نذُر الحوار المشؤوم شرٌ كلّه: إقصاء للإسلام وتثبيت للهيمنة الأجنبية

نذُر الحوار المشؤوم شرٌ كلّه: إقصاء للإسلام وتثبيت للهيمنة الأجنبية

     ظلت الأمة وهي تسير في طريق الانعتاق من سلطان الغرب الذي تمكن من فرض نموذجه الحضاري عليها بعد أن هزمها في الحرب العالمية الأولى، فترتب على هذه الهزيمة هدم الدولة الإسلامية، مع ما كانت تعانيه من ضعف وهزال في عهدها الأخير، وبالتالي تم لهذا الغرب إقصاء الإسلام من الوجود السياسي في العالم، ظلت، تصارع مكر أعدائها  الذين لم يوفروا عليها  أي باب من أبواب الخداع إلا وولجوا من خلاله، لتضليلها عن جوهر قضيتها، ويُعينهم على ذلك رهط من أبنائها الذين رضعوا من لبن الغرب العكر ورضوا أن يكونوا رأس حربته في غزوه الفكري والسياسي الهدّام لديارنا وكأسا لسمومه التي لا زلنا نتجرعها. فإن كانت حربه على الأمة في سوريا تميزت بحرب الإبادة التي تقودها أمريكا، بعد أن سخرت لتحقيق أهدافها الروس والنظام الإيراني وسائر النظم العربية بالمشاركة الفعلية أو بالدعم السياسي. وإن أدخل اليمن “السعيد” في حرب أهلية طاحنة لحساب كل من بريطانيا وأمريكا وبأيد عربية، وإن ظل أهلنا في ليبيا يعيشون تحت تهديد الأعمال العسكرية ويطوح بمصيرهم بين مؤتمرات المكر الاستعماري التي يلعب فيها الخونة أدوار البطولة الوهمية، فإنها في تونس زُج بها في متاهة الأعمال السياسية، وظل القائمون فيها بأدوار الكومبارس، يتباهون بنجاحهم بالنأي بالثورة في تونس عن مصير غيرها من أقطار “الربيع العربي”، رغم المآسي التي جروها على الناس.

    إلا أن هذه الثورة، ثورة الأمة، وإن لم تصل بها الأمة بعد إلى الغاية منها، في التحرر والانعتاق، واستعادة الإرادة، وافتكاك المبادرة من الكافر المستعمر، فقد استعصت عليه وعلى عملائه في الداخل، وعجز عن وأدها وإنهاء حركتها، فقد وقع التركيز في مهدها، تونس، على محاولة استئصال فكرة إسقاط النظام فيها، لما لهذا البلد من رمزية وما لأهله من حيوية، فكانت متاهة الصراعات السياسية الشكلية التي وضع أمامها أهل البلاد، بين مختلف الفرقاء السياسيين، لترويض الشارع بالضغوط المعنوية والمادية وبتتالي الأزمات وإيصال الأوضاع الاقتصادية إلى شفا الهاوية، وإيصالهم  إلى الكفر بالعمل السياسي والاستسلام أمام النتائج التي ستوضع أمامهم. وكانت ترشح من حين لآخر في بعض التصريحات وعلى المنابر الإعلامية أن الأزمة متأتية من القصور في بعض فصول الدستور فوجب تعديلها وإتمام باقي مؤسساته كالمحكمة الدستورية، وفي القانون الانتخابي الذي يفرز مشهدا سياسيا متشظيا، للحيلولة دون إدراك الناس أن سبب شقائهم واضطراب حياتهم هو خضوعهم للنظام العلماني المناقض لعقيدتهم والمخالف للفطرة الإنسانية.

     تجري الأحداث في تونس ويدفع بالأزمة نحو حدودها القصوى، فيكاد اليأس يبلغ بالناس منتهاه،  ليلاحظ بعد ذلك أن الصخب الإعلامي خفتت حدته، وأن الخطاب بدأ يميل نحو “التعقل” وصار الحديث عن ضرورة تغليب المصلحة العامة “لإنقاذ البلاد” هو عنوان الحكمة، وبدأت بعض الوجوه تغيب عن الحياة العامة حتى كاد الناس ينسونها، فلم يعد للوجوه اليسارية على اختلاف مشاربها من مكان بعد أن استنزفتها الرأسمالية العالمية، ولم يعد للحالمين بأيام غنيمة الحكم مكان بعد أن صار وجودهم خطر على مصالح الاستعمار أمام تنامي وعي الناس.   

