لم يكن هجوم الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون على الإسلام والمسلمين أمرا جديدا في السياسة الفرنسية، فمنذ الحروب الصليبية لعبت فرنسا دورا مركزيا في الهجوم على الإسلام والاعتداء على المسلمين، ويكفي التذكير بما قاله الجنرال الفرنسي “غورو” إبان الاحتلال الفرنسي لبلاد الشام سنة 1917 أمام قبر صلاح الدين الأيوبي بدمشق بعد أن ركل قبره الشريف برجله الخبيثة قائلا: “ها قد عدنا يا صلاح الدين فقم”، حتى ندرك الحقد اللئيم الذي يتوارثه الساسة الفرنسيون وقادتهم ضد الإسلام والمسلمين.
وقد كان الاحتلال الفرنسي لتونس والجزائر وفتكه بالمسلمين هناك وقتله الملايين من مسلمي الجزائر الحبيبة وتقطيع آلاف الرؤوس وعرضها إلى يوم الناس هذا في متحف الجماجم البشرية بباريس ترجمة عمليه لذلك الحقد الصليبي الأعمى ضد الإسلام والمسلمين.
مكر فرنسا بتونس، ما أشبه اليوم بالبارحة:
ولئن استهدفت الحملة الفرنسية الإسلام دين الأمة إلا أن سياسيوها أشاروا لتونس في أكثر من مناسبة باعتبارها نموذجا للتطرف والإرهاب، ولم يكن هذا التحرش الفرنسي بتونس وليد اليوم، فمنذ اقتحام قواتها العاصمة تونس سنة 1881 وفرض الاحتلال والوصاية تحت مسمى معاهدة الحماية الآثمة، بقيت فرنسا تمارس الوصاية على تونس، وهي وان خرجت بجيوشها العسكرية فإنها تركت جيوشا من العملاء في الفكر والسياسة والعلام والاقتصاد ينافحون عنها وعن مصالحها ببلادنا، وكل ما فعلته فرنسا عند خروجها هو استبدال نظام البايات بالنظام الجمهوري، الذي نصبت عليه حراسا: وهم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة وحزب الدستور، وهو ما كشفته مداولات مجلس النواب الفرنسي مع وزير المستعمرات الفرنسية كريستيان بينو بعد توقيع وثيقة الاستقلال بشهرين سنة 1956.
إفتكت عصابة فرنسا الحكم تحت إشراف الغرب وحرابه، فسيطرت على قوى الامة الفعلية من قوى عسكرية وأمنية واستخدمتها لتركيز مشروع التغريب وإسناد رجالاته، تحت شعار بناء الدولة الوطنية الحديثة، مستغلة الجهل الذي عشش في عقول الناس زمن الاحتلال البغيض، فعاثت في البلاد فسادا، وطمست هوية الشعب وأنشأت المدارس والجامعات على أساس مناهج الفكر الغربي وحضارته وألغت التعليم الزيتوني وفرضت الأنظمة الغربية في الحكم والاقتصاد والاجتماع.
يقول النائب ميشال دبري سنة 1956 في مداولات مجلس النواب الفرنسي سالف الذكر بعد تحذيره من تسويق فكرة السلام في تونس والمغرب باعتبارها بلدان رخوة يمكن أن تسبب المتاعب لفرنسا:”إن حملتنا الصليبية هي حرب الحرية ضد الطائفية الدينية (sectarisme) ، وحملة تغلغل الحضارات ضد التقسيم المنشود للحضارات. حملتنا الصليبية هي حرب الاستقلال الحقيقي الذي يقوم أولا وقبل كل شيء على حرية المواطنين وغياب دين الدولة.”
ثم يضيف ويقول: “قوتنا ، يجب أن نخلقها من أجل حملة الحرية الصليبية تلك”.
ماكرون الصليبي العلماني
ولو نقارن أقوال هذا النائب الصليبي الذي يصف حملة فرنسا على المسلمين في تونس بالصليبية والتي تهدف إلى فرض الحضارة الغربية القائمة على فكرة الحرية وفصل الدين عن الدولة، لو نقارنها بما قاله ماكرون في 21 اكتوبر 2020 (وهو ما كرر في كل مناسبة): “سنواصل أيها المعلم، سندافع عن الحرية التي كنت تعلمها، وستحمل راية العلمانية (فصل الدين عن الدولة) عاليا” سنجد تطابقا مذهلا بينهما.
