الطّريقة بين الزّيغ والحقيقة 1/2

الطّريقة بين الزّيغ والحقيقة 1/2

ممّا لاشكّ فيه أنّ أهمّ ما يميّز حزب التّحرير عن سائر الأحزاب التي تنسب نفسها إلى الإسلام هو تفريقه بين الفكرة والطّريقة وتبنّيه لطريقة شرعيّة في الوصول إلى الحكم وطريقة شرعيّة في تطبيق الشّرع وإيجاد الإسلام في واقع الحياة لا يحيد عنهما قيد أنملة ناهيك وقد عُرِضت عليه كراسي الحكم الجاهزة أكثر من مرّة فرفضها رغم إغراء العرض واختصاره للجهد والوقت والمراحل..فلم تُجمع هذه (الأحزاب الإسلاميّة) في خلافها مع حزب التّحرير قدر إجماعها على مخالفته في هذه المسائل الأساسيّة المتعلّقة بالطّريقة وتداعياتها على مشروعه السياسيّ وتصوّره للحكم وللعمل السياسيّ.. وهي ليست بالمسائل الفرعيّة الجزئيّة الهيّنة أو الآراء الإسلاميّة الخلافيّة التي لا تُفسد للودّ قضيّة ولا تقف حائلا دون تقريب الشقّة وتوحيد القوى ورصّ الصّفوف، بل هي مسائل أصوليّة أصليّة وقضايا سياسيّة جوهريّة مفصليّة متعلّقة بالعقيدة الإسلاميّة بوصفها عقيدة عقليّة ينبثق عنها نظام، وبوصفها عقيدة سياسيّة روحيّة أي دينا منه الحكم ومنه الدّولة ،وبوصفها عقيدة كاملة شاملة لم تترك كبيرة ولا صغيرة من شؤون الحياة والحكم إلاّ أحصتها وفصّلتها بما في ذلك نظام الحكم وجهازه التنفيذيّ وكيفيّة الوصول إليه..بحيث أنّ عدم توضّح الرّؤيا الشّرعيّة فيها يدرج تلك الكيانات في خانة الأحزاب العلمانيّة التي تفصل الدّين عن الحياة وتوسّع بالتّالي الشقّة بينها وبين الحزب بخنادق عقائديّة يستحيل أن تنعقد عليها جسور..وللمفارقة، فرغم حساسيّة المسألة ومحوريّتها في مشروعه، فليس هناك فكرة من أفكار حزب التّحرير أكثر إبهاما وغموضا وضبابيّة لدى الأمّة من طريقة وصوله إلى الحكم، لذلك تراها ـ مع إيمانها بمشروعه والتفافها حوله وثقتها في قيادته واحترامها لشبابه ـ تستحثّه في كلّ المواعيد الانتخابيّة على المشاركة وتعده بأصواتها وتستغرب من عزوفه وتتبرّم من تعليلاته بوصفها تنظيرا يعقّد المشكلة ويؤجّلها ولا يسعفها بحلول سحريّة عاجلة للمعضلات الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تتخبّط فيها ،بما يقف حائلا دون دخول الحزب إلى المجتمع التونسيّ وتركيز أقدامه فيه.. فلا بدّ إذن من توضيح هذه المسألة وبيان طريقة حزب التّحرير في الوصول إلى الحكم ومرتكزاتها الشرعيّة حتّى تُرفع الغشاوة عن الأعين وتكون الأمّة على بيّنة من أمرها..

(ما فرّطنا في الكتاب من شيء)

