الجالية العربيّة والإسلاميّة أيتام على مأدبة الانتخابات الأمريكيّة..

الجالية العربيّة والإسلاميّة أيتام على مأدبة الانتخابات الأمريكيّة..

مع انطلاق ماراطون الانتخابات الأمريكيّة وما تخلّله من تجاذبات واتّهامات وبلطجة سياسيّة جديرة بأحطّ الشّعوب وأتفه الأنظمة انخرط مرشّحا الحزبين الرّئيسيين المتنافسين ـ الجمهوريّ دونالد ترامب والدّيمقراطيّ دجو بايدن ـ في حملة مغازلة للقوى السياسيّة ومراكز الضغط والأقليّات والجاليات التي يمكن أن تمثّل مخزونا انتخابيّا، والعزف على أوتار مصالحها وميولاتها السياسيّة وارتباطاتها الثقافيّة والعقائديّة في محاولة لكسب ودّها وحصد أصوات منتسبيها.. ومن الطبيعيّ أن تختلف هذه الحملة حدّة وقوّة باختلاف حجم تلك المكوّنات وتمثيليّتها الانتخابيّة ومدى تأثيرها الاقتصاديّ والسياسيّ لاسيّما في إطار المنظومة الرّأسماليّة الجشعة ونظامها الجمهوريّ الذي يتعامل مع الانتخابات كآليّة لتسويق وترويج (سلعة) ويجعل من رئيس الدّولة مجرّد أجير لدى كبار اللوبيّات والشّركات العملاقة العابرة للقارّات، وهي بصفتها تلك سلاح فعّال قد يقلب موازين القوى رأسا على عقب ناهيك وأنّ هذا (الميركاتو السياسيّ) كثيرا ما ترتفع فيه أسهم الأقلّيات الميكروسكوبيّة وتصبح لها الكلمة الفصل في تحديد مسار الانتخابات عن طريق لعب دور (مرجّح كفّة الميزان) بما يفتح أمامها أبواب المناورة السياسيّة على مصراعيها.. من هذا المنطلق وبالرّجوع إلى واقع الجالية العربيّة والإسلاميّة في أمريكا نلمس دون عناء أنّ هناك معوقات جمّة تحول دون تمكّنها من بناء قاعدة سياسيّة ومخزون انتخابيّ يساعدها في نحت موطئ قدم صلب الوسط السياسيّ الأمريكيّ ،فهي تنوء تحت كلكل التّمييز والعنصريّة والإسلاموفوبيا والإرهاب بما يعرقل مساعيها في الاندماج فضلا عن التّأثير في المسار السياسيّ..في هذا الخضمّ المكيافلّي المتخبّط في وحل فنّ الممكنات وفي هذه البيئة السياسيّة المليئة بالتحدّيات والموبوءة بالكيانات العريقة المتجذّرة والمعادية حدّ الشّطط للإسلام والمسلمين ،وفي ظلّ هكذا دولة رأسماليّة استعماريّة محاربة للإسلام كجزء من أمنها القومي مستبيحة لثروات المسلمين كحقّ مكتسب مشروع ،هل يمكن للجالية العربيّة والإسلاميّة أن تمثّل ثقلا سياسيّا ورصيدا انتخابيّا يؤهّلها لأن تلعب دورا ما في السّياسة الأمريكيّة الخارجيّة أو حتّى الدّاخليّة يمكن أن يؤثّر إيجابا على مواقفها من العرب والمسلمين..؟؟

