متى يعي الناس أن الداء هو النظام الوضعي

متى يعي الناس أن الداء هو النظام الوضعي

بلغت الأزمات في تونس مداها وطفح الكيل فلم يعد بمقدوره استيعاب نصف أزمة. انسداد سياسي يتخلله عبث صبياني أبطاله السلطة ومن يعارضها. تدهور اقتصادي محاط بعجز الدولة عن ايجاد حلول وانقاذ البلاد من هاوية الضياع. حكومة تعقبها أخرى, وجوه تظهر وأخرى تضمحل والوضع دوما يغير إلى الأسوأ. مع كل انتخابات جديدة يستبشر الكثيرون بالوافدين الجدد على الحكم, وكلهم أمل في ألاّ يكونوا كسابقيهم، بعد أن أقنعهم دجالو ومشعوذو النظام الوضعي بأن من يرنو إلى حياة كريمة ويحصل على معيشة تليق به كانسان يجد ضالته في توجهه إلى صندوق الاقتراع واختيار من يحقق له كل طموحاته, بحركة بسيطة يمكن تغيير الأوضاع وإن بقي الحال على ما كان عليه بعد الانتخابات يجب انتظار الانتخابات التي تليها ثم الذي تليها, وهكذا دواليك. وهذا ما حصل في تونس, كان الناس يأملون خيرا في الذين جاءت بهم صناديق الاقتراع بعد الثورة, وبمجرد أنهم اُنتخبوا من الشعب حتما سيكونون مغايرين لبن علي وزمرته وفات هؤلاء أن من انتخبوهم سيحتكمون للنظام ذاته الذي سامهم به “بن علي” ومن قبله “بورقيبة” سوء العذاب, مع فارق وحيد يتمثل في التخلي عن القمع وسياسة البطش التي انتهجها “بن علي” مع الابقاء على باقي أركان هذا النظام. فقر، بطالة، تهميش، غياب كلي لمعنى الحياة الكريمة. بل ازداد الوضع تدهورا رغم التغيير الحاصل على مستوى الأشخاص المؤثثين لسدة الحكم.

منذ “بورقيبة” إلى اليوم الدولة لم تتغير رغم تعدد التسميات وعدم تغير الدولة مأتاه الإبقاء على النظام الوضعي والخضوع التام لتشريع البشر والصد عن التشريع الالاهي ونبذه وراء الظهور. هذا ولما استشعر سدنة النظام الوضعي يأس الناس من كل مكونات المشهد السياسي في تونس أخرجوا نسخة غير مألوفة ولا تشبه الطبقة السياسية في شيء سواء أحزابا أو مستقلين, هذه النسخة هي الرئيس “قيس سعيد”. بهذه المواصفات كان الجزم بأنه سيخرج البلاد والعباد من الضيق الذي هم فيه فهو لم يتورط كمن سبقه في المساهمة فيما آلت اليه الأوضاع في تونس وبعيدا على كل الشبهات.

سكن “قيس سعيد” قصر قرطاج وتمكن من ابعاد كل من فقدوا ثقة الناس وتحوم حولهم شبهات عدة ورفض أن يقاسموه الحكم لا من بعيد ولا من قريب مما رفع منسوب التفاؤل لدى الساخطين على من كانوا في الحكم قبل أن يعلن “سعيد” عن “اجراءاته الاستثنائية” وأصبح يدور عن ما قبل 25 جويلية وعن ما بعدها، والمعنى أن ما هو قبل يعني الفساد والافساد والمتاجرة بقوت الناس وتجويعهم، ونهب ثرواتهم واغتصاب حقوقهم، وما هو بعد, يعني القضاء على الفساد والمفسدين والمنكلين بالناس وسارقي قوتهم والمتاجرين بآلامهم..

استأثر “قيس سعيد” بالسلطة وبات الجميع يترقب أول قطرة من الغيث المنهمر من سحابة اجراءات الرئيس الاستثنائية. مرت الأيام ولم يأتي ولو مؤشر بسيط على أن الفرج قادم, وكما هو الحال مع فترات الانتظار, السابقة تعكرت الحالة بشكل غير مسبوق. مواد أساسية غير متوفرة. غلاء فاحش. انهيار شبه كلي للمقدرة الشرائية ودولة يطرق الافلاس بابها في كل آن وحين، ومع ارتفاع وتيرة الأزمات ارتفعت وتيرة المزايدات بين الرئيس ومناوئيه, فهو رمى بوزر ما تمر به البلاد بمنظومة ما قبل 25 جويلية وخصومه يتهمونه بالعجز عن تحسين الأوضاع والفشل في الوصول بالبلاد إلى بر الأمان, خاصة أنه متحكم في جميع مفاصل الدولة ولا يوجد من يعرقل مسعاه بالدفع بالبلاد نحو الأفضل. لم يتغير شيء ولن يتغير, ولو جيء بأكثر الناس اخلاصا وأشدهم حرصا على مصالح البلاد والعباد مادام يطبق نظام وضعي صاغته أهواء البشر ومجافي لشرع الله. فالمحاسبة التي يلوح “قيس سعيد” بسيفها صباح مساء لا يمكن تنفيذها لأن القوانين المنبثقة من النظام المطبق سُنت لتحمي أصحاب النفوذ المالي والسياسي وما يقوم به “قيس سعيد” مجرد فرقعات وايغال في الشعبوية ليس إلا, حتى وان سن قوانين غيرها لن يتغير من الأمر شيء لأنها وضعية ولا تختلف عن سابقاتها الا من حيث الشكل, والرئيس مصر اصرارا على الاحتكام لغير شرع الله، كذلك تشديده على محاربة المتاجرين بقوت الناس والمتسببين في الغلاء الفاحش بسبب الاحتكار, لن نرى لها أثرا البتة لأن الدولة بموجب النظام الوضعي تتيح لفئات معينة تتمتع بالنفود أن يحتكروا كل ما هو أساسي في حياة الناس, فعلى سبيل المثال لا الحصر الارتفاع المشط في الأعلاف وما رافقه من غضب عارم في صفوف منتجي الحليب ومربي الأبقار مرده احتكار شركات محددة لتوريد وانتاج الأعلاف وتحكمها دون غيرها في القطاع حيث هناك 12 شركة 7 شركات تتبع مجمع “بولينا” والبقية تتبع شركة “ألفا” والشركة” المتوسطية للحبوب” تورد 80 بالمائة من الأعلاف في حين تورد الشركات الأخرى 20 بالمائة المتبقية وهذا ما يتيح لهذه الشركات مجالا واسعا لتحديد السعر لا بحسب العرض والطلب وتقلبات السوق العالمية ولكن حسب استراتيجيتها الربحية, وهذا ما يجعلها مستفيدة في كل الأحوال سواء خلال انتاج وبيع الأعلاف أو عند انتاج لحوم الدواجن كما هو الحال بالنسبة لشركة “بولينا”, هذا دون الحديث عن انعدام الجودة والأداءات المجحفة على الأعلاف الخشنة الضرورية لإنتاج الحليب واللحوم ك” الصوجا” و” الفصة” و”الذرة” التي يتم استيرداها بالعملة الصعبة وخاضعة للمضاربات بين كبار التجار والمجامع المهنية. ومع احتكار الشركات الكبرى لإنتاج وتوريد الاعلاف قلصت الدولة من مساحات المراعي وتلك المخصصة لزراعة الأعلاف ك “القرط” مثلا” كما فعلت مع المساحات المخصصة لزراعة القمح بنوعيه اللين والصلب, وكلنا يعرف الأزمة التي شهدتها البلاد في مادة الدقيق مؤخرا.

يحصل هذا والرئيس منشغل بمطاردة تاجر صغير هنا وأخر هناