لماذا خسر علماء الزّيتونة معركتهم مع تيّار التّغريب العلماني؟ (5)
الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
تناولنا في المقالات السابقة موقف علماء الزّيتونة من انتصاب الحماية الفرنسية على تونس، وموقفهم من بعض الأحداث التي حصلت أثناء الاستعمار، وكان الغرض من ذلك بيان العامل الرئيسي الذي أدّى إلى انهزام علماء الزّيتونة في معركتهم ضدّ تيّار التّغريب البورقيبي. إننّا لا ننكر وجود عوامل أخرى – مهمّة أيضا – ساهمت في إضعاف جبهة علماء الزّيتونة، ومنها:
-
الخلاف المذهبي الطبقي داخل المؤسّسة: فقد كانت هناك خلافات وصراعات بين الأحناف والمالكية حول المكانة الدينية في الدولة والمجتمع؛ فكان لقب “شيخ الإسلام” حكرا على الأحناف إلى حدود سنة 1932م وهي السنة التي قرّر فيها الباي منح لقب “شيخ الإسلام” لباش مفتي المالكية آنذاك الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور. وتعبيرا عن احتجاجه على هذا الأمر قدّم شيخ الإسلام الحنفي أحمد بيرم استقالته، وتذكر بعض المصادر أنّه كتب من قبل “رسالة إلى وزير الخارجية الفرنسية وأوصلها ضابط فرنسي عائد لباريس، احتجّ فيها على اقتراح توسيع استعمال لقب شيخ الإسلام إلى الباش مفتي المالكي”(1).
-
التنافس بين العائلات العلمية: فقد ذكرت مصادر كثيرة وجود تنافس وصراع بين عائلات وأسر علميّة حول المكانة الدينية والمناصب والوظائف العلمية ومنها التنافس بين آل النيفر وآل عاشور.
-
الخلاف بين التيّارات الفكرية: فلا يخفى على أحد وجود جبهات فكريّة متعدّدة بين العلماء نتيجة لاختلافهم حول التّعليم الزيتوني من حيث المواد والأساليب والمناهج؛ ولهذا قسّم كثير من المؤرخين العلماء إلى جبهتين: محافظة وإصلاحية.وفي هذا يقول أمير شعراء تونس محمد الشاذلي خزنه دار (في قصيدة نشرت في 7 مارس 1937م):
الحال في المعهد الديني منصدع … يرثي لحاله حتى حاملو الوزر
الحال في جامع الزيتونة اضطربت … تفاقم الأمر عن طيّ وعن نشر
هذا يطالب بالإصلاح ينشده … وذاك يلحظه بالملحظ الشزر
والله يعلم أيان المآل به … والله يعلم ما في عالم السرّ
أما الذي هو مرئي فحشرجة … تدعو لخنسائها تبكي على صخر
-
الخلاف حول المؤسّسات المستحدثة: فقد سعت فرنسا المستعمرة إلى تطبيق نظامها على البلد، فأحدثت مؤسّسات جديدة منها التعليمية والقضائية اختلفت مواقف العلماء حولها. ومثال ذلك: اختلف العلماء حول المشاركة في المجلس العقاري المختلط الذي يجمع بين الفرنسيين والتونسيين. فرفض الانضمام إليه جمع من العلماء، وشارك فيه علماء آخرون منهم: محمد السنوسي ومصطفى بلخوجة ومحمد بلخوجة ومحمد بن الطيّب النيفر ومحمد الطاهر ابن عاشور (2).
-
الخلاف بين العلماء والطلبة: فقد كان العلماء في واد فيما يخصّ واقع البلاد وواقع التعليم الزيتوني، وكان الطلبة في واد آخر. ولا أدلّ على هذا من كثرة الإضرابات التي شهدتها الزيتونة في فترة الثلاثينيات من القرن العشرين واستمرت إلى الخمسينيات(3). علما أنّ ما سجّله التاريخ من نضال زيتوني ضدّ الاستعمار الفرنسي هو في حقيقته نضال الطلبة في درجة أولى، وبعض “العلماء الصغار” في درجة ثانية، وليس العلماء “الكبار”الذين كانوا يمتلكون السلطة الدينية والعلميّة.
