الصراع على السلطة يعمّق جراح تونس
كما هو حال سائر بلاد المسلمين ترزح تونس تحت نير حكم وضعي جائر زادت من حدة وطأته طبقة سياسية لا تجيد من الأعمال إلا أمرين لا ثالث لهما: الأول خدمة المسؤول الكبير, والثاني تحصيل أكثر ما يمكن تحصيله من الفتات الذي ينثره لهم المسؤول الكبير الراجعين إليه بالنظر. فمن في السلطة ومن يعارضهم تجمعهم الأطماع الذاتية وهي ذاتها من تفرقهم وتؤجج الصراعات بينهم، ويحصل أن يكون الصراع بين مؤثثين مواطن السلطة حيث يختلط الحابل بالنابل ويصبح من الصعوبة بمكان التمييز بين من يعارض وبين من يحكم, فقد يعارض رئيس الدولة الحكومة والبرلمان أو العكس تتحول الحكومة ومن على رأسها إلى معارض للرئيس, وهكذا, غوغاء وصخب لا ينتهيان إلا بتوافق يمكن كل طرف من الفرقاء من نيل ما يطمع فيه, وهذا تماما كما حصل في فترة تولي “الباجي قائد السبسي” منصب الرئاسة وسيطرة حزبه على الحكومة وامتلاكه أغلبية برلمانية تليه “حركة النهضة” وبما أنه حزب هلامي ولا يملك كما ادعى مؤسسه “الباجي قائد السبسي” جيشا من الكفاءات بمقدوره تسيير شؤون أربع بلدان وليواري سوءة حزبه أو بالأحرى يواري عجز وفشل الدولة برمتها وفي الوقت نفسه يغنم بعنب السلطة وبلحها ولا يعكر صفوه معارض أو مناهض وينعم بإقامة مريحة في قصر قرطاج, وضع يده في يد شخص يشاركه الهواجس ذاتها ويملك الإخلاص ذاته للمسؤول الكبير ألا وهو رئيس “حركة النهضة”. التقى “الباجي قائد السبسي” مع “راشد الغنوشي” وتحت عنوان تجنيب البلاد حربا أهلية وقدما لنا فرية اسمها التوافق. وتحت هذا المسمى غرقت البلاد في وحل الأزمات واستأثر حزبا الشيخين بنعيم السلطة وكلما أطلت أزمة برأسها هرعا عبر التوافق إلى توافق جديد، أزمة تلتها أزمة مقابل توافق يعقبه توافق. رحل “الباجي قائد السبسي” وخرج من قمقم الاقتراع شخص لا ينتمي لأي حزب ولم يسبق له أن خاض غمار الحياة السياسية من قبل فدخل قصر قرطاج وهو يرتدي جلباب الشخص “النظيف” والمستقيم والورع ونحو ذلك من الصفات المعششة في أذهان المحتفين بصعود “قيس سعيد” إلى سدة الحكم والساخطين على أداء الحكومات المتعاقبة بعد الثورة وجميع الأحزاب المنتحلة صفة سياسية.
والحالة تلك استغل الوافد الجديد على رئاسة الدولة ذلك الانطباع ووظفه لتحقيق غاية في نفسه وهي الاستحواذ على السلطة ويرفض رفضا قاطعا أن يشاركه أحد فيها في تمشي يخالف تماما تمشي “الباجي قائد السبسي”. وفشل “راشد الغنوشي” في إقناعه بضرورة التوافق والغاية طبعا هي تقاسم غنيمة السلطة كما كان الحال زمن “الباجي قائد السبسي”. تعنّتُ قيس سعيد أفضى إلى طريق مسدود خاصة بعد “الإجراءات الاستثنائية” التي أقرها وأقصى بموجبها الحكومة وجمد البرلمان, وفي خضم هذا كله تفاقمت الأزمات أكثر من ذي قبل وأصبح الحصول على بعض المواد الأساسية يكاد يُعد ضرب من ضروب الترف، يحصل هذا والرئيس يخوض حربا شعواء مع خصومه حول الصلاحيات ومن يملك السلطة وكله تحت ذريعة حماية الفقراء والجياع والمعطلين من المتاجرين بلقمة عيشهم والمتمعشين من آلامهم في المقابل، في المقابل ترتفع من حين إلى أخر أصوات مناهضي الرئيس معتبرين انفراده بالسلطة تسبب وسيتسبب أكثر في تدهور الأوضاع الاقتصادية وسيقضي على آخر ما تبقى من قدرة شرائية لدى شريحة واسعة من أهل تونس وليمنعوا حدوث الكارثة -ولو أن الكارثة حلت منذ أن اختار “بورقيبة” تطبيق النظام الوضعي وفصل الإسلام عن الحياة- عقد البرلمان المجمد جلسة افتراضية وتم فيها التصويت على إبطال كل الإجراءات الاستثنائية التي أقرها “قيس سعيد” وبهذا الإجراء يكون البرلمان عاد ليزيح الرئيس عن السلطة وهذا ما لم يقبله وقام بردة فعل عنيفة, حيث أعلن عن حلّ البرلمان بل ذهب إلى أبعد من ذلك إذ اعتبر أعضاء المشاركين في الجلسة متآمرين على أمن البلاد وأمر بإحالتهم على القضاء.
فعل ورد فعل, هذا يتوعد الآخر وأوضاع البلاد والعباد من سيء إلى أسوأ ولا أحد من المتصارعين على السلطة قادر على إيجاد حل لما يجري. الرئيس صباحا مساء يردد نفس الكلام الأجوف الذي لا يغني ولا يسمن من جوع. خصومه يختفون تارة ويظهرون تارة أخرى وفي كل مرة يجتمعون فيها هم أيضا يجترون ما قالوه في المرات السابقة “دفاعا عن الدستور.. نضال من أجل الديمقراطية.. نحن ضد الدكتاتورية” ولا أحد منهم قدم ولو ما يشبه حلا. بيانات ومراسيم وقفات ومظاهرات زيارات ليلية إلى وزارة الداخلية, هرج هنا ومرج هناك ولا بدائل مطروحة ولا حلول مقترحة. كل طرف يتهم الآخر بتدمير الدولة وهي غير موجودة. كل طرف يحمل الآخر مسؤولية ما آلت إليه البلاد من تردي وتدهور شامل والحال أن نظامهم ودولتهم ودستورهم الوضعي وهم جميعا الرئيس ومن يناوئه هم أسلحة الدمار الشامل صوّبها مستعمر لا يرقب فينا إلاّ ولا ذمة, فدمر كل شيء بعد أن نهب كل شيء ولم يبق من شيء غير أدران سلطة يتصارع حولها الرئيس وفلول الحرس القديم, ولا ضير بالنسبة إليهم في أن تتعمق جراح تونس وتتعاظم آلام وأوجاع أهلها.
أ، حسن نوير
CATEGORIES محلي