الجيوش الإسلاميّة والعقيدة العسكريّة (ج 1)

الجيوش الإسلاميّة والعقيدة العسكريّة (ج 1)

إنّ طلب النّصرة عمل مركزيّ مفصليّ أساسيّ في طريقة حزب التّحرير للوصول إلى الحكم، وهو حكم شرعيّ واجب الاتّباع مستنبط بعمليّة اجتهاديّة صحيحة من السّيرة النبويّة في الفترة المكيّة أي ممّا قام به الرّسول صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يهاجر إلى المدينة ويقيم دولته..فمع تجمّد المجتمع القرشيّ على الشّرك وتصلّبه في وجه الدّعوة الإسلاميّة أوحى الله تعالى إلى رسوله بأن يطلب النّصرة من أهل الشّوكة والقوّة لإيصال الإسلام إلى الحكم..واضطلاعا منه بهذا الواجب انخرط عليه الصّلاة والسّلام في حملة اتّصالات بالقبائل العربيّة الكبرى طالبا منهم النّصرة :فقد طلبها إحدى وعشرين مرّة من اثنتين وعشرين قبيلة، ورغم ما لاقاه في سبيل ذلك من أذى وعنت وشدّة ومساومات وردود قبيحة بلغت حدّ الرّجم بالحجارة، إلاّ أنّه صبر وثابر واستمات مؤشّرا بذلك على وجوب هذا العمل إلى أن استجاب له الأوس والخزرج..هذه الاستماتة وهذا الوجوب يُفسّران بأنّ عمل طلب النّصرة مفصل مركزيّ أساسيّ من مفاصل الطّريقة الشرعيّة للوصول إلى الحكم: فهو الذي يتوّج مرحلة التّفاعل ويفعّل مكتسباتها ويترجم ثمارها على أرض الواقع، وهو الذي يفكّ الطّوق المضروب حول الدّعوة وينقلها نقلة نوعيّة إلى مرحلة استلام الحكم. فوجود الحاضنة الشعبيّة والرّأي العامّ المنبثق عن الوعي العامّ لا يكفي وحده لاستلام الحكم وإقامة الدّولة الإسلاميّة، فالسّنن الاجتماعيّة والشرعيّة تقتضي وجود شوكة عسكريّة تسلّم الحكم وتحمي الدّولة الفتيّة..وعلى نهجه صلّى الله عليه وسلّم طلب حزب التّحرير النّصرة وجعلها من أعمال طريقته للوصول إلى الحكم، وقد استهدف بها خاصّة المؤسّسة العسكريّة لما تمثّله من قوّة وشوكة وقدرة على النّصرة..ولكن لسائل أن يسأل: هل يمكن أن يتحقّق ذلك في ظلّ طبيعة المؤسّسات العسكريّة القائمة في العالم الإسلاميّ..؟؟ أليست هذه المؤسّسات معادية للفكر الديني محاربة لله ورسوله..؟؟ كيف يمكن طلب النصرة من جهة تعتبرك عدوًّا لها..؟؟ من قمع الإسلاميّين في الجزائر والسّودان ومصر..؟؟ من خذل المسلمين في كشمير وفلسطين وإفريقيا الوسطى..؟؟ من يسند نظام بشّار الأسد ويحمي طغاة العرب..؟؟ أليست المؤسّسة العسكريّة..؟؟ أليس من العبث استهداف هكذا مؤسّسة غير مهيّأة ـ سياسيًّا ونفسيًّا وعقائديًّا ـ لتقديم النّصرة المطلوبة..؟؟

مناط النّصرة

أولى الخطوات للإجابة عن هذه التّساؤلات تتمثّل في فهم مناط النّصرة كما جاءت في السيرة النبويّة المشرّفة :ما هو واقعها..؟؟ كيف طلبها الرسول صلّى الله عليه وسلّم..؟؟ ممّن طلبها..؟؟ ماذا كان يشترط حين يطلبها..؟؟ وبالعودة إلى الكيفيّة التي طلب بها رسول الله النّصرة نلمس دون عناء خمسة ثوابت، أوّلها: أنّ النّصرة طلبٌ وليست إنشاءً، فالرّسول الأكرم لم ينشئ كتيبةً عسكريّةً من صحابته وحلفائه لمناكفة قريش واغتصاب السّلطة منها ـ مع قدرته الماديّة والبشريّة على ذلك ـ وإنّما طلبها من القبائل العربيّة لأنّه يريد الوصول إلى الحكم عن طريق الأمّة ـ بيعةً ونصرةً ـ أي أنّه يستهدف الحكم بشكل مباشر من الأمّة، فهي التي يجب أن تضعه في الحكم وأن تكون الأداة المباشرة في تسلّم السّلطة، والقبائل العربيّة ـ إذا تحقّقت فيها المواصفات المطلوبة ـ تعتبر شوكة الأمّة المؤهّلة للنّصرة..ثانيها: أنّه صلّى الله عليه وسلّم كان يتحرّى الشّوكة والقوّة والقدرة العسكريّة القتاليّة في القبائل المستهدفة لضمان الغاية من النّصرة (تأمين الوصول إلى الحكم وحماية الدّولة الفتيّة)..فكان يدقّق ويسأل ويتحرّى (كيف القوّة فيكم..؟؟ كيف المنعة فيكم..؟؟) حتّى أنّه امتنع عن طلبها من قبيلة غفار لضعفها وانعدام شأنها وأمر أبا ذرّ رضي الله عنه بالعودة إلى قومه وانتظار أمره..ثالثها: أنّه عليه الصّلاة والسّلام كان يطلبها من المتنفّذين في هذه القبائل أي من شيوخها وقادتها ووجهائها وزعاماتها ممّن يأتمر النّاس بأمرهم: فولاء العرب ـ وإن كان للقبيلة ـ ولكنّه مشخصنٌ أي ملتبس بالولاء للشيوخ والقادة والزّعماء الّذين يمثلون القبيلة ويسري أمرهم على أفرادها، فإن أسلموا أسلم البقيّة، وإن أعلنوا الحرب استجاب لهم الجميع، وحادثة سعد بن معاذ رضي الله عنه مع قومه خير مثال على ذلك ،فقد هدّدهم بأنّ كلام كبارهم وصغارهم حرام عليه إن لم يسلموا ،فأسلم الجميع..

الولاء والبراء

الثّابت الرّابع أنّه صلّى الله عليه وسلّم كان يعرض الإسلام على تلك القبائل ويطلب منهم الإيمان بنبوّته ورسالته قبل أن يطلب منهم النّصرة (أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأنّي عبد الله ورسوله، وإلى أن تؤووني وتنصروني فإنّ قريشا قد تظاهرت على الله وكذّبت رسوله واستغنت بالباطل عن الحقّ والله هو الغنيّ الحميد)..أي أنّه كان يطلب منهم تغيير عقيدتهم ونبذ الشّرك والإيمان بالإسلام وبنبيّه وبمشروعه السياسيّ ليتسنّى لهم نصرته، فإن استجابوا له أصبحوا جزءًا من الأمّة الإسلاميّة وجاز طلب النّصرة منهم، وإن امتنعوا لم يطلبها منهم..خامس تلك الثّوابت أنّه صلّى الله عليه وسلّم كان يشترط أن يكون الولاء والبراء لله ولرسوله وحدهما: فقد ساومته بعض القبائل وأظهرت القبول المشروط لنصرته، فاشترط عليه بنو عامر بن صعصعة أن يكون الأمر لهم من بعده (أنهدف نحورنا للعرب والعجم ثمّ يكون الأمر لغيرنا..؟؟) فرفض الرّسول ذلك وأجابهم (إن الأمر كلّه بيد الله يضعه حيث يشاء)..فشرعًا السّلطان للأمّة الإسلاميّة قاطبةً وليس لبني عامر، وهي التي تنيب عنها من تشاء ممّن تتوفّر فيهم شروط البيعة لتطبيق الإسلام عليها..كما اشترط عليه بنو شيبان أن يؤووه وينصروه ممّا يلي مياه العرب فقط دون مياه الفرس (لقد نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثًا ولا نؤوي محدثًا، وإنّا نرى أنّ هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش ممّا يكره الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك ممّا يلي مياه العرب فعلنا)..فرفض صلّى الله عليه وسلّم ذلك أيضًا وأجابهم (ما أسأتم بالرّد إذ أفصحتم بالصدق وإنّ دين الله لن ينصره إلاّ من حاطه من جميع جوانبه).. فالحماية الجزئيّة والمشروطة لا تحقّق الهدف المقصود من النّصرة، فيجب أن يكون أهل النّصرة في حلٍّ من المعاهدات والارتباطات المتناقضة مع المصلحة العليا للدّعوة، فهل سيخوض بنو شيبان الحرب ضدّ كسرى لو أراد القبض على الرّسول أو امتنع عن قبول الإسلام أو الجزية..؟؟ فيجب أن يتحوّل الولاء والبراء بالكليّة ويصبح خالصًا لله ورسوله وحدهما، وهذا ما يُعبّرُ عنه في الاصطلاح السياسي الحديث بصياغة العقيدة القتاليّة للمؤسّسة العسكريّة..

مناط الجيوش

على ضوء تحقيقنا لمناط النّصرة النّبويّة يمكن لنا أن نتولّى تفنيد المزاعم والمؤاخذات حول طلب النّصرة من المؤسّسة العسكريّة..فتأسّيًا منه بالسنّة النّبوية المشرّفة، اتّخذ حزب التّحرير من طلب النّصرة جزءًا لا يتجزّأ من طريقته للوصول إلى الحكم وعملاً من أهمّ أعماله في نهاية مرحلة التّفاعل، وقد طلبها خاصّةً من المؤسّسات العسكريّة القائمة في العالم الإسلاميّ لكونها الجهة الوحيدة صاحبة القوّة والشّوكة والمنعة والقادرة على تحقيق الهدف من النّصرة (تأمين استلام الحكم وحماية الدّولة الفتيّة وتمكينها من تطبيق الإسلام): فالرّسول صلّى الله عليه وسلّم لم يطلبها من القبائل بصفتها القبليّة بل لما تمثّله من شوكة وقدرة على المناكفة العسكريّة ناهيك وأنّه استثنى القبائل الضّعيفة..أمّا في عصرنا الحالي فقد انتفت ـ أو كادت ـ هذه النّوعية من القبائل القادرة على مجابهة الجيوش المتطوّرة المجهّزة بأحدث الأسلحة الثقيلة التي يتعذّر امتلاكها من طرف الأفراد (طائرات ـ صواريخ ـ دبّابات ـ قنابل..)، لذلك فلم يبق من جهة مظنّة القوّة والشّوكة والمنعة غير الجيوش النّظاميّة.. صحيح أنّ المؤسّسة العسكريّة في العالم الإسلامي معادية للدّين بامتياز وأنّها غير مهيّأة ـ سياسيًّا ونفسيًّا وعقائديًّا ـ لتقديم النّصرة المطلوبة، فهي أداة لقمع الشعوب ومحاربة الله ورسوله وحماية مصالح الاستعمار وتثبيت عملائه على العروش..ولكن يجب التّفريق هنا بين المؤسّسة العسكريّة بوصفها صنيعةً استعماريّة ـ إنشاءً وتدريبًا وتسليحًا وولاءً ـ وبين أشخاص العسكريّين بوصفهم جزءًا من الأمّة الإسلاميّة يشاطرونها العقيدة والغيرة على الدّين والاكتواء بنار الرّأسماليّة، فيمكن بالتّالي مخاطبة العقيدة الإسلاميّة الكامنة فيهم وإثارة امتعاضهم من فساد الوضع القائم واستمالتهم لصفّ المشروع الإسلاميّ..فهم كسائر المسلمين معنيّون بالأحكام الشرعيّة مخاطبون بها ومن واجبنا إبلاغهم الدّعوة وطلب النّصرة منهم ناهيك وأن الأرضيّة العقائديّة مهيّأة ممّا يختصر الطّريق ويسهّل المهمّة مقارنةً مع ما كان مطروحًا على الرسول عليه الصّلاة والسّلام: فقد كانت مهمّته مضاعفة (إقناعهم بالإسلام ثمّ طلب النّصرة منهم)..

