كذبوا وتعمدوا الكذب… الإسلام لم يحكم يوما منذ أن أسقطت دولته سنة 1924 وهو عائد بإذن الله..
لم يتخلف رئيس الدولة قيس سعيد عن أخذ موقعه في طابور المعلنين، بالقول بعد الفعل، عن تصديهم للإسلام، دين الله الذي آمنت به الغالبية العظمى من أهل تونس، ورضيته عقيدة ونظاما، من أن ينظم حياتهم ويحدد علاقاتهم فيما بينهم و فيما بينهم وبين غيرهم من الأمم والشعوب. وهو وإن سلف وعبر عن موقعه من هذا الصراع حين أقسم، وهو يضع يمينه على كتاب الله المجيد، أن يحترم “دستورها وتشريعها”، دستورها العلماني وتشريعها من دون شرع الله، فقد جاء إعلانه عن موقفه ذاك، في معرض صراعه مع خصومه السياسيين، في جامع الزيتونة المعمور، ليزعم أن من يدعو لاتخاذ الإسلام نظام حياة، إنما يعمل لتفريق المجتمع، حين قال” هذا الفرق وهذه المناورة الكبرى التي يقصد منها تفريق المجتمع..” ليحرف معنى حقيقة صرح بها لسانه حين قال: “الله توجه إلى المسلمين والمؤمنين وليس إلى الإسلاميين، والنبي إبراهيم كان مسلما ولم يكن إسلاميا.. نحن مسلمون والحمد لله على نعمة الإسلام ولسنا إسلاميين”. فالله سبحانه وتعالى، حقا وصدقا، توجه إلى المسلمين والمؤمنين وليس إلى الإسلاميين فقط، بقوله تبارك وتعالى: “أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ” فعمّ خطابه جلَ وعلا جميع المسلمين المؤمنين، أن يقيموا الدين وهو توحيد الله وطاعته، والإيمان برسله وكتبه وبيوم الجزاء، وبسائر ما يكون المرء بإقامته مسلما، بعد أن أوضح لهم وبين مسالك ما كلفهم به. فحين نكث من نكث وأحيط بالمسلمين المؤمنين، فأقصي الإسلام عن الحياة، تعلق برقابهم جميعا فرض إقامته من جديد، “وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُون“.
حين يراد للمعروف أن يصبح منكرا…
أما مصطلح الإسلاميين، فهو ليس سبة ولا منقصة، وإنما هو اصطلاح سياسي، للدلالة عن الأحزاب، والفرق، والأفراد الذين اتخذوا من العمل لإيجاد الإسلام قائما في الحياة، نهجا وغاية. وقد وردت هذه العبارة أول ما وردت في الثقافة الإسلامية، عنوانا لكتاب الإمام أبي الحسن الأشعري “مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين” أين جمع فيه مذاهب المنتمين للإسلام، واختلافاتهم، منوها بأن “من صلى إلى قبلتنا فهو منا ولا نكفره”. بل إن هذا المصطلح ليفضح المنكر الذي يأتيه من قعدت به همته، عن نصرة دين الله عز وجل أمام مكر الكفر وأهله، فضلا عمن ناصر أعداء الله ودعا بدعوتهم، أو كان ممن ثبّت شرعهم ونهجهم في الحياة في عقول المسلمين المؤمنين وأوجد لها مراغما في ديارنا. وإنا لَنُؤمّنُ على دعاء قيس سعيد حين دعا بقوله: “حفظنا الله من كورونا ومن الأوبئة السياسية” .فاللهم احفظنا من كورونا ومن الأوبئة السياسية التي تفرّق فيها من تفرق عن دين الله وهديه، واختلفوا عن الدين الذي أمروا بالقيام به.
الكذب المتعمَّد…
تأتي زيارة قيس سعيد لجامع الزيتونة وتصريحه أمام أئمة الجامع دعامة للمكر الذي تأتيه القوى العالمية في حربها على الإسلام وسعيها للحيلولة دون عودته للحياة وتضليل أهله عن قدرتهم على هزم الفكر الغربي وحضارته وافتكاك المبادرة السياسية من قوى الهيمنة الاستعمارية، وذلك بتعمد الدوائر الاستخباراتية ومراكز دراسات الدول الاستعمارية، ومن شايعها من أبناء الأمة المضبوعين بالثقافة الرأسمالية والمهزومين حضاريا، من سياسيين ومثقفين وإعلاميين… بأن ما يسمونه “بالإسلام السياسي” قد انهزم أمام الحضارة الديمقراطية الغربية وأن على أبنائه الاعتراف بالهزيمة والتسليم لحقائق التاريخ الجاري، كما انهزمت الاشتراكيه أمام هذه الديمقراطية، بذريعة أن تجارب الحكم الذي خاضها “الإسلام السياسي” قد باءت بفشل ذريع، بل و جرّت الوبال على الشعوب الإسلامية التي عاشت هذه التجارب، وأنه آن أوان التخلي عن هذا “الوهم”.
