في ذكرى استشهاد أسد الصّحراء عمر المختار, وفي اللّيلة الظّلماء يُفتقد البدر…

في ذكرى استشهاد أسد الصّحراء عمر المختار, وفي اللّيلة الظّلماء يُفتقد البدر…

من نعم الله علينا نحن المسلمين أنّنا نمتلك زخما تاريخيّا مشحونا بالأمجاد نفاخر به الأمم ونبزّ به الأعداء ،وإن كنّا حاليّا نتخبّط في وحل حاضر من الانحطاط والهوان ما يجعلنا في أمسّ الحاجة إلى تلك الصّفحات المضيئة من ماضينا المجيد، وما أكثرها.. ولقد شارفتنا هذه الأيّام واحدة من تلك المحطّات المشحونة بالمعاني النّبيلة والقيم السّامية التي ضنّت يد هذا الزّمان الرّديء عن أن تجود بمثلها :إنّها ذكرى استشهاد أسد الصّحراء عمر المختار (16/09/1931)..

ورغم أنّ ذاكرة المسلمين مثخنة بالجراح مثقلة بالهموم يؤثّثها من أدفاق الشّهداء ما يغطّي أيّام السّنة كلّها آلاف المرّات، رووا ومازالوا أرض الإسلام بدمائهم الطّاهرة الزكيّة ـ فاتحين ومجاهدين ومرابطين ومقاومين وثوّارا وضحايا أبرياء ـ إلاّ أنّ محطّة المختار متميّزة وجديرة بأن نطيل عندها الوقوف ننهل من معينها الذي لا ينضب ما نستعين به على حاضرنا المثبّط للعزائم، ففيها من مواقف العظة والاعتبار ما يُحيي النّفوس ويشحذ العزائم ويستنهض الهمم ويستجيش الحفائظ.. ففيما يهرول (أصحاب المعالي والسّعادة والسّمو) حكّام المسلمين نحو التّطبيع مع كيان يهود الإجراميّ بخسّة ونذالة وحقارة منقطعة النّظير، ويفرّطون في مقدّسات المسلمين وأرضهم وعرضهم ودمائهم وثرواتهم، يقف المختار في المخيال الشّعبيّ والضّمير الجمعيّ للأمّة شامخا صامدا ثابتا مخلصا نقيّا، كيف لا وقد آثر الشّهادة على الاستسلام والخيانة ـ رغم التّقاعد السخيّ الذي عُرض عليه ـ وقال قولته الشّهيرة (نحن لا نستسلم فإمّا ننتصر أو نموت).. واليوم وبعد 89 سنة عن استشهاده ذهب شانقوه ومناوئوه من الاستعمار وأذنابه إلى مزابل التّاريخ ومجاريره ولم تحتفظ ذاكرة الإنسانيّة إلاّ بالمختار رمزا للنّضال الشّريف ونبراسا يضيء درب المظلومين والمضطهدين.. وفي الليلة الظّلماء يُفتقد البدر..

سيرة عطرة

لقد مثّلت سيرة الشّهيد عمر المختار ـ بامتياز ـ ترياقا لجميع الأمراض التي تنخر واقعنا السياسيّ :فهو بطل بدريّ بامتياز وإن تأخّر عن عصر النبوّة ،عليه من هيبة الرّجولة وبهاء الطّلعة ووقار العلماء وجلال المجاهدين ما يملأ النّفوس مهابة وإكبارا ويُعمّق الإحساس بالقرف والاشمئزاز من الأقزام والقرضايات وأشباه الرّجال والزّعماء المزيّفين المصنوعين حسب الطّلب والقادمين على ظهور الدبّابات الاستعماريّة.. ارتسمت على وجهه آيات من الألم والصّبر والتحدّي والعناد والإصرار والتّصميم والثّبات على المبدأ وقوّة الشّكيمة، زمن اليأس والاستسلام والقنوط والخضوع وضبط النّفس و(سلام الشّجعان) والشّرعية الدوليّة والقمم والمفاوضات التي لم يجن من ورائها المسلمون سوى تقنين الاستعمار وشرعنة الاندثار..إنّه مثال للشّجاعة والرّجولة والإقدام والشّهامة والشّرف والنّزاهة والتّضحية والفداء والإيثار، زمن الجبن والخيانة والخسّة والنّذالة والصّفاقة والتّطبيع وبيع الذّمم والأوطان والمقدّرات والمقدّسات في المزاد السياسيّ سرّا وعلانية.. إنّه مثال للبساطة والمباشرة والوضوح والصّدق والإخلاص: لا مراوغة ولا مداهنة ولا مهادنة ولا خداع ولا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض، زمن الضّحك على الذّقون وتزويق الاستعمار والمسخ بمساحيق الحداثة والواقعيّة والعقلانيّة والشّراكة والاستثمار والدّمقرطة وحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب..