تراتبيّة صارمة

وفي طلبه النّصرة من الجيوش النّظاميّة استهدف حزب التّحرير ذوي الرّتب العسكريّة العليا المتحكّمين في المؤسّسة العسكريّة ـ كليًّا أو جزئيًّا ـ والقادرين على تحريكها وتوجيهها وتطويعها وتوظيفها :فهم بمثابة النّسخة العسكريّة الحديثة لشيوخ القبائل ووجهائها وقادتها ومتنفّذيها الذين استهدفهم الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، لأنّهم يشتركون معهم في الثالوث السحري للسيطرة والقيادة (الولاء التّام ـ الطّاعة العمياء ـ الانقياد الكلّي)..هذا الثالوث وإن كان في نسخته القبليّة قائمًا على النّعرة العرقيّة الدّموية، إلاّ أنّه في نسخته العسكريّة الحديثة قائم على تنظيم إداري محكم وجهاز تأديبي عقابي صارم: فالمؤسّسة العسكريّة مبنيّة بناءً هرميًّا تراتبيًّا ينطلق من الأعلى إلى الأسفل في شكل تنظيم هيكليّ شجريٍّ متفرّعٍ تتحكّم في مفاصله قيادات ورتب مختلفة، وكلّما نزلنا في الرّتبة اتّسعت القاعدة والعكس صحيح..بحيث يكفي استهداف الرّتبة المناسبة للسيطرة على المؤسّسة برمّتها أو على أجزاء واسعة منها :فالقائد الأعلى للقوّات العسكريّة يكفيه استمالة بضعة أمراء ألوية للتحكّم في الجيش بأكمله، وأمير اللّواء يكفيه استقطاب عدد من نظرائه أو بضعة فرق أو عقداء أو ملازمين للسيطرة على جزء من المؤسّسة العسكريّة وهكذا.. وهذه القيادات طاعتها واجبة وأوامرها مستجابة ممّن هم دونها رتبةً (دون تردّد  ولا ترمرم) تحت طائلة العقاب الشديد الذي قد يصل حدّ الإعدام لاسيما إذا كانت البلاد في حالة حرب (خيانة عظمى). وهذا ممّا يحبط نيّة التمرّد لدى العمود الفقري للجيش ومكوّنه الأساسيّ (الجنود) ويساهم في تطويعهم ويسهّل بالتالي مهمّة الحزب السياسي في أخذ النّصرة من الجيش أو من جزء منه (فرق ـ ألوية ـ كتائب..)..فاستمالة المؤسّسة العسكريّة والتأثير فيها وكسب جزء منها وإثارة الامتعاض بين عناصرها وقياداتها ودفعهم إلى التمرّد وشقّ عصا الطّاعة، كلّ هذا داخل في دائرة الممكن الفعلي بالنّسبة إلى الأحزاب السياسيّة شرط التأسّي بفعل الرّسول عليه الصلاة والسلام: مخاطبة العقيدة الإسلاميّة في قياداتهم وتحويل الولاء والبراء لديهم، أي تغيير عقيدتهم العسكريّة.. (يتبع)

أ, بسّام فرحات

CATEGORIES
Share This