المسلمون في أمريكا

قبل الخوض في تاريخ الوجود الإسلاميّ في أمريكا نشير إلى أنّ مصطلح (الجالية العربيّة) يحتاج إلى بعض التّدقيق، ذلك أنّه لا يشمل العرب المسيحيّين بل يُقصد به الجالية الإسلاميّة بمختلف أصولها :فالعرب النّصارى قد هاجروا من بلاد الشّام ومصر منذ القرن 19م قبل هجرة العرب المسلمين وسائر الشّعوب الإسلاميّة ،وقد اندمجوا في المجتمع الأمريكيّ وذابوا فيه وأصبحوا مكوّنا من مكوّناته دون أيّ معوقات حتّى أنّ منهم من ترشّح للانتخابات الرّئاسيّة لسنة 2000 (رالف نادر).. فالإشكال ليس في الجنس العربيّ بل في العقيدة الإسلاميّة المرفوضة ابتداء ومعتنقيها غير المقبولين في المجتمع الأمريكيّ..فيما يتعلّق بالوجود الإسلاميّ المحلّي فقد تشكّل مطلع القرن الـ20م مع جماعات المسلمين السّود الذين وظّفوا الإسلام كشكل من أشكال التميّز في إطار محاربة العنصريّة المتفشّية ضدّهم بين الأغلبيّة البيضاء ذات الأصول الأوروبيّة ،فلم يظهروا بوصفهم إسلاميّين أو حملة دعوة وأصحاب مشروع تغيير بل بصفتهم (أخويّات وجمعيّات خيريّة) مناهضة للعنصريّة ولم يكن لديهم أيّ تصوّر أو فهم صحيح للعقيدة الإسلاميّة.. أمّا عن الوجود الإسلاميّ كجالية خارجيّة أجنبيّة صلب المجتمع الأمريكيّ فحديث نسبيّا: إذ بدأت تتشكّل معالمه أواسط القرن الـ20م مع بدء الهجرة الانتقائيّة المنظّمة ـ ضمن سرقة العقول والخبرات والكفاءات الإسلاميّة ـ وقد استقرّ المسلمون خاصّة في ولايات الغرب والجنوب (كاليفورنيا ـ فلوريدا ـ تكساس ـ فرجينيا ـ متشيغان ـ نيو جرسي ـ أوهايو ـ إيلينوي..) وكوّنوا فيها جاليات متواضعة..

أوضاع مزرية

لقد عانى هؤلاء الروّاد من أبشع أشكال التّمييز والحرمان من أبسط حقوق الأقليّات التي ينصّ عليها الدّستور الأمريكيّ صراحة ويكفلها المجتمع الأمريكيّ المكوّن أساسا من الأقليّات الإثنيّة والعرقيّة واللغويّة ،وكان طبيعيّا أن يخفقوا في الاندماج الكلّي للتّباعد الحضاريّ المشطّ بينهم وبين العمود الفقريّ المكوّن للنّسيج المجتمعي في أمريكا لاسيّما مع تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا والرّهاب المرضي من المسلمين..فهذه الظّاهرة يقع إذكاؤها بشكل منهجيّ من طرف اللوبي الصّهيوني والإعلام المحلّي و الأحداث السياسيّة لإبقاء المسلمين على هامش المجتمع الأمريكي في حالة من التوجّس والخوف المتبادل بينهم وبين سائر المكوّنات الأخرى ناهيك وأنّ السّياسة الخارجيّة الأمريكيّة القائمة على تهويد فلسطين ومحاربة الإسلام وشفط خيرات المسلمين تحتطب لها وتكرّسها وتنمّيها ،فما أن تخبو نارها حتّى تتّقد مجدّدا (11 سبتمبر ـ فلسطين ـ أفغانستان ـ باكستان ـ العراق ـ سوريا ـ ليبيا ـ طالبان ـ القاعدة ـ داعش..)..

أمّا على المستوى الكمّي فالمسلمون لا يمثّلون ثقلا معتبرا (3.45 مليونا من جملة 320 مليونا ما يمثّل 1.1 بالمائة من مجموع السكّان) وهم إلى ذلك من أكثر المجموعات الدينيّة تنوّعا عرقيّا ـ بما يعرقل تواصلهم وتوحّدهم ـ وأقلّهم ثقلا اقتصاديّا فأغلبهم من الطّلبة والجامعيّين والفنيّين والعملة المختصّين وغير المختصّين، وقد ظلّوا بمنآى عن العمل السياسيّ ولم يسجّلوا حضورهم في الدّوائر العسكريّة إلاّ نادرا وبرتب متدنّية..مطلع السّبعينات شهد حدثا فارقا في تاريخ الجالية الإسلاميّة بأمريكا وتمثّل في نشوء المؤسّسات السياسيّة الإسلاميّة الكبرى (مجلس العلاقات الإسلاميّة الأمريكيّة “كير” ـ التحالف الإسلاميّ الأمريكيّ ـ المجلس الإسلاميّ الأمريكيّ ـ مجلس الشّؤون العامّة الإسلاميّ) وهو حدث قد يفهم منه بداية وعي سياسيّ ورغبة في التنظّم ،لكن وبمزيد التّدقيق في واقع هذه (الجمعيّات السياسيّة) نلاحظ أنّها نشأت بإيعاز من السّلطات الأمريكيّة لإحكام قبضتها على الجالية الإسلاميّة والتجسّس عليها وتوظيفها وقطع الطّريق أمام أيّ محاولة جديّة للتنظّم السياسي على أساس العقيدة الإسلاميّة..

