تونس… الاستعمار وسياسة الضفدع المسلوق
تروي بعض القصص القديمة أنّ أحد الملوك اتّخذ حكيما في بلاطهلتدريب الأمراء وتجهيزهم لتولي مهام الحكم، وذات مرة طلب الحكيم من أحد الأمراء أن يقوم بسلق ضفدع حيّ، اندهش الأمير من الطّلب الذي بدا له في غاية السّهولةفجهّز قدرا وملأه بالماء المغليّ، ثم وضع فيه الضفادع، وما إن شعر الضفدع بحرارة الماء حتى قفز هارباً،فعاود الأمير وضعه مرة أخرى في الماء المغليّ فقفز الضفدع مرّة أخرى. وتكرّرت المحاولات وتكرّر معها الفشل، فعاد الأمير إلى معلّمه عاجزا، فابتسم الحكيم، وأمر الأمير بأن يحضر قدرا فيه ماء بارد، ويضع فيه الضفدع، فظل الضفدع هادئاً مستمتعاً ببرودة الماء، ثم أمره بإشعال نار هادئة لا تكاد تدفئ وجلسا ينظران إلى القدر بهدوء وصبر، والماء يسخن شيئاً فشيئاً، وببطء شديد بدأت عضلات الضفدع تسترخي مع دفء الماء حتى إذا ما وصلت درجة الحرارة إلى درجة الغليان لم يستطع الضفدع القفز لينجو وفقد الأمل تماماً في النجاة.
نستحضر هذه القصّة مثلا نوضّح به ما يحدث في تونس، في عمليّة ترويض بل سلق وسلخ تستأصل الثّورة وكلّ نفس ثوريّ.
نعم لقد ثار النّاس على النّظام في تونس، وبدا للجميع بعد الثورة وبخاصّة في الأيّام الأولى أنّ الثورة ستأتي على أركان النّظام القديم، وتهاطل على تونس وفود من جميع أقطار الأرض من أوروبا وأمريكا واستطاع المستعمرون أن يحافظوا على سيطرتهم بتغيير بعض الوجوه والأدوات لكنّ الثّورة لم تهدأ، بل صار الأمر إلى نبذ كلّ الطّبقة السياسيّة من أحزاب وبرلمان ورئاسة … وهنا صار الخطر واضحا على المستعمر الذي فقد كلّ عملائه السيطرة على الشّعب الذي ظلّ يقفز ويتأبّى على السيطرة خاصّة مع إجراءات صندوق النّقد الدّولي.
فكانت عمليّة إصعاد قيس سعيّد إلى الرئاسة بصورة الثّوريّ الطّاهر النّظيف، ثمّ كانت حركته يوم 25 جويلية بتجميد البرلمان والاستحواذ على السلطة كلّها، فكان ما أتاه عند كثير من التّونسيين ماء باردا، بدلا من الماء المغليّ الذي كان يحرقهم، لكنّ هذا الماء تحته نار لا يكاد يشعر بها أحد،
اليوم وبعد 6 أشهر أو تزيد من عمليّة 25 جويلية ماذا حصل؟
-
البلاد في أزمة اقتصاديّة.. الأجور مهدّدة، والأسعار يزداد لهيبها كلّ يوم، وشبح الإفلاس يُخيّم على البلاد، و”خبراء” الاقتصاد يصيحون ويولولون ويستغيثون بصندوق النّقد الدّوليّ.
-
وصندوق النّقد الدّولي يتمنّع ويبدي الغضب والممانعة من التدخّل في تونس، ومع تمنّعه تزداد المطالبة، ويزداد الإلحاح، وكأنّه لا منقذ لتونس إلا صندوق النّقد ومن وراءه من كبار المرابين العالميين.
-
شروط صندوق النّقد الدّولي، صارت واقعا معيشا مفروضا، فأين الدّعم؟ لقد بات جليّا للجميع أنّ الدّعم رُفع عن كثير من الموادّ الأساسيّة بحكم الأمر الواقع، وكذلك التقليص في الإنفاق على الصّحّة والتّعليم تقلّص بذريعة قلّة الموارد حتّى بات أهمّ قطاعين في البلاد في مهبّ الضّياع والإهمال والفوضى، أمّا الزيادة في الأسعار فالأمر بات جنونيّا لا يكاد يستقرّ على حال وما أمر الزيادة الأخيرة في المحروقات ببعيد.
ومن الجانب الآخر، ماذا نجد؟ معارضين لقيس سعيّد ينوحون على الدّيمقراطيّة المهدورة وينادون بل يستنجدون لإنقاذ البرلمان ومؤسسات الدّولة، أمّا تدخّلات الصّندوق والاقتحام الوقح لدوائر الاستعمار فبعيد عن غضبهم، فأين الموقف من زيارة رئيس نادي باريس السريّة إلى تونس؟ وما غضبهم منها؟ نعم لقد احتجّوا لكنّ احتجاجهم ليس بسبب الزّيارة بل بسبب سريّتها وبسبب عدم مشاركتهم، هذا هو سبب الغضب.
