لم يشذ خطاب المشيشي أمام الجلسة العامة لمجلس ” نواب الشعب ” والتي عرض فيها برنامج حكومته في أي شيء عما عرضه أسلافه الذين سبقوه حين عرضوا برامجهم إلا فيما هو شكلي.
السياسات المعتمدة أصل البلاء
فمع اعترافه بارتفاع نسبة الدين العام، وبتراجع قدرة الناس على استهلاك حتى ما هو ضروري وحياتي، وتراجع مؤشر الاستثمار ومن ثم ارتفاع نسبة البطالة التي طالت كل شرائح المجتمع ولم يسلم منها حتى أصحاب الشهائد العليا، ثم ومع اعترافه الصريح بانخفاض ملحوظ للمقدرة على التصدي لهذه الأزمات بسبب “السياسات المعتمدة” (هكذا)، لا يزال يصر على اتباع نفس سياسة من سبقه بتأكيده على ضرورة إنجاز “الإصلاحات الضرورية”، بل لا يملك إلا أن يتبعها، والتي لا تعني إلا تطبيق أوامر صندوق النقد الدولي، أصل البلاء وأس كل داء استوطن أرضنا. الصندوق الذي أحكم قبضته على تلابيب حكام، لم يعودوا يرون الحياة إلا من خلال منظاره، فتزايدت ضغوطه على تونس للإسراع في تنفيذ ” إصلاحاته الاقتصادية” التي فرضها على بلادنا منذ أن وقع تبني البرنامج الهيكلي لسنة 1986، وباتت تهديداته المتكررة بإيقاف مد السلطة بالقروض بسبب ما اعتبره “عدم قيام الدولة التونسية بالإصلاحات المطلوبة” منذرة بشل الحياة الاقتصادية وانهيار مالية البلاد.
المشيشي يطمئن الدوائر الاستعمارية
وقراءة في خطاب المشيشي الذي عرض فيه استراتيجية حكومته التي جيء بها بوصفه الأقدر على إدارة المرحلة بحسب تقدير الرئيس قيس سعيد، لتدارك ومعالجة ما “أفسدته” الحكومات السالفة، لا يجد المتابع إلا كلاما عاما إنشائيا يخلو من كل خطة عملية للوصول إلى تلك الأهداف، مثل قوله أنه سيلتزم بإيجاد الحلول العملية وجعلها محل متابعة، وكقوله بضرورة معالجة مسألة تمويل الميزانية والمحافظة على المقدرة الشرائية للمواطن وحماية الفئات الهشة وضرورة إيجاد آلية لمساندتها، والحال أنه ينذر بخطر إفلاس الدولة. بينما نجده يطمئن الدوائر الاستعمارية بشكل عملي صريح بتعهده وحكومته الجديدة، بتنفيذ التزامات الدولة المالية تجاه المزودين بحلول نهاية 2021 والالتزام بخلاص المزودين مستقبلا في الآجال القانونية، والانطلاق في الحوار مع الشركاء والمانحين الماليين. والسؤال الواجب طرحه اليوم مجددا وبإلحاح وهو يعد بتحسين موارد الدولة، في إطار خطته التي عرضها على البرلمان، باستعادة نسق إنتاج القطاعات الاستراتيجية، وإذا استثنينا قطاع الفسفاط الذي هيمنت عليه لوبيات داخلية تتحكم في مسار إنتاجه وعملية نقله من منطقة المناجم إلى محطات تدويره أو تسويقه، فأي معنى لقوله تحسين موارد الدولة باستعادة نسق انتاج الغاز الطبيعي والبترول أو حتى قطاع الملح، والحال أنه لا سلطان للدولة على هذه القطاعات إلا على مستوى القيام على حمايتها لفائدة الناهبين العالميين، وهي إشارة تطمينية أخرى، للشركات العالمية.
في ظل تهديدات رئيس الدولة “بكشف الأسرار بكل صراحة عن الخيانات وعن الاندساسات وعن الغدر وعن الوعود الكاذبة وعن الارتماء في أحضان الصهيونية والاستعمار”، هل تقع خيانة التفريط في مقدرات الأمة والتغاضي عنها وتهديد من يعمل على استعادتها ضمن دائرة الخيانة هذه، والتي لم يضعها رئيس الحكومة الحائز على ثقة “ممثلي الشعب” في أعمدة أجندته وهو يعمل على إيقاف نزيف المالية العمومية؟
الإصرار على العمى…
لا زالت الأوساط السياسية في بلدنا كمثيلاتها في سائر بلاد المسلمين، من ذوي أصحاب النوايا الحسنة، دون الحديث عمن باعوا ذممهم واستمرؤوا العبودية، تصر على الخوض في المستنقعات الآسنة للحضارة الغربية علها تجد حلولا لجملة الأدواء التي جرتها علينا أفكار وتشريعات الديمقراطية الرأسمالية، ولا زالت تعرض عن شرع ربها العزيز الحكيم وما انبثق عنه من حلول لقضايا الإنسان.فلما صار الحديث عن الخيانة علنيا، تعترف به الدوائر الرسمية، وتتناوله وسائل الإعلام بلا مواربة، وخرج من تهمة “عقدة المؤامرة” التي تلقى على كل من صدق الله ورسوله والمؤمنين، وحذر منها، فأي خيانة أعظم من الإعراض عن طاعة الله؟ وأي خسران أعظم من الإعراض عن فضل الله وجحود نعمه على خلقه ؟