ممّا لاشكّ فيه أنّ العقيدة الإسلاميّة عقيدة سياسية روحيّة متّصفة بالشمول والكمال: فهي تختزل في ذاتها مبدأ ومنظومة عيش لم تترك جليلاً ولا حقيرًا في شؤون الحياة والحكم وما قبل الحياة وما بعدها وما قبل الحكم وما بعده إلاّ أحصته وفصّلته علمه من علمه وجهله من جهله (ما فرّطنا في الكتاب من شيء).. إلاّ أن الثقافة الإسلاميّة لم تترجم ذاك الاتّساع والثّراء ولم تُفعّل تلك الطّاقة الكامنة في العقيدة بالكيفيّة المطلوبة وأسهبت في تناول الفكرة على حساب الطّريقة :فقد أغفل العلماء المسلمون تفصيل القول في نظام الحكم وشكل الدّولة الإسلاميّة وأجهزتها وكيفيّة قيامها، إلاّ من بعض الشّذرات المتناثرة والمحاولات السّطحيّة التي لم تزد عن شرعنة تجاوزات بعض الحكّام وتقنين الأعراف السّياسية الموبوءة بإساءة التّطبيق، ودونك مثالاً (غياث الأمم) للجويني و(الأحكام السّلطانية) للماوردي.. ولم يكن ذلك من علمائنا الأفاضل على سبيل التّقصير أو التّهاون :فمن طبيعة الثقافة الإسلاميّة أنّها ثقافة عمليّة مُنزّلة على الوقائع الجارية لعلاجها، حتّى عُرّف الفقه بأنّه (العلم بالمسائل الشرعية العمليّة المستنبطة من أدلّتها التفصيليّة).. إلاّ أنّ هذا الفراغ في الثّقافة الإسلاميّة ليس مؤشّرا على الفراغ في الشّريعة الغرّاء :فالدّولة الإسلاميّة لم تكن موجودة ابتداء وقد أوجدها الرّسول صلّى الله عليه وسلّم بأعمال معيّنة وبكيفيّة مخصوصة هي بمثابة الأحكام الشرعيّة بالنّسبة إلينا لأنّ أفعال الرّسول وأقواله وتقريراته وحي من الله وتشريع لنا ناهيك وأنّها مسنودة بالذّكر الحكيم :فقد أوجب الله علينا اتّباع تلك الأفعال وتلك الكيفيّة بقوله تعالى (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) ـ يوسف 108 ـ بيد أنّ غياب الدّولة الإسلاميّة من جديد لم يكن له واقع ـ لا معيش ولا مستشرف ـ فلا ضرورة بالتّالي للبحث في الأحكام المتعلّقة بكيفيّة إعادتها إلى الوجود ،وهذا النّقص الخطير تعذّر سدّه عندما تحقّق مناطه بسقوط الدّولة العثمانيّة، فلم يسعف السّلف الصّالح عياله من حملة الدّعوة المخلصين بما يشفي الغليل لإعادة الحكم بما أنزل الله فكان التخبط وكان التضليل وكان الوقوع لقمة سائغة في حبائل الاستعمار..

الاستعمار على الخط

وقد اهتبل الكافر المستعمر الفرصة للصّيد في الماء العكر، وعمد إلى سمومه الفكريّة يملأ بها ذلك الفراغ بما من شأنه أن يمسخ العقيدة الإسلامية ويفصلها عن الحياة ويقصيها عن الحكم والسّياسة ويقصرها على الأخلاق والعبادات، رغبة منه في حرف المسلمين عن طريقتهم وعرقلة دولتهم وتأخير نهضتهم ودفعهم إلى استنساخ الأنظمة الغربيّة بقضّها وقضيضها..وممّا يزيد في تعقيد مسألة طريقة الوصول إلى الحكم أنّ الكافر المستعمر وزبانيته من بني جلدتنا لم يكتفوا بتضليل العلمانيّين وإقناعهم بأنّ الإسلام مجرّد ديانة روحيّة كهنوتيّة مفصولة عن الحياة قائمة على بعض (التعاليم) الأخلاقيّة والتّعبديّة، بل تمادوا وتجرّؤوا على اقتحام آخر حصن تمترست خلفه الأمّة ـ ألا وهو التيّارات الإسلاميّة ـ فافترضوا معهم جدلاً بأنّ الإسلام غير مفصول كلّيًا عن الحياة وأنّ الشريعة الإسلاميّة تعالج فعلاً علاقة الإنسان بنفسه وبغيره ولكنّ ذلك ليس على سبيل الإحاطة والشمول والاستقصاء :فكلّ ما يتعلّق بالحكم في الإسلام منطقة فراغ لم ينصّ عليها الشّرع، بل هو ليس أهلاً لذلك ولا مظنّة له ويجب أن نربأ به عن دنس السّياسة.. فليس للإسلام طريقة مخصوصة للوصول إلى الحكم ولا لإيجاده في واقع الحياة، فهو مرن بحيث يمكن أن يستوعبه أي إطار وإن لم يكن من جنسه ويمكن أن يمرّر ويطبّق عبر أي وعاء أو قناة وإن لم تكن منبثقة عن عقيدته ،وما على المسلمين إلاّ أن يقتبسوا من تجارب الأمم الأخرى دون حرج كما فعل عمر مع الدّواوين ،لأنّ الكتاب والسنّة لم ينصّصا لا على دولة ولا على حكم ولا على كيفيّة للوصول إليه: فالرّسول صلّى الله عليه وسلّم لم يستلم حكما ولم ينشئ دولة ولم يُقم لها مؤسّسات وإنّما اجتهد وعالج الوضعيّات بما أملاه عليه الواقع والبيئة، وبما هو موجود ومتوفّر ومتاح في جزيرة العرب من أساليب وأنظمة وإداريّات..ومن هذا المنطلق فإنّ الأخذ بالسّنة هو الاقتباس من الواقع في كلّ عصر ومصر(الديمقراطيّة ـ الانتخابات ـ الدّولة الوطنيّة ـ الاستفتاء ـ العمل المادّي ـ المشاركة في الحكم..) وليس استنساخ ما قام به الرّسول الأكرم في المدينة..