أليس غريبا أن تصير تونس تحت هيمنة الدّوائر الاستعماريّة بطلب من الرئيس ومعارضيه؟ ولم يبعد الاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل عن هاته المؤامرة فلقد اجتمع في نهاية الأسبوع مع رئيسة وزراء قيس سعيّد ومحافظ البنك المركزي، وكان محور الاجتماع شروط صندوق النّقد وإعداد ورقة مقبولة منه حتّى يتفضّل ويتدخّل في بلادنا، وخرج الطّبّوبي من الاجتماع وقال إنّه سيشارك في إعداد الوثيقة، بما يعني أنّ حلقة النّار قد استحكمت الآن على الشّعب التّونسيّ، وليس غريبا أن يكون اجتماع الثلاثي، الطبّوبي وبودنّ ومحافظ البنك المركزي بعد أن جاء رئيس نادي باريس إلى تونس من أجل المساعدة التّقنيّة بزعمهم والإعداد والاستعداد للتّقدّم مرّة أخرى إلى صندوق النّقد واستجداء قبوله التدخّل في بلادنا.
وفي المقابل، أين الاحتجاج والغضب؟
ما نلاحظه باستغراب شديد أنّ شهر جانفي من هذه السّنة مرّ دون معهوده من الاحتجاجات الشّعبيّة منذ زمن بورقيبة، فما هو السبب؟
ما رأيناه ولاحظناه أنّه طيلة الأشهر الستّة الماضية أنّ معارضي قيس سعيّد هم من تصدّر عمليّات الاحتجاج،
وجعل الاحتجاج مناسبة شهريّة (مرّة كلّ شهر) في 28 سبتمبر احتجاج ثمّ في 03 أكتوبر ثمّ في نوفمبر احتجاج واحد، ثمّ أعلنوا عن سلسلة من الاحتجاجات تنطلق في 17 ديسمبر إلى غاية 14 جانفي لكنّهم لم ينفّذوا إلا احتجاجا واحدا يوم 17 ديسمبر وآخر يوم 14 جانفي وها هم يدعون إلى احتجاج آخر يوم 06 فيفري، وإذا تأمّلنا الأمر نجد احتجاجاتهم بمعدّل احتجاج واحد في الشّهر يسبقه دعوات عريضة في وسائل الإعلام وشبكات التّواصل الاجتماعي ثمّ يعقب الاحتجاج إعلانات أخرى لاحتجاج قادم في الشّهر الذي يليه وهكذا نرى امتصاصا ماكرا لغضب النّاس، وتوجيها له بل تأجيلا وتبريدا يقسّم الغضب على فترات تسمح للرئيس قيس سعيّد بأن يتّخذ ما يُطلب منه من إجراءات بل تسمح للدّوائر الاستعماريّة بالتّغلغل ويصبح تدخّلها مطلبا رئيسا للطبقة السياسيّة الحاكمة والمعارضة على السّواء.
نعم هكذا يريدون سلق الشّعب التّونسيّ على نار هادئة لا يكاد يشعر بها أحد، وهكذا يريدون تمرير وصفات الصّندوق الدّولي الخبيث ومن ورائه تحكّم المستعمرين في بلادنا وباقي المنطقة، هكذا يسعون لإخماد نار الثّورة بل قتلها عسى أن تنطفأ جمرة الثّورات في العالم الإسلامي،
ولكن فاتهم أنّ الشّعب التّونسيّ لا يشبه الضّفادع، ولن يستسلم لتخدير الرئيس وتضليله ولا لشعوذات معارضيه ومكرهم، بل هو شعب مسلم أبيّ تاريخه عريق في النّضال والجهاد وأنّه لم يسكت على الظّلم ولا ركع للظّالمين، الشّعب التّونسيّ شعب مسلم يحبّ دينه وإسلامه وقد علم أنّ الدّيمقراطيّة والرأسماليّة إجرام ولعب بمصيره، وهو شعب قد فضح تآمر المتآمرين من سياسيين وأحزاب ومدّعي الثورة والثّوريّة، وأنّه اليوم لم يقبل الأحزاب ولفظها ولن يقبلها ولن يقبل كذلك من يُتاجر بجهوده وثورته.
ولأنّنا مسلمون فإنّ لنا حبل نجاة من ربّ العالمين نظام ربّانيّ عادل أنزل على نبيّنا الكريم صلّى الله عليه وسلّم ونحن نعلم اليوم أكثر من أيّ وقت مضى أنّ الإسلام وحده هو طوق النّجاة وأنّ الإسلام لا يكون طوق نجاة إلا إذا طبّقته دولة حقيقيّة السيادة فيها للشّرع والسّلطان فيها للأمّة تبايع من يطبّق أحكام الإسلام فيها.
أ, محمد الناصر شويخة
CATEGORIES كلمة العدد