الدّستور آليةً لاستهداف الهويّة الإسلاميّة في تونس (الجزء الثاني)

الدّستور آليةً لاستهداف الهويّة الإسلاميّة في تونس (الجزء الثاني)

الدّستور الثّاني الذي اعتُمد كآلية لاستهداف الهويّة الإسلاميّة للإيالة التّونسيّة هو دستور 1959م: فبعد قرابة قرن من عهد الأمان أُعلن هذا الدّستور المنسوب ـ زورا وبهتانا ـ إلى الاستقلال وقد تكوّن من توطئة و78 فصلا صيغت كلّها بإشراف فرنسيّ/بريطانيّ مباشر ممثّلا في شخص إبنهما البارّ (الحبيب بورقيبة) وحاشيته الفرنكفونيّة وتحت رقابة العين البصيرة لليهوديّ (سيسيل حوراني) مستشار الرّئيس آنذاك (؟؟).. أمّا التّوطئة فقد حدّدت الخلفيّة السياسيّة الحضاريّة التي استند إليها واضعوه، وممّا جاء فيها (نحن ممثّلي الشّعب التونسيّ نعلن أنّ هذا الشّعب مصمّم على توثيق عرى الوحدة القوميّة والتمسّك بالقيم الإنسانيّة المشاعة بين الشّعوب التي تدين بالكرامة والعدالة والحريّة، ومصمّم على التعلّق بتعاليم الإسلام وبوحدة المغرب الكبير وبانتمائه للأسرة العربيّة والتّعاون مع الشّعوب الإفريقيّة والتّضامن مع جميع الشّعوب المناضلة من أجل الحريّة والعدالة، ومصمّم على إقامة ديمقراطيّة أساسها سيادة الشّعب وقوامها تفريق السّلط، كما نعلن أنّ النّظام الجمهوريّ خير كفيل لحقوق الإنسان والمساواة بين المواطنين..). وواضح جليّ من خلال هكذا توطئة أنّ خلفيّتها الحضاريّة غربيّة علمانيّة تفصل الدّين عن الحياة وتنهل من الأنظمة الدستوريّة البرلمانيّة التي تقدّس الديمقراطيّة والنّظام الجمهوريّ.. أمّا خلفيّتها السياسيّة فغارقة في حمأة الرّوابط القوميّة والوطنيّة محاربة لله ورسوله متلبّسة بالتبعيّة والعمالة للاستعمار في شكله الجديد..
فصول ملغّمة
وقد جاءت فصول هذا الدّستور مستجيبة لتطلّعات واضعيه الاستئصاليّة مكرّسة لتوجّههم التغريبيّ الانبتاتيّ، ودونكم هذه النّماذج المعبّرة :فقد نصّ الفصل الأوّل على أنّ (تونس دولة مستقلّة ذات سيادة الإسلام دينها والعربيّة لغتها والجمهوريّة نظامها)، ونصّ الفصل الثّالث على أنّ (الشّعب التونسيّ هو صاحب السّيادة)، ونصّ الفصل الخامس على (ضمان الحريّات الأربعة بما في ذلك حريّة المعتقد وحريّة التّعبير والصّحافة والنّشر وحقوق الإنسان والتعدديّة ودولة القانون).. كما نصّ الفصل الثّامن أنّه (لا يجوز لأيّ حزب أن يستند أساسا في مستوى مبادئه وأهدافه أو نشاطه أو برامجه على دين أو لغة أو عنصر أو جنس أو جهة)، ونصّ الفصل (18) على أنّ (الشّعب هو الذي يمارس السّلطة التّشريعيّة بواسطة مجلس النوّاب ومجلس المستشارين أو عن طريق الاستفتاء)..أمّا الفصل (21) فقد أقرّ بأنّ (المبادئ المتعلّقة بالأحوال الشخصيّة تُضبط بالرّجوع إلى مجلّة الأحوال الشخصيّة الصّادرة في 13 أوت 1956)، ورغم أنّ الفصل (76) يعطي الحقّ (لرئيس الجمهوريّة أو ثلث أعضاء مجلس النوّاب على الأقل في المطالبة بتنقيح الدّستور) إلاّ أنّه يقيّده باستثناء وحيد (ما لم يمسّ ذلك بالنّظام الجمهوريّ للدّولة).. ومن خلال هذه النّماذج نتبيّن دون عناء أنّ دستور 1959 قد أقدم على خطوات أوسع وأسرع وأكثر صراحة وجرأة في اتّجاه التّغريب والانبتات ومحاربة الله ورسوله :فدقّق في المصطلحات ونصّ صراحة على الخيار الجمهوريّ وعلى إقصاء الإسلام من التّشريع وإسناد السّيادة للشّعب وأنّ لمجلس النوّاب سلطة تشريعيّة..كما نصّ صراحة على الخيار العلمانيّ وفصل الدّين عن الحياة، ونصّ على تبنّي الديمقراطيّة نظاما للحكم وأكّد على الالتزام بمشتقّاتها (التعدديّة ـ الفصل بين السّلط ـ الحريّات الأساسيّة ـ حقوق الإنسان..). كما استهدف الأحوال الشخصيّة آخر حصون الإسلام في تونس في خطوة وقحة لم تتجرّأ عليها فرنسا الاستعماريّة نفسها، بل أجرى تحويرا على هويّة البلاد وانتمائها أُدرِجت بمقتضاه ضمن الفضاء (العربيّ المغاربيّ الإفريقيّ الإنسانيّ) ما يُعدّ بترا صريحا لتونس عن عمقها الإسلاميّ وحشرا قسريّا لها في هيكل استعماريّ بريطانيّ (المغرب العربيّ)، وفي كلّ هذا ما فيه من استئناف وتعقيب على الفتح الإسلاميّ لإفريقيّة ونقض جليّ لشرائع الله وأحكامه وحرب معلنة على عقيدة الشّعب التونسيّ وتاريخه وحضارته وثقافته..
سياق استعماريّ
وقبل الخوض في دستور الثّورة ودستور قيس سعيّد الذي يطبخ الآن على نار هادئة، نسوق بعض الملاحظات المتعلّقة بعهد الأمان بوصفه (باكورة الدّساتير في العالم الإسلاميّ) ودستور 1959 بوصفه (دستور الاستقلال المزعوم): وإنّ أوّل ما يمكن ملاحظته بخصوص هذين الدّستورين أنّهما يندرجان ضمن السّياق العامّ الذي اعتمده الغرب في صراعه مع الإسلام والمسلمين منذ أواخر الحروب الصّليبيّة.. فبعد أن مُنِي بهزائم عسكريّة منكرة وفشل فشلا ذريعا في حركة التّبشير،غيّر الغرب الاستعماريّ الصليبيّ خطّته المستهدفة للإسلام والمسلمين من الغزو العسكريّ للقضاء على المسلمين وإفنائهم إلى الغزو الثّقافيّ لإخراج المسلمين من دينهم عبر الالتفاف حول الإسلام وذلك بتشكيك المسلمين في دينهم والتلبيس في عقائدهم ومهاجمة شرائعهم ثمّ دسّ بعض الأحكام الغربيّة بنظام القطرة قطرة مع الإيهام بإسلاميّتها بوصفها توافق الإسلام أو لا تخالفه وصولا إلى نقض شرائع الإسلام بالكليّة.. وهذه نقلة نوعيّة تحوّل بموجبها الصّراع من خارج الإسلام إلى داخله عبر استهداف عقيدته ومحاولة نسفه من جذوره: في هذا السّياق يندرج دستور (الياساق) الماغوليّ الذي وضعه (جنكيز خان) وفرضه على المسلمين، وهو عبارة عن كوكتال من الأحكام الإسلاميّة والمغوليّة، وفي نفس السّياق أيضا تندرج كلّ الدّساتير التي وُضِعت للدّويلات الإسلاميّة النّاشئة بعد تفكيك دولة الخلافة.