تلبيس إبليس

وقد تجاوز هذا اللّبس الإسلامويّين المضلّلين من دعاة الإسلام الديمقراطيّ والمعتدل ليطال بلفحه النّخبة الإسلاميّة أي المفكّرين الإسلاميّين والأكاديميّين الشّرعيّين والعلماء والفقهاء والدّعاة الذين انخرطوا في هذا السّجال وناقشوا طريقة الحزب في الوصول إلى الحكم وفنّدوا جميع أدلّتها.. ولأنّ آراءهم قائمة على استدلالات شرعيّة بعيدة كلّ البعد عن الكليشيهات الاستعماريّة الآنفة، فمن المفيد للبحث أن نستعرض أهمّها قبل أن نتولّى الردّ عليها.. ويمكن حصر مؤاخذاتهم في ستّ نقاط، أولاها تتعلّق بالفكرة من أساسها: فلا دليل على أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد حدّد طريقة معيّنة لإقامة الخلافة وإنّما أوجب إقامتها وحدّد طبيعة النّظام السياسيّ في الإسلام (خلافة نبوّة تقوم على الشّورى) أمّا الطّريقة والكيفيّة فلم يحدّدها الشّارع وتركها لاجتهاد الصّحابة..ثانيتها تتعلّق بوجوبها: فهذا يُعدّ من باب إيجاب ما لم يوجبه الشّرع، إذ لا دليل على وجوبها أصوليّا وغاية ما يفيده الاستدلال بالمراحل التي مرّ بها الرّسول في دعوته هو الاستحباب ما لم ترد قرينة تصرفه إلى الوجوب..ثالثتها تتعلّق بالاستدلال على الوجوب من تكرار الرّسول للفعل :فدوام الرّسول على فعل ما لا يعدّ قرينة على الوجوب لأنّ فعله كلّه كان (ديمة) أي أنّه إذا قام بعمل كان يداوم عليه ،فقد حافظ على السّنن المؤكّدة لكنّها لم تصبح واجبة لمجرّد مداومته عليها.. رابعتها تتعلّق بالاقتداء بطريقة رسول الله في إقامته للدّولة الإسلاميّة: فلا دليل على أنّها السّبيل الوحيدة لإقامتها بحيث لا تسوغ إلاّ وفقها، فالرّسول أحاطت به ظروف زمانيّة ومكانيّة اقتضت منه مواقف معيّنة، ولو فرضنا أنّ قريشا استجابت له طواعية لتابعتها العرب في ذلك ولما عرض النبيّ نفسه على قبائل العرب ولما طلب النّصرة ولما هاجر..خامستها تتعلّق باعتبار إقامة الخلافة عبادة كالصّلاة :فالخلافة على غرار سائر فروض الكفاية لا تعبّد في طريقة أدائها بل التعبّد في أدائها وإقامتها بذاتها، مثل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أو الجهاد في سبيل الله فالواجب فيهما هو إزالة المنكر وحمل الإسلام إلى العالمين، أمّا كيفيّة القيام بذلك فقد تركه الشّارع للمكلّف يستعمل من الطّرق والوسائل ما يراه محقّقا للمطلوب..سادستها تتعلّق بطلب النّصرة من الجيش: فهذا غير قابل للتحقّق في ظلّ طبيعة المؤسّسات العسكريّة القائمة في العالم الإسلاميّ، فعقيدتها القتاليّة وبنيتها السياسيّة والإيديولوجيّة والنّفسيّة غير مهيّأة لتقديم النّصرة، فهي جهاز قمعيّ للشّعوب وجهة معادية بامتياز للفكر الدينيّ..

تشخيص العلّة

إنّ علاج الدّاء الذي ينخر العمل السياسيّ على أساس العقيدة الإسلاميّة يستوجب مسبقا تشخيص العلّة أي فهم سبب إخفاق جميع المحاولات التي قامت لإنهاض المسلمين بالإسلام :وبدراسة تلك المحاولات نلمس دون عناء أنّ عقمها وفشلها مرتبط ارتباطا عضويّا بمسألة الفكرة والطّريقة تصوّرا واستحضارا وممارسة.. فلو ضربنا صفحا عن الغشاوات الفكريّة التي تراكمت منذ القرن 2هـ (دخول الفلسفات الأجنبيّة ومحاولات التوفيق بينها وبين الإسلام) مرورا بخروج مؤسّسة الخلافة من العرب إلى الأتراك (تهميش لغة القرآن وفصل الطّاقة العربيّة عن الطّاقة الإسلاميّة) وصولا إلى الغزو التّبشيري فالثّقافي ثمّ الاستعماريّ للعالم الإسلاميّ (الدسّ والتّشكيك والتّضليل)، فإنّ فشل المتصدّرين للنّهضة وعقم محاولاتهم يمكن حصره في سببين رئيسيّين: أوّلهما عدم تبيّنهم لطريقة الإسلام في تنفيذ فكرته ،فقد غابت عنهم ثنائيّة الفكرة والطّريقة وكون الأحكام الشرعيّة المتعلّقة بالفكرة لديها أحكام شرعيّة من جنسها تبيّن كيفيّة تطبيقها ما أدّى إلى فقدانهم لتصوّر أحكام الطّريقة بالتّدريج..فبعد أن كانوا يستحضرون أنّ وجودهم مسخّر للإسلام وأنّ رسالتهم في الحياة هي حمل الدّعوة الإسلاميّة وأنّ وظيفة الدّولة الإسلاميّة هي تطبيق الإسلام في الدّاخل وحمله للعالمين عن طريق الجهاد، صاروا يرون أنّ عمل المسلم هو الكسب الماديّ أساسا ثمّ الوعظ والإرشاد إن سنحت الفرصة وصارت الدّولة لا ترى غضاضة أو حرجا في إساءة تطبيق الشّرع أو القعود عن الجهاد، وصارت الأمّة تسكت عن الاستعمار وسيادة الكفر عليها وترى عودة الإسلام في بناء المساجد وإصدار الكتب وتركيز الأخلاق.. ثاني الأسباب الرئيسيّة للفشل والعقم هو عدم ربط الفكرة الإسلاميّة بالطّريقة الإسلاميّ ربطا محكما: فمن تداعيّات عدم استحضار ثنائيّة الفكرة والطّريقة أن صار المسلمون يحتفون بالأحكام الشرعيّة المتعلّقة بمعالجة المشاكل ولا يعتنون بالأحكام التي تبيّن كيفيّة المعالجة.. وقد أدّى بهم ذلك إلى دراسة الأحكام منفصلة عن طريقة تنفيذها فأسهبوا في دراسة أحكام الصّلاة والصّوم والنّكاح والطّلاق والطّهارة وغيرها من أحكام الفكرة وأهملوا دراسة أحكام الجهاد والغنائم والخراج والحكم والخلافة والقضاء وسائر أحكام الطّريقة، ففصلوا بذلك عمليّا الفكرة عن الطّريقة ممّا أدّى إلى عدم إمكان تنفيذ الفكرة دون طريقتها فتضاعفت المصيبة وغابت الفكرة نفسها بغياب طريقة تنفيذها..والمعضلة أنّ الحركات الإسلاميّة التي من المفترض أن تأخذ بيد الأمّة وتنير سبيلها كانت من جنس هذا الواقع الموبوء في فكرتها ومشروعها السياسيّ ما أوقعها في دوّامة الفشل وحبائل الاستعمار..

(يتبع)

بسّام فرحات

CATEGORIES
Share This