إذا عرفت الدولة بأنها الكيان السياسي التنفيذي لمجموع المفاهيم والمقاييس والقناعات التي آمن بها مجموع الناس، فهل حكم “الإسلام السياسي” بما هو تصور للمجتمع وقضاياه ومعالجاتها، وللدولة وكيانها وأجهزتها ومحاسبتها، منذ أن أسقطت دولته سنة 1924م؟ أليس من أعلى غايات الرأسمالية العالمية، بعد أن قضت على الدولة الإسلامية، بنهاية الحرب العالمية الأولى، العمل للحيلولة دون قيامها من جديد في أي جزء من أجزاء العالم الإسلامي ومنه تونس؟ ألم تتعدّد خطط الدول الغربية الكافرة وأساليبها لضمان عدم رجوع الدولة الإسلامية للوجود؟ أم أن الغرب الكافر تخلى عن غايته هذه؟
هل أن تصريح قيس سعيد من قلب جامع الزيتونة والهالة الإعلامية التي استقبل بها والمنابر التي عقدت حوله، بل وتبرؤ المتهَمين بهذا ” الجرم ” من أي صلة لهم بالإسلام السياسي، يخرج عن تلك الخطط والأساليب التي يرسمها العدو المستعمر وعن تلك الغاية التي يسعى إليها؟
هل وجد حكم للإسلام على وجه الأرض منذ سقوط الدولة العثمانية؟
إنه وإن كان للمسلمين الهنود مواقف مشرفه في محاولة إسناد الدولة العثمانية والعمل على دعمها ومدها بأسباب القوة والصمود أمام محاولات الكفرة والخونة لإسقاطها، إذ كان مثلا، لشيخ الهند مولانا محمود حسن، أو مولانا محمد علي جوهر وغيرهما من الرجال الكرام أدوار محمودة في ذلك، إلا أن الكيان الذي أنشأه البريطانيون حين فصلوا جزءا من الهند وأسموه باكستان الإسلامية، ومع شدة تعلق الباكستانيين بدينهم لم يقدروا على إقامة الحكم على أساس الإسلام، وظل كيانهم يُحكم بغير شرع الله، إلا في بعض شؤون الأحوال الشخصية، وكذا كان الحال في ما سمي قبل ذلك بالسعودية، أو جمهورية موريطانيا الإسلامية لاحقا، حيث لم يقم في أي قطر من الأقطار حكم للإسلام.
هل أقامت الحركات “الإسلامية” حكمها على أساس الإسلام؟
ولعل في إلقاء نظرة على أثر بعض الحركات الإسلامية ووصولها إلى الحكم، يفضح فحمة الليل ويجلي الحقيقة. فالتجربة السودانية مع النميري ثمّ الحسن الترابي، حتى سقوط حكم البشير لن تكون مقياسا معياريا للحكم بالإسلام حتى يقال أن الإسلام السياسي فشل، ومن ثمّ يصر الإعلام الكاذب والمحلل السياسي المغرض أو الدجال على وصمه بالحكم الإسلامي، إذلم يكنإلا صورة مشوهة لمفهوم الحكم.
وأما بعد انطلاق الثورة من تونس فإن مختلف التجارب التي تقدم على أنها حكم للإسلام السياسي، فهي لم تعدو إلا أن تكون الأداة الرئيسية التي وضفتها القوى المهيمنة في سعيها لإجهاض الثورة، وليس الحكم الذي نالته إلا، جائزة على الدور الذي قبلت قيادات هذه الحركات أن تؤديه على مذبح حراك الأمة الإسلامية. فالحكم “الإسلامي” في المغرب لم يزد على الدور الذي يلعبه نظيره في الأردن في تثبيت الحكم وإنجاده في أي هزة يعرض لها، والتجربة في تونس ظلت لعشر سنوات تلهث لإثبات “براءتها” من كل صلة بالعمل السياسي المتصل بالإسلام، وإصرار خصومها العلمانيين على محاصرتها تحت هذا العنوان. تبقى التجربة المصرية لحزب الحرية والعدالة في الحكم لسنة واحدة، وبرئاسة محمد مرسي فإن حرصها على الظهور بصورة المندمج في المجتمع الدولي، والمعترف بالمواثيق والاتفاقيات الدولية السابقة لوصولها إلى سدة الحكم، يجردها من كل صلة بالعمل السياسي على أساس الإسلام.
والحقيقة التي تدركها العقول المبصرة، هي أن العالم الذي طال ليله مع وحشية الفكر السياسي الرأسمالي وفجوره، لهو في حال انتظار جدي لنجدة الإسلام له. فالأزمات الاقتصادية التي لا تكاد تنتهي، تنتظر نظرة الإسلام إلى المجتمع وكيف يجب أن يكون عند النظرة إلى إشباع الحاجات، وأن المشكلة الإقتصادية هي توزيع الأموال والمنافع على جميع الرعايا وتمكينهم من الانتفاع بها بتمكينهم من حيازتها ومن السعي لها. والبشرية عطشى للنظام الاجتماعي في الإسلام وما يوفره من اطمئنان، باعتباره الإنسان كائنا بشريا لا سلعة وقيمة مادية فلا ميزة في الاسلامبين أفراد الرعية في ناحية الحكم أو القضاء أو رعاية الشؤون، فالنظرة واحدة، للجميع، بغض النظر عن العرق أو اللون أو الدين.
فالدين الإسلامي عائد لا محالة، وأمّة الإسلام قد دخلت الموقف الدّولي وهي التي تتصدّى اليوم للرأسماليّة العالميّة وهي منتصرة لا محالة.
عبد الرؤوف العامري