أوردت صحيفة “لو باريزيان” أن لجنة تحقيق بشأن “التطرف الإسلامي” في مجلس الشيوخ أعدّت تقريرا في يوليو الماضي، أفاد بأن هذا التطرف بات “حقيقة” في عدد متزايد من الأحياء الفرنسية.التقرير، وهو خلاصة نحو 70 مقابلة أجراها أعضاء اللجنة مع باحثين وناشطين في جمعيات وزعماء سياسيين، يعتبر أن “أنصار الإسلام السياسي يحاولون الآن السيطرة على الإسلام في فرنسا” من أجل “إقامة الخلافة”… وأشارت “لو باريزيان” إلى أن التقرير تطرّق إلى جماعات إسلامية “خصوصا السلفيين” الذين يُقدر عددهم بنحو 40 ألفا في فرنسا أو “جماعة الإخوان المسلمين” وعددهم 50 ألفا… من جانبها نقلت مجلة “لو بوان” الفرنسية عن وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان تحذيره من أن “الإسلام السياسي هو عدو مميت بالنسبة إلى الجمهورية”. وأضافت أن استطلاعا للرأي أعدّته مؤسسة “إيفوب” لحساب “مؤسسة جان غوريس” عام 2019، يشير إلى “نصر رائع للإسلاميين”، وزادت: “في بلاد فولتير والجمهورية العلمانية وعصر التنوير، تسير واحدة من كل 3 نساء مسلمات محجبة في الأماكن العامة”. (نقلا عن: موقع الشرق، مقال: الإسلام السياسي في ميزان العلمانية الفرنسية “الصارمة”، إيلي هيدموس، بتاريخ 23/10/2020م).
هذه الفقرة تلخّص لنا كلّ الأحداث التي شهدتها فرنسا في الفترة الأخيرة، وتبيّن لنا فلسفة السياسة الفرنسية المتعلّقة بالمسلمين في بلادها وهي التي تسميها بمحاربة الانفصالية الإسلامية. فالجالية المسلمة تتمسّك بدينها، ويعدّ اللباس الشرعي عند النساء المسلمات (الحجاب) مظهر هذا التمسّك، كما يعدّ عند الفرنسيين مظهر مناقضة ورفض لقيم الجمهورية الفرنسية باعتبار أنّ الحرّية عند فرنسا تتمثّل في امرأة عارية الصدر تقود الشعب، وهو ما رسمه ورمز إليه الرسّام الفرنسي ديلاكروا(Eugène Delacroix) في لوحته الزيتية الشهيرة (La Libertéguidant le peuple). فالنساء بالنسبة لفرنسا مقياس الحرّية وفق فهمها ورؤيتها؛ فإذا انتشر بينهنّ العري فمعناه انتشار الحرّية وقيم التنوير عند المسلمين، وإذا انتشر بينهنّ الحجاب فمعناه عودة الرجعية والبربرية إلى المسلمين أي عودة المسلمين إلى دينهم. ولهذا لا نستغرب صنيع الحبيب بورقيبة مباشرة بعد “الاستقلال”؛ إذ أقدم على نزع السفساري عن النساء ونجح في تعريتهنّ وهو ما لم تنجح فيه فرنسا المستعمرة نفسها.
عودة المسلمين إلى دينهم لا تقبل بها فرنسا؛ إذ لا تطيق أن ترى مسلما في بلدها يكفر بعلمانيتها وقيمها وحضارتها وثقافتها، وهذا سلوك من تجبّر وطغى وتكبّر. فهي لم تستطع إقناعهم بالحسنى نظرا إلى فشل منظومتها في ذاتها، فلذلك لجأت إلى القوّة؛ فأعلنت الحرب عليهم بحجّة “الإسلام السياسي”، وأنّها تحارب ما تسميه “الإخوان/السلفية” أنصار الانفصال الذين يخطّطون لإقامة الخلافة في فرنسا. وبالطبع فإنّ فرنسا تعلم علم اليقين أنّ الإخوان لا يسعون إلى إقامة الخلافة؛ فهم لم يعلنوا إقامتها في مصر فهل يتصوّر عاقل أن يعلنوا إقامتها في فرنسا؟ وتعلم كذلك أنّهم من أنصار الاندماج في المجتمع الغربي مع المحافظة على بعض المظاهر الإسلامية أي لا يملكون رؤية انفصالية انعزالية كما قيل عنهم. وتعلم فرنسا أيضا علم اليقين أن السلفية “العلمية” لا علاقة لها بالسياسة في فرنسا، ولا رؤية لها فيما يتعلّق بوجود المسلمين في بلاد الغرب، وأمّا السلفية “الجهادية” فأفراد غادر أغلبهم البلد، ومن بقي منهم لا أثر له ولا تأثير. ولكن، السياسة تحتّم تجسيد الفكرة المعادية في عدو مرئي، ولهذا اختارت فرنسا “الإخوان/السلفية”.
إنّ الأمر في غاية الوضوح، فالجالية المسلمة في فرنسا لا تشكّل أي تهديد على النظام، ولا يوجد في فرنسا من يدعو إلى انفصالية وتأسيس دولة موازية، وكلّ التقارير التي تتحدّث عن النزعة الانفصالية لم تؤيّد أقوالها بسلوكيات انفصالية حقيقية وإنما هي مرتبطة بسلوكيات تعبدية دينية محضة كالأكل الحلال والانفصال في المسابح واللباس الشرعي؛ فكلّ ما في الأمر إذن أنّ الصحوة الإسلامية بدأت تظهر على المسلمين بشكل جلّي في سلوكياتهم الفردية التعبدية ويعدّ الحجاب من أوضح مظاهرها، وهذا لا تريده فرنسا المعادية للإسلام. ولكي تكبح جماح هذه الصحوة بين المسلمين قرّرت شيطنة المظاهر الإسلامية، واتّخذت الإجراءات الصارمة لمحاربة عودة المسلمين إلى دينهم.
والغريب في الأمر، أنّ فرنسا التي تزعم أنّها بلد التنوير والحرّيات لا تخجل من نفسها حين تعدّ رفض قيمها فكريا جريمة، وحين تعدّ لباس امرأة مسلمة جريمة، وحين تعدّ مجرّد تعلّم العربية والقرآن نزعة انفصالية ومن مظاهر رفض قيم الجمهورية. والأغرب من هذا، أن فرنسا تستغرب: كيف تلبس مسلمة الحجاب في بلاد فولتير، ونسيت فرنسا أنّ فولتير نفسه الذي تقيس به قيم التنوير عندها قد كتب ذات مرّة عن شيء اسمه التسامح. ولكن فرنسا لا تفهم معنى التسامح، ولم تكن يوما ما متسامحة مع الإسلام والمسلمين، وها هي تعدّ العدّة للتضييق عليهم أكثر فأكثر، وتجهّز الرأي العام عندها لإجراءات تذكّرنا بمأساة المسلمين في الأندلس.
إنّ المسلمين اليوم لا دولة لهم تحميهم وتدافع عن حقوقهم، وقد خذلهم حكّامهم واستفردت بهم فرنسا، ولكنّ الله عزّ وجلّ معهم، و{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}.