لماذا تتحرش فرنسا بتونس؟
لقد تعددت التصريحات التي تتحرش بتونس، فمنذ خطابه الأول الذي وصف فيه سيئ الذكر ماكرون الإسلام بأنه يعيش أزمة في كل مكان في العالم، أشار إلى تونس التي بدأت رويدا تتحرر من القبضة الغربية، حيث أطاح الشعب التونسي بأحد أهم أدوات الاستعمار وأشرسها التي كان يبطش بها، بن علي وحزبه التجمع سليل حزب بورقيبة، وكانت الإطاحة بتلك العصابة فرصة حقيقية للتحرر من نظام الحماية الاستعمارية، لذلك تحركت الدول الرأسمالية الكبرى واستدعت الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي بمؤتمر دوفيل بفرنسا سنة 2011 وذلك أربعة اشهر من بعد الثورة، وطلبوا منه طلبا واحدا وهو ان تبقى تونس ملتزمة بالاتفاقيات الدولية، اي ان تبقى تونس تحت الوصاية الغربية.
ويوضح هذا الأمر أيما وضوح جوليان أودول، مستشار رئيسة حزب الجبهة الوطنية اليميني، مارين لوبان، الذي صرح إثر حادثة الكنيسة بنيس بأنه على الشعب التونسي التصدي لمن يسعى إلى إقامة دولة إسلامية في بلده، في تصريح لقناة السياسي، واعتبر أودول، أن فرنسا لا تتدخل في الشأن الداخلي لتونس، لكن هناك من يسعى إلى إقامة دولة إسلامية لضرب أمن المنطقة، قائلا : نحن قلقون للأمر فقد نجد الدواعش على أبواب أوروبا.
فتصريحات الساسة الفرنسيون مؤخرا والتحذير من قيام دولة إسلامية في شمال إفريقيا وذكر تونس في كل مرة، يدل على مدى خوفهم من قيام الخلافة على حدود أوروبا، وهو الأمر الأساسي الذي يفزعهم، ولكن لن يحيق المكر السيئ إلا بأهله ومهما فعلت فرنسا لن تستطيع منع وصول مشروع حضاري قد آن أوانه. قال تعالى : يُريدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
مشكلة فرنسا مع الإسلام وليس مع الإسلاميين:
لقد هاجم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الإسلام، قائلا إنه «يعاني أزمة في كل مكان بالعالم، وقال في خطابه الذي ألقاه في ليه موروه، أحد الأحياء الحساسة في ضاحية باريس أمس ان على فرنسا «التصدي للانعزالية الإسلامية» الساعية إلى «إقامة نظام مواز» و«إنكار الجمهورية». وأوضح بالقول: «ثمة في تلك النزعة الإسلامية الراديكالية (…) عزم معلن على إحلال هيكلية منهجية للالتفاف على قوانين الجمهورية وإقامة نظام مواز يقوم على قيم مغايرة، وتطوير تنظيم مختلف للمجتمع»، ووصف حادثة نيس التي وقعت يوم الخميس الفائت بأنه “هجوم إرهابي إسلامي”، فنسبه للإسلام، واعتبر وزير الداخلية الفرنسي أن بلاده “في حالة حرب مع أيدولوجية الإسلاميين المتشددين”.
كما هاجمت مارين لوبان، رئيسة حزب “الجبهة الوطنية” اليميني المتطرف في فرنسا التيارات الإسلامية متحدثة عن “البربرية الإسلامية”، من جهته قال عمدة نيس كريستيان استروزي “آن الأوان أن تضع فرنسا حداً وبشكل نهائي للفاشية الإسلامية على أراضينا”، أما فرانسوا هولاند الرئيس الفرنسي الأسبق فقد وصف الهجوم على الكنيسة بقوله “مرة أخرى الوحشية تضرب نيس، مرة أخرى نيس يطالها الإرهاب الإسلامي”.
فساسة فرنسا ينسبون كل حادثة يقوم بها مسلم للإسلام ويرفقونها بأوصاف مغرضة مثل قولهم الفاشية الإسلامية والإرهاب الإسلامي والبربرية الإسلامية، في حين لا يتم توصيف الأعمال الإجرامية التي يرتكبها مسيحيون باسم المسيحية بالإرهاب المسيحي أو التي يرتكبها العلماني دفاعا عن علمانيته بالإرهاب العلماني، وهو ما يؤكد أن الإسلام هو المستهدف وليس الفئة الإسلامية التي قامت بحوادث تستهدفهم.