-
الخلاف بين الحركيين: فقد شهدت فترة الثلاثينيات صحوة لدى العلماء من الجيل الجديد مدفوعة بالحراك العام للشّعب، فظهرت على الساحة الزّيتونية شخصيات علمية عاملة في الميدان السياسي الحركي، كالشيخ محمد الفاضل ابن عاشور والشيخ محمد الصالح النيفر، إلّا أنّها لم تكن موحّدة بل كان البارز عليها التنافس الناتج عن اختلاف بل تناقض في التصوّرات العملية للحراك الزّيتوني السياسي. ويمكن في هذا الصدد مراجعة كتاب “من روّاد الصحوة الإسلامية في تونس والجزائر: الشيخ محمد الصالح النيفر 1902-1993” للأستاذة أروى النيفر، ففيه معلومات قيّمة.
-
الخلاف في التقديرات السياسية: اختلف العلماء أثناء الحرب العالمية الأولى والثانية حول المنتصر؛ فكان بعض العلماء وهم الأقلّية يدافعون عن الألمان أملا في تحرير تونس، وكان بعضهم الآخر وهم الأغلبية يدافعون عن فرنسا رغم أنّها مستعمرة للبلاد. مثال الحرب العالمية الأولى: في الوقت الذي كان فيه الشيخ صالح الشريف وأصحابه في ألمانيا يروّجون للجهاد ضد فرنسا المستعمرة للبلاد، كان المجلس الشرعي في تونس يعبّر للمقيم العام الفرنسي عن مشاعر ولاء المسلمين في تونس لفرنسا ويشيد باحترامها للعقائد والعوائد الإسلامية. وأصدر جمع من المشايخ بيانات الولاء لفرنسا، ومنهم الشيخ محمد مناشو (ت1933م) الذي يعدّ من أعلام الإصلاح الزيتوني. وسعت فرنسا لتحسين صورتها عند المسلمين وإظهار عدم كرهها للإسلام وحرصها على احترام عقائد المسلمين وأنّها وفيّة لروح من ساعدها في حروبها، فبنت مسجد باريس الكبير الذي وقع تدشينه في يوم 15 يوليو 1926م من طرف الرئيس الفرنسي آنذاك دومارغ والسلطان المغربي مولاى يوسف بن الحسن، وكان ضمن الحضور في باريس الشيخ الطاهر ابن عاشور (الباش مفتي) والشيخ الصادق النيفر (القاضي المالكي) ومحمد رضوان (القاضي الحنفي). وقد حرصت فرنسا على توثيق ذلك في صحافتها وبالصّور.
-
الخلاف بين البلدية والآفاقيين: كانت المناصب العلمية في الزّيتونة تخضع للكفاءة العلمية، ولكنّها بلا شكّ غير كافية؛ إذ تلعب المحسوبية دورا مهمّا في تولّي المناصب. “وهذا ما يفسّر تواجد عدد وفير من أبناء الزعماء الدينيين من الحاضرة بين سلك العلماء بالمقارنة مع الشيوخ الآفاقيين رغم أنّ هؤلاء يشكّلون ما يزيد عن ثلاثة أرباع الطلبة بالجامع الأعظم وما يزيد عن نصف المتطوّعين. وبالإضافة إلى ذلك كان أبناء علماء الحاضرة بالمقارنة مع الآفاقيين ومع أبناء “رجال الدين” الثانويين يدخلون في صفّ العلماء في سنّ أبكر ويقضون فترات أقصر بين الترقيات… وقد قضى عثمان بن المكّي [التوزري] عشر سنوات في رتبة متطوّع وستّ عشرة سنة مدرّسا من الطبقة الثانية، وعندما سئل متى يتوقع أن يصبح مدرسا من الطبقة الأولى أجاب: (بعد آخر قطّ في أسرة النيفر)” (4). وتذكر بعض المصادر أنّ من أسباب هجرة الشيخ محمد الخضر حسين يأسه من الترقّي إلى رتبة مدرّس من الطبقة الأولى. ويقول الشيخ محمد الطاهر رويس: “وفي العهد الذي كنت فيه تلميذا بجامع الزيتونة [1947-1950م] وقعت مناظرة مدرسين مساعدين نجح فيها أحد أقارب أفراد لجنة المناظرة. فكلف بالتدريس في السنة الرابعة من المرحلة الأولى فلم يقدر على ذلك. فكلف بالتدريس في السنة الثالثة فعجز. ووقع له مثل ذلك في السنة الثانية والأولى فعجز عن التدريس كعادته. فاضطرت الإدارة لانتدابه موظفا بالإدارة”(5).