بطل متكامل

هو باختصار نسخة طبق الأصل من الصّورة التي رُسِمت في المخيال الإسلاميّ للبطل المتكامل في زمن عزّت فيه البطولة والتبست بالخيانة :عالم ومريد ومتصوّف وفارس شهم ومجاهد عظيم اختزل في ذاته جميع معاني الجهاد وعتاده وساحاته.. فقد جاهد بالسّلاح مقارعا الفرنسيّين والطّليان، وجاهد بالفكر والقلم مؤدّبا للصّبيان وناشرا للإسلام جنوب الصّحراء الكبرى ،وجاهد بالعقيدة والإيمان كابحا لهواه وشهوات نفسه أمام مغريات الجاه والثّروة والسّلطان.. تولّى في شبابه مشيخة زاوية القصور بالجبل الأخضر التي تعلّم النّاشئة القرآن الكريم والفقه والأدب والنّحو ،ثمّ رافق الشّيخ المهدي السنوسيّ إلى جنوب الصّحراء الكبرى (تشاد والنّيجر) حاملا لواء الإسلام سيرا على الأقدام وعلى ظهور الإبل وصهوات الخيل في رحلات مضنية زادها العرق والعطش والرّمال والهوامّ والسّوام ،مضى يفري دياجير الظّلام متصدّيا للوثنيّة والبدع والخرافات مبلّغا لكلمات الله بلا مقابل ولا راتب ولا تشجيع ولا أوسمة ولا نياشين.. حسبه الله ونعم الوكيل.. ولمّا نشبت الحرب الجهاديّة ضدّ فرنسا في تشاد والنّيجر كان المختار ضمن أبطال الجهاد فاشترك في المعارك وقاتل في سبيل الله أربعة أعوام كاملة جُرح أثناءها مرّات وأشفى على الهلاك.. وما أن هاجمت إيطاليا ليبيا سنة 1911م حتّى لبّى نداء الواجب وكان في مقدّمة المجاهدين الذين أبلوا البلاء الحسن إلى أن توّج سيرته بالشّهادة..

قيادة عسكريّة فذّة

لم تنطل على المختار ألاعيب الاستعمار الفاشي ولا المساحيق التي غلّف بها نفسه وستر سوءته، ولم ير في الغزو الإيطاليّ إلاّ صولة النّصرانيّة على الإسلام وجولة جديدة من الحروب الصليبيّة فاختار التّجارة الرّابحة التي لا تبور واستحضر قوله تعالى (إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة).. بعد سقوط الجبل الغربيّ وتعثّ المقاومة في طرابلس تحصّن المختار بالجبل الأخضر واشتبك مع الطّليان في معارك تشهد له بالكفاءة والذّكاء والقوّة والتّصميم، وقد ذكرت الوثائق العسكريّة الإيطاليّة أنّ المختار قارعهم في أكثر من ألف واقعة ومعركة وكبّدهم خسائر فادحة في الأرواح والعتاد وأجبرهم أكثر من مرّة على استبدال القيادات والخطط، بل إنّه أدخل تغييرا على الموقف العسكريّ في برقة وأحيى آمال الحركة السنوسيّة في القدرة على مواصلة الكفاح ضدّ المدّ الفاشي..

وباختصار فقد جعل المختار من الجيش الفاشي أضحوكة بين الأمم الأوروبيّة وحوّل مغامرة احتلال ليبيا إلى وصمة عار على غرّة التّاريخ الإيطاليّ ناهيك وأنّهم تركوا على رمالها المحرقة ربع مليون جثّة ما بين إيطاليّين وأحباش وبلغت نفقاتهم الحربيّة 15 مليار ليرة ونفقات الحكومة أكثر من ملياري ليرة عدا الهزائم المنكرة والفضائح السياسيّة والأخلاقيّة والجرائم البشعة وتوابيت الموتى وأنهار الدّماء والدّموع، هذا دون أن يغنموا منها ليرة واحدة :فما إن استتبّ الأمر لهم حتّى كانت الحرب العالميّة الثّانية وطُردوا منها شرّ طردة..