تأليب الرأي العام الداخلي والخارجي ضد الإسلام والمسلمين
وبما أن فرنسا دولة صغيرة وضعيفة أمام الإمكانات الهائلة للأمة الإسلامية فمساحتها لا تتجاوز 2% من مساحة بلاد المسلمين وعدد جيشها لا يتجاوز 2% من جيوش المسلمين، فمجرد دعوات فردية للمقاطعة الاقتصادية أثرت فيها وجعلتها تُولول، لذلك تحاول استمالة أوروبا والعالم معها، وستواصل من أجل ذلك بالدفع نحو الأسوأ ولو باستحداث عمليات ضد أبرياء لإثارة الرأي العام الداخلي والأوروبي ضد الإسلام والمسلمين، فتاريخ الساسة الفرنسيون حافل بمثل هذه الأعمال ويكفي التذكير بحادثة اختطاف الدبولوماسي الفرنسي وزوجته في الجزائر سنة 1994 لتبرير حملتها على المعارضة الحزائرية في فرنسا، فقد كشفت خيوط حادثة الاختطاف بعد سنوات، حيث تبين أن الأمر كان بتنسيق بين المخابرات الفرنسية والجزائرية.
كما أن الرئيس السابق فرنسوا هولند قد اعترف في وقت سابق بأنه أعطى الإذن للمخابرات الفرنسية للقيام بأربعة إغتيالات في إفريقيا في الفترة التي اغتيل فيها سياسيين بارزين في تونس وهما شكري بلعيد والحاج الابراهمي، وقد أدى ذلك الاغتيال إلى تنازل الترويكا عن الحكم وسير تونس في سياسة التوافقات التي وقعت بين الباجي قايد السبسي وراشد الغنوشي تحت سقف الخيمة الفرنسية بباريس.
ضرورة الصراع الفكري
في ظل غياب دولة الخلافة الراشدة التي تتولى الدفاع عن الإسلام والمسلمين باعتبارها الدرع الحامي الذي يحمي ذمار الأمة وبيضة المسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به، فإن الواجب على الأمة، بخاصة المفكرين وأهل الرأي فيها أن يواجهوا هذا الهجوم الفرنسي على إسلامهم بهجوم فكري مضاد يبرز عظمة أحكام الإسلام وتفاهة النظام الديمقراطي وفساد فكرة الحريات وفكرة فصل الدين عن الحياة.
فماكرون عندما هاجم الإسلام وهاجم النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهاجم “الانفصالية الإسلامية” هو يريد بذلك أن يتخلى المسلمون عن دينهم. فالحديث في فرنسا عن كل مظاهر الإسلام؛ عن الأكل الحلال، وعن الحجاب ومنعه في الحياة العامة، وعن الاختلاط، وعن العبادة، أي طريقة عيش المسلمين وفق الأحكام الشرعية وهذا يكشف عنصرية فرنسا ويفضحها أمام العالم.
عظمة أحكام الإسلام
ولذلك لا بد من مواجهة الفكر الغربي وإسقاطه من أعين الناس بإثارة مواضيع مختلفة في الاقتصاد والحكم ورعاية الشؤون وحقوق الأقليات، وفي هذا الخصوص يكفي أن نشير كيف رعى الإسلام الأقليات في الدولة الإسلامية، حيث لم يأمرهم بالتخلي عن دينهم و لم يمنعهم عن كنائسهم ولم يتدخل في مطعوماتهم وملبوساتهم ولم يلزمهم بالاحتكام إلى الإسلام في علاقة الرجل بالمرأة، بل جعل لهم محاكم وقضاة من بني جلدتهم يفصلون بينهم في النظام الاجتماعي بحسب دينهم، وحتى عندما طلب منهم احترام النظام العام في المجتمع، طلب ذلك دون أن يلزمهم بالاقتناع به والتخلي عن مفاهيمهم كما تريد فرنسا اليوم من المسلمين أن يتخلوا عن قناعاتهم وعن طريقة عيشهم في حياتهم الخاصة والعامة. والدليل على حسن رعاية الأقليات في الإسلام بقاء كل الطوائف والأديان الأخرى في بلاد المسلمين رغم حكمها 1300 سنة بالإسلام، أما الغرب وفكره الرأسمالي فيضايق المسلمين في لقمة الحلال وما خفي أعظم.
ولا شك أن النصر في هذه المعركة سيكون للإسلام لأنه فكر يقنع العقل ويوافق الفطرة، ومن شأن هذا الصراع الفكري مع الغرب وأنصاره في بلادنا أن يهيئ الأجواء الفكرية والسياسية لقيام الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة التي ستتولى الرد على الإساءات الفرنسية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالأسلوب الأنسب.