أمّا أبرز مثال تاريخيّ على هذا التمشّي الخبيث فهو ما حصل في الدّولة العثمانيّة أواسط القرن 19م من محاولات لإدخال القوانين والأحكام الدّستوريّة الغربيّة مع مراعاة الإسلام من قبيل قانون التّنظيمات العثمانيّ (1839) ودستور رشيد باشا المسمّى (كلخانة) أو الخطّ الهمايونيّ الشّريف (1857) ودستور مدحت باشا (1876) الذي حوّل نظام الحكم العثمانيّ من خلافة إسلاميّة إلى نظام دستوريّ برلمانيّ، وكذلك قانون الجزاء العثمانيّ (1857) الذي ألغى الحدود وقانون الحقوق والتّجارة (1858) وتقسيم المحاكم إلى شرعيّة ونظاميّة (1870)..هذا التمشّي الاستعماريّ المسموم في التخلّي عن أحكام الشّرع وتبنّي الأحكام الغربيّة مثّل الخنجر الذي طُعِنت به الخلافة العثمانيّة في مقتل ما أودى بها إلى السّقوط والتّفكيك والاندثار..
السمّ في الدّسم
ثاني ما يمكن ملاحظته بخصوص هذين الدّستورين أنّهما تجنّبا استفزاز الأمّة وإثارة حفيظتها والتّصادم معها قدر المستطاع وحاولا الالتفاف على الهويّة الإسلاميّة عبر التّلاعب بالألفاظ وإلباس أفكار الكفر جبّة الإسلام ودسّ السمّ في الدّسم والإيهام بالأسلمة والأصالة مرتكزَين على جهل الأمّة باللغة العربيّة وبعدها عن الثّقافة الإسلاميّة :فقد نصّ دستور عهد الأمان على (وجوب الاهتداء بأحكام الشّريعة الإسلاميّة الغرّاء باعتبار أنّ الإسلام هو الدّين الرّسميّ للدّولة وأنّ الباي والسكّان مسلمون) وإنّ التّلاعب بالألفاظ واعتماد التّعريض والعموميّات والنيّة الخبيثة المبيّتة في هذا الكلام واضحة جليّة: فالاهتداء كلمة عامّة مبهمة مائعة لا تعني انبثاق الدّستور عن العقيدة الإسلاميّة وأنّ الكتاب والسنّة أصل في استنباط الأحكام بل مجرّد فرع يهتدى به بوصفه (مرجعيّة).. وتعبير (الدّين الرّسمي للدّولة) يحيل على فصل الدّين عن الحياة ولا يفيد أنّ الإسلام عقيدة الدّولة، فالدّولة لا دين لها بل تصدر عن عقيدة ومبدأ في أحكامها ودساتيرها وتشاريعها وقوانينها ،أمّا نسبة الدّين إليها فيحصر الإسلام في العبادات وطقوسها والتّقويم والأعياد والمناسبات الدينيّة فحسب وهذا عين الفصل. كما أنّ التّبرير المقدّم للاهتداء بالإسلام (وأنّ الباي والسكّان مسلمون) لا يجعل من اعتناقنا إيّاه واجبا لكونه شريعة الله التي فرضها على عباده، بل لمجرّد كونه دين الباي والنّاس وهذا معطى غير ثابت تزول بزواله الحاجة إلى الاهتداء بالإسلام لاسيّما وأنّ الاستعمار يعوّل على محاربة الإسلام وتجفيف منابعه والتّبشير بالنّصرانيّة في صفوف الشّعب التّونسيّ لتغيير عقيدته.. فهذا تعريض مغرض وتلاعب بالألفاظ مقصود ولكنّه عصيّ على أفهام الشّعب يستوي في ذلك العامّة ومشائخ الزّيتونة..