ثبات وإصرار

ورغم أنّ الرّياح ـ كلّ الرّياح ـ جرت بما لا تشتهي سفن المختار إلاّ أنّه رفض الاستسلام للطّليان والتّفريط في الأرض والعرض والدّين والرّضا بالأمر الواقع وفضّل الصّمود والقتال حتّى النّهاية :فقد تخلّت جمعيّة الاتّحاد والترقّي الماسونيّة عن ليبيا واستسلمت الحركة السنوسيّة وهاجر أقطابها إلى مصر وانتهت المقاومة من معظم القطر الليبيّ بانقلاب البربر عليها واستشهاد قادتها العظام، وقلّ الزّاد وندرت الذّخيرة وانقطع المدد من مصر وتونس وأصيب المجاهدون بالاجهاد واليأس.. كما اقترف زبانيّة موسليني من الفظاعات في حقّ الشّعب الليبيّ ما أدّى إلى استشهاد نصفه بالتّمام والكمال (750 ألفا من 1.5 ملايين) وسجن نصفه الآخر خلف الأسلاك الشّائكة ،ولم يترك الجوع والمعارك من المختار إلاّ كومة من العظام يكسوها جلد قاس ما من موضع فيه إلاّ وبه لسعة عقرب أو نهشة أفعى أو طعنة خنجر أو ثقب رصاصة أو جرح شظيّة.. ورغم أنّ المنطق والواقع السياسيّ وحركة التّاريخ تفرض بأنّ هزيمته والقبض عليه والتفاف حبل المشنقة حول رقبته قد أضحى مسألة وقت لا غير، فإنّ المختار آثر الاستمرار في القتال ورفض بكلّ إباء وشمم أن يقبل بشروط الاستسلام والخضوع وفضّل الاستشهاد في سبيل كلمة الله والسّير على نهج أبطال الصّحراء الكبرى من الزّعماء المسلمين الذين قارعوا فرنسا وبريطانيا وإيطاليا بلا كلل ولا ملل وقدّموا نماذج رائعة للنّضال والكفاح المشرّف رافضين كلّ عروض الاستسلام والصّلح حتّى سقطوا شهداء دون أن ينال منهم الأعداء شيئا ،بل كلّفوا لهم غاليا ما كانوا سيحصلون عليه بلا مقابل..من هذه الطّينة خُلق عمر المختار..

لكلّ أجل كتاب

يوم الجمعة 28 ربيع الآخر 1350هـ/11 سبتمبر 1931م تسلّم المختار كتاب أجله ،وافاه مرفوع الجبين على صهوة جواده في أشرف ساحة والسّلاح زينة الرّجال في يده: فقد اشتبك مساء ذلك اليوم وقد مزّقه الجوع والعطش مع كتيبة إيطاليّة في معركة غير متكافئة، فقُتل جواده وجُرح هو ووقع في الأسر، ثمّ نُقل إلى بنغازي ومنها إلى قرية (سلوق) حيث حُكِم عليه بالإعدام..ولأنّ المختار أخلص جهاده لله فقد ثبّته الله في مثل هذا الموقف الذي تهتزّ له الأسود في آجامها مصداقا لقوله تعالى (يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثّابت في الحياة الدّنيا والآخرة) فلم يجزع أو يخف ولم يتضرّع أو يسترحم أو يعتذر ولم تهتزّ قناعاته ولا مسلّماته ولم تُصبه كبوة ولم يراجع نفسه ولم يرضخ للمساومات، بل واجه الموت رجلا كما عاش حياته رجلا، فخاطب جلاّديه وهو ينتظر تنفيذ الإعدام بعزّة نفس وبكلّ ثقة في الله ورضا بقضائه وقدره وبروح إيمانيّة عالية لم تعرف الخور ولا الجبن (نحن لا نستسلم بل ننتصر أو نموت وإنّ حبل عدالتكم لم يفارق عينيّ لحظة واحدة وقد اقتضت مشيئة الله أن أقع أسيرا بين أيديكم وهو وحده يتولّى أمري، أمّا أنتم فلكم أن تفعلوا بي ما تشاؤون ولكن ليكن معلوما عندكم أنّي ما كنت في يوم من الأيّام لأسلّم لكم طوعا).. ما أعظم المختار..