بداية متعثّرة

إنّ عدم قبول المجتمع الأمريكيّ للجاليات الإسلاميّة وعدم قدرة هذه الأخيرة على الاندماج في ذلك المجتمع والذّوبان فيه خلق حالة من انفصام الشّخصية السياسيّة لدى تلك الجالية التي وجدت نفسها مقطّعة بين عالمين مختلفين متباينين :قلبها وجذورها في العالم الإسلاميّ وعقلها ومحفظة نقودها في بلاد العمّ سام ،كما وجدت نفسها ـ شاءت أم أبت ـ على ثغر من ثغور الإسلام مسؤولة عن مصالح أمّتها في عقر دار عدوّها..إلاّ أنّ الانتقال السّريع والنّاجع من حالة (انعدام الوزن السياسيّ) التي فُرضت عليها إلى حالة (التّأثير في أهمّ نظام سياسيّ في العالم) التي تنشدها لن يكون سهلا ميسورا في ظلّ بيئة ثقافيّة معادية ومناخ اجتماعيّ عنصريّ حدّ النّخاع ووسط سياسيّ مكتسح بالكامل من طرف لوبيّات الضّغط الصهيونيّة.. أوّل إطلالة للجالية الإسلاميّة على الوسط السّياسي الأمريكيّ كانت سنة 1969م حيث تركت بصماتها على الانتخابات المحليّة في الولايات التي تتواجد فيها بكثافة، ثمّ وانطلاقا من سنة 2000م انخرطت بثقلها في أهمّ المحطّات السياسيّة الأمريكيّة ـ ألا وهي الانتخابات الرّئاسية ـ طيلة فترتيّ كلّ من بوش الابن وأوباما.. وقد استعدّ مسلمو أمريكا لخوض هذه التّجربة السياسيّة بمبادرتين استراتيجيّتين أولاهما :إنشاء مجلس تنسيقيّ لمؤسّسات الجالية الإسلاميّة فيما بينها والاتّفاق على وضع أجندة عمل مشتركة للمسلمين في الولايات المتّحدة ،أمّا الثّانية فالاتّفاق على تصويت الجالية الإسلاميّة ككتلة انتخابيّة موحّدة وما استتبع ذلك من عمليّات سبر لآراء أبناء الجالية وحملات تسجيل النّاخبين في المساجد والمراكز الإسلاميّة..

انعدام وعي

هذه الخطوة ـ وإن كانت تعكس ظاهريّا قدرا من الوعي السياسيّ ورغبة في التنظّم وتوحيد الجهود ـ إلاّ أنّ الانخراط في العمل الميدانيّ طيلة العقدين الأخيرين كان مخيّبا للآمال ،فالقراءة السياسيّة المستنيرة لتلك التّجربة تُجلي ما يلي..

أوّلا: أنّها تجربة قائمة على ردود الأفعال الغريزيّة ومنطق المثير والاستجابة البعيد كلّ البعد عن التروّي والرّؤية السياسيّة الثّاقبة.. ثانيا: أنّها تجربة مطلبيّة قائمة على المصلحة الفئويّة الحزبيّة الضيّقة، فقد انصبّ اهتمامها على الشّؤون الدّاخليّة للجالية الإسلاميّة الأمريكيّة والدّفاع عن حقوق أبنائها في عدم التّمييز ضدّهم أو الإساءة إلى مقدّساتهم دون أن ترتقي إلى مستوى لوبي إسلاميّ يؤثّر في مواقف الولايات المتّحدة تجاه العرب والمسلمين في القضايا الدّوليّة..ثالثا: أنّها تجربة ضبابيّة مشوّشة قصيرة النّظر مفتوحة على شتّى الاحتمالات ليس لها خطّ واضح داخل الوسط السياسيّ الأمريكيّ.. فالجالية الإسلاميّة ظلّت مذبذبة في خياراتها تؤيّد الحزب الدّيمقراطيّ في سياسته الدّاخليّة المنفتحة نحو الأقليّات وتؤيّد الحزب الجمهوريّ في سياسته المحافظة تجاه الأسرة والأخلاق ،حتّى أنّها أحجمت عن مساندة المرشّح العربيّ عن حزب الخضر (رالف نادر) لاستحالة فوزه في الانتخابات.. رابعا: أنّها انعكاس شرطيّ مسبق ضديد للموقف اليهوديّ ابتداء ومحكومة بمنطق (أخفّ الضّررين وأهون الشرّين) دون أدنى وعي أو تروّ.. من هذا المنطلق ساندت الجالية بوش الابن في رئاسيّة 2000م ضدّ خصمه آل غور الموالي صراحة لإسرائيل مع أنّ كليهما صهيونيّ حدّ النّخاع، ناهيك وأنّ بوش اقترف في ولايته أشنع الجرائم في حقّ المسلمين (غزو أفغانستان وتحطيم العراق).. فالتّجربة السياسيّة للجالية الإسلاميّة الأمريكيّة ارتجاليّة سطحيّة وساذجة أهدرت طاقات المسلمين سدى وحوّلت أصواتهم ورصيدهم الانتخابيّ إلى سلعة ومادّة خام في سوق الانتخابات لمن يحسن توظيفها وركوبها..