حقل ألغام
أمّا دستور 1959م فقد نصّ في الفصل الأوّل منه على أنّ تونس (دولة مستقلّة ذات سيادة الإسلام دينها والعربيّة لغتها والجمهوريّة نظامها) وهذا حقل من الألغام يقطر دهاء ومكرا :فاستقلال تونس عمّن..؟؟ هل هو عن فرنسا أم عن الدّولة الإسلاميّة..؟؟ فالمقصود هو فصلها عن دولة الخلافة بوصفها كانت إيالة تابعة للدّولة العثمانيّة وهذا ما فشلت الإمبراطوريّة الفرنسيّة في تحقيقه طيلة قرن إلاّ ربع من الاستعمار، إذا بدستور (الاستقلال) يقرّه لها بجرّة قلم (؟؟).. وتعبير (ذات سيادة) لا يفيد مطلق السّيادة لأنّه نكرة وليس معرفة، فهو يحيل على جزء مبهم من السّيادة أي سيادة جزئيّة مبتورة منقوصة على شاكلة الدّويلات الوظيفيّة المنزوعة الدّسم الموجودة في العالم الإسلاميّ اليوم (الدّولة البلديّة)..أمّا التّركيبان (الإسلام دينها والعربيّة لغتها) فلا يعنيان أنّها دولة إسلاميّة لغتها الرّسميّة العربيّة :فلو ضربنا صفحا عن لفظة (دين) التي تحيل عمليّا على العلمانيّة وفصل الدّين عن الحياة كما أسلفنا، فإنّ هكذا تركيب لا يفيد ـ لغةً ـ الالتصاق والتماهيّ فلا يفهم منه أنّ الإسلام عقيدة الدّولة ومصدرها التّشريعيّ وأنّ العربيّة لغتها الرسميّة بوصفها طاقة لغويّة لتفجير الطّاقة التشريعيّة للقرآن الكريم. وإنّ قصارى ما يمكن أن يفهم من هكذا تركيب هو أنّ لهذه الدّولة دين ولغة، أمّا الإسلام والعربيّة فهما مجرّد معطيين ظرفيّين وقتيّين ليسا بمعزل عن التّبديل والتّغيير، ناهيك وأنّ من أوكد مهامّ الاستعمار مسخ ثقافة البلاد المحتلّة وحضارتها وعقيدتها ومحاربتها حرب إبادة وإلحاقها بثقافته وحضارته وعقيدته..هذا فضلا عن التّصريح بتبنّي النّظام الجمهوريّ الذي يحيل على التخلّي عن نظام الحكم في الإسلام..والأصل في هذا الفصل أن يصاغ بالشّكل التّالي (تونس إيالة عثمانيّة تتمتّع بكامل السّيادة عقيدتها الإسلام ولغتها الرّسميّة العربيّة ونظامها الخلافة)..
وإذا عُرِف السّبب..
ولكن لقائل أن يقول :إذا كان الأمر على هذا الشّكل من الإبهام والميوعة والغموض ولم تكن الأمّة واعية بالجريمة أو على الأقل متفطّنة لما أدرج في دستورها من تغييرات جذريّة تستهدف هويّتها وانتماءها العقائديّ والحضاريّ ،فما الفائدة المرجوّة استعماريّا من هكذا عمليّة وما هي تأثيراتها على أرض الواقع..؟؟ إنّ النّخبة العلمانيّة المرتهنة للاستعمار والماسكة بزمام السّلطة على وعي تامّ باستهداف الهويّة الإسلاميّة في الدّستور ،لكن المطلوب هو تخدير الأمّة فحسب لوضعها أمام الأمر الواقع دون أن تحسّ أو تعي بذلك فلا تتمكّن من ردّ الفعل في الوقت المناسب إلى أن يجهز الجيل القادم الذي يُطبخ على نار هادئة في مطبخ التّعليم والإعلام..وإنّ هذه العمليّة تتكفّل بذلك على أحسن وجه :فهي أوّلا :تُكسب الاجتراء على أحكام الله شهرة داخليّة وتنفي عنها كونها بدعا من القول ،فهناك من سبق وقام بها في الدّستور القديم أو حتّى في دستور دولة عربيّة أخرى ،فهو ليس سابقة وهذا له تأثير نفسيّ على المتلقّي فلا يستشنع الإجراء..ثانيا :أنّها تساهم عبر التّطبيق والمستوى العمليّ الميدانيّ شيئا فشيئا في إرساء عرف عامّ حولها إمّا مساند لها أو حتّى لا مبال بها ممّا يساهم في دسّ أحكام الكفر بنظام القطرة قطرة حرصا على تخدير الأمّة وعدم إثارة حفيظتها..ثالثا :أنّها تكتسب مرجعيّة تشريعيّة فتصبح بمقتضاها مرتكزا لوضع أحكام وتشاريع أجرأ على الإسلام من سالفتها بأخفّ الأضرار تماما كما حصل مع الفصل الأوّل من دستور 1959م ،فقد أضحى في مقام النصّ التشريعيّ الذي استند إليه واضعوّ دستور (الثّورة) 2014م لاقتراف جرائم أفظع في حقّ الإسلام والمسلمين..وإذا عُرِف السّبب بطل العجب.. (يتبع)

الأستاذ، بسام فرحات

CATEGORIES
Share This