الشّهادة البطوليّة

لقد ضجّ العالم الإسلاميّ على عمر المختار وانهمرت الالتماسات على موسلّيني كي يرحم سنّه وشيبته وضعفه ووقاره وأعوامه السّبعين ويكتفي بسجنه أو نفيه، إلاّ أنّ (الدّوتشي) أصرّ إلحاحا على إعدامه ،بل أبى إلاّ أن ينفّذ الحكم بطريقة مهينة فيها من التشفّي والشّناعة والتّمثيل والثّأر ما تنأى عنه النّفس الكريمة ويأباه الشّرف العسكريّ :الشّنق حتّى الموت.. وفي الواقع فإنّ الله تعالى الذي ينتقي من عباده الشّهداء أراد أن يشرّف المختار بالشّهادة لأنّه أهل لها ،ولا رادّ لقضائه ومشيئته.. وعلى السّاعة التّاسعة من صبيحة الإربعاء 04 جمادى الأولى1350هـ/16 سبتمبر 1931م عُلِّق المختار على أرجوحة الأبطال بعد أن حصر الطّليان آلاف الليبيّين لمشاهدة المنظر إرهاقا لمشاعرهم ،وما هي إلاّ أن اقتطفت ملائكة الرّحمان روحه الطّاهرة الزكيّة وزفّتها إلى بارئها راضية مرضيّة فيما انفجرت الحناجر بالتّهليل والتّكبير والزّغاريد وانبرت الألسن تستمطر شآبيب الرّحمة على شيخ الشّهداء وتفتّقت آلاف القرائح برثاء المختار بقصائد عصماء مؤثّرة مازالت إلى اليوم تحتفظ برنينها المحزن..فأيّ حياة تضارع هذه الوقفة الشّريفة التي وقفها أسد الصّحراء، وأيّ عيش يضاهي هذه الموتة الكريمة التي ماتها ،وأيّ كنوز تساوي هذا الصّيت الذي اكتسبه..؟؟ وصدق الشّاعر حيث قال (والنّاس صنفان موتى في حياتهم وآخرون ببطن الأرض أحياء)..

لعنة المختار

لم يكن الدّوتشي ـ وقد أسكرته نشوة الانتصار وأخذته العزّة بالإثم ـ يعلم أنّ للمختار ربّا إسمه المنتقم يمهل ولا يهمل يمدّ للجبابرة في طغيانهم ثمّ يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.. فسرعان ما انكسرت جيوش المحور في العلمين وسيدي البرّاني وخرج الطّليان من ليبيا أذلّة وهم صاغرون وسقطت روما نفسها في أيدي الحلفاء وذاق الإيطاليّون القهر وذلّ الاحتلال وسقاهم الله من الكأس التي تجرّع منها الشّعب الليبيّ المجاهد.. أمّا الدّوتشي فقد أصابته لعنة المختار: إذ ثار عليه شعبه وقتل بأيدي مواطنيه شرّ قتلة يوم 29 أفريل 1945م..لقد ضُرب بخمس رصاصات منها واحدة في جبهته تناثرت على إثرها خلايا مخّه الذي سوّل له التشفّي من شيخ المجاهدين وطُرحت جثّته على قارعة الطّريق يركلها الشّعب ويبصق عليها في ازدراء واحتقار، وفي المساء عُلّقت من رجليها في إحدى محطّات البنزين وتُركت تتدلّى إلى صباح اليوم التّالي.. فأين هذا الخزي من الزفّة التي أقيمت للمختار والميتة البطوليّة التي ماتها..؟؟ لقد سجّل المختار بأحرف من نور بطولات وأمجادا لا بدّ أن تعيها الأجيال الحاليّة في كفاحها ضدّ الكافر المستعمر وأن تستنقذها من براثن العلمانيّين والعملاء الذين تمسّحوا بأعتابها وجنوا ثمارها زورا وبهتانا وأن تعيدها إلى حضن الأمّة تقتبس من عبرها ودروسها ما تستضيء به في دربها الحالك نحو استئناف الحياة الإسلاميّة ،وما ذلك عليها بعزيز إذا خلصت النيّة وصفت القلوب وصدقت العزائم.. فالمختار كامن في صدر كلّ مسلم ومستعدّ لأن يستيقظ في كلّ لحظة. المختار كلمة من كلمات الله وكلمات الله لا تدخل تحت الحصر (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربّي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي ولو جئنا بمثله مددا) ـ الكهف 109 ـ

أبو ذرّ التونسيّ (بسّام فرحات)

CATEGORIES
TAGS
Share This