الانتخابات الحاليّة نموذجا

مصداقا لهذا الاستنتاج وكما كان منتظرا في ظلّ هكذا مواصفات ،خضعت الجالية الإسلاميّة بأمريكا بالغريزة للعامل الشّرطي (المثير والاستجابة) وللمنطق المكيافلّي (أخفّ الضّررين وأهون الشرّين): فقد أظهر استطلاع للرّأي أجراه مجلس العلاقات الأمريكيّة الإسلاميّة (كير) أنّ 75 بالمائة من النّاخبين المسلمين بأمريكا أكّدوا دعمهم للمرشّح الديمقراطيّ (دجو بايدن) على المرشّح الجمهوريّ (دونالد ترامب) نكاية في هذا الأخير الصّهيونيّ الفضّ المتعجرف الذي مرّغ شرف العرب والمسلمين وخذل قضاياهم المصيريّة وتاجر بأقدس مقدّساتهم في فلسطين وأذكى بمواقفه الرّعناء الإسلاموفوبيا في المجتمع الأمريكيّ.. إلاّ أنّ الذي غاب عن تلك الجالية (المفعول بها) أنّها بخيارها ذاك لا يمكن أن تخرج عن أحد احتمالين: فإمّا أنّها قامت بما أريد لها أن تقوم به ووظّفت لتحقيق رغبة اللّوبيّات السياسيّة في أمريكا، أو أنّها قد أدلت بدلوها جزافا ولن يغيّر خيارها في النّتيجة المخطّط لها شروى نقير، وذلك للاعتبارات التّالية:

أوّلا: أنّ السّاحة السياسيّة الأمريكيّة محكومة بثوابت وطابوات فوق كلّ الاعتبارات ومصالح عليا يتسابق الجميع على تحقيقها مهما كانت انتماءاتهم الحزبيّة (الدّعم الأعمى لإسرائيل وضمان تفوّقها على العرب أجمعين ـ الحرب على الإرهاب والسّعي الحثيث للقضاء على الإسلام وتركيع المسلمين ـ المحافظة على المصالح الأمريكيّة في العالم الإسلاميّ وتدعيمها ـ دعم السّياسة الأمريكيّ في الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا الوسطى).. ثانيا: أنّ أيّ رئيس محتمل للولايات المتّحدة لا يُتصوّر أن يخرج عن هذه الثّوابت مهما كان توجّهه السياسيّ ،صحيح أنّ السّياسة الأمريكيّة تتغيّر من رئيس وحزب إلى آخر ولكنّ ذلك على مستوى الوسائل والأساليب المعتمدة من حيث مرونتها وصلابتها..ثالثا: أنّ أمريكا دولة مؤسّسات للرّئيس فيها ربع صلاحيّات الحكم، أمّ الثّلاثة أرباع الباقية فموزّعة على (الكونغرس والبنتاغون والسّي آي آي) التي تردع الرّئيس عن أيّ تصرّف يتعارض مع الأمن القوميّ الأمريكيّ.. رابعا: أنّ صندوق الاقتراع لا يعكس بالضّرورة نتائج الانتخابات الأمريكيّة، فللمحكمة العليا كلمتها التي قد تقلب الأوضاع رأسا على عقب وهذا حصل سابقا ومنتظر بشدّة أن يتكرّر حاليّا لاسيّما والرّئيس ترامب منخرط في مشاريع خطيرة تصبّ في مصلحة إسرائيل واللّوبي الصّهيوني (صفقة القرن ـ التطبيع..).. ما لم تع الجالية الإسلاميّة الأمريكيّة هذه المعطيات وتسع إلى كسر طوقها فإنّها ستظلّ مجرّد رصيد انتخابيّ موظّف من طرف أعدائه كمرجّح لكفّة الميزان لإقصاء مرشّح أو دعم آخر ضمن سياق سياسيّ لا ناقة للمسلمين فيه ولا جمل..

أبو ذرّ التونسيّ (بسّام فرحات)

CATEGORIES
TAGS
Share This