      لئن استطاع التدخل الخارجي، عبر ما سمي سنة 2013، بالحوار الوطني تأمين عودة الطبقة الحاكمة القديمة والحد من فورة المد الثوري وتشديد قبضته على الحياة السياسية للبلاد بمسرحية لقاء باريس، فإنه اليوم وهو يصارع الثورة في مهدها تونس يسعى للتأصيل لفكره عن طريق عملائه الذين أسكرهم الفكر السياسي الليبرالي.

    فهذا قيس سعيد ـالضلع الأول للحوار الثانيـ من جهة يصرح بأنهم تجاوزوا مرحلة في التاريخ حاملين آمال شعبهم ـ الشعب التونسي ـ بل آمال الإنسانية جمعاء ـ هكذا سينقذ الإنسانية باجتهاده في الفكر السياسي الغربي كأحد أبنائه ـ ليضيف أنه يعلم جيدا أن عقارب الساعة تدور وأن هناك من يحرك عقاربها لاستنزاف القوى ولإفشال هذا المشروع، ولكن مصير الإنسانية كلها سيتغير في العقود القادمة، فهو يخشى من فشل المشروع الليبرالي. وهو بدعوته إلى الرجوع لدستور 1959 قد أراد أن يتدارك ما فات  من تأسيس على ما غرسه الاستعمار في البلاد وما مسخه من هويتنا، وما لم يكن يومها بالإمكان فعله، وهو الذي يؤمن أن الوجود الفرنسي في بلادنا طيلة 72 سنة لم يكن إلا حماية وليس احتلالا ! ولو كان يحمل، صادقا، آمال “الشعب التونسي” كما يزعم، لأقام فكره على ما قبل الدخول الفرنسي، ولعمل على تطهير العقول من لوثة ثقافتها.  

   وهذا الغنوشي ـ الضلع الثاني لهذا الحوار الثاني ـ وتثبيتا للفكر الرأسمالي الغر الاستعماري في عقول أبنائنا وللهيمنة الغربية على مقدراتنا والتحكم في مصيرنا، ولتأمين عودة المنظومة القديمة، وبزعم أن المصالحة الشاملة يجب أن لا تقوم على الثأر والانتقام، حدا برر به عدم وقوف المذنبين في حق البلاد والعباد أمام القضاء بخوفهم من العقوبة، وأنه لا يعقل أن يأتوا بأنفسهم ليقفوا أمام المحاكم، كأن ليس هناك سلطة تنفيذية تحقّ الحقّ وتنصف المظلوم وتأخذ على يد الظالم. يأتي موقفه هذا دفاعا، لا يقل خطورة عما يأتيه قيس سعيد، عن النظام الديمقراطي الليبرالي الذي تعمل الأمة جاهدة للانفكاك من ربقته، إذ هو الجهة التي عملت الآلة الغربية الماكرة على إقناع الوسط العلماني على القبول بها والتسليم بشيء من السلطة لها لعدم تشكيله خطرا على نمط الحياة التي زرعها الكافر بيننا ويسعى لتثبيتها فينا، وأنها الجهة القادرة على الوقوف أمام مد الرفض لهذه الحياة الغربي، الذي بدأ يعم الأمة قاطبة. ولإحكام الإخراج بدأت التسريبات تشير إلى أن حكمة قيس سعيد وعودة الوعي لديه أرشدته إلى جدوى تمكين الحزب الفائز بالانتخابات البرلمانية من اختيار رئيس الحكومة حتى يتحمل مسؤولية نجاحها أو فشلها، بعد أن كان يظهر رفض ذلك.

   وعلى هذا تبقى المسؤولية كاملة على كاهل الأمة في أن تتيقظ لما يُمكر بها، وأن تعي تمام الوعي أن وجهة نظرها في الحياة هي المقصودة بالمحو من الوجود، وأن عدم عودة الإسلام للحياة هو جوهر السياسة في عالم اليوم، وأن عليها أن تبادر إلى التخلص من هؤلاء الحكام الذين تمكن الغرب من ربقتهم وصاروا لا يرون الحياة إلا من خلال عيونه ولا يرون في تدخله في شؤوننا ضيرا، بل وعدوا ذلك منهم حكمة ورشادا.

أ, عبد الرؤوف العامري

CATEGORIES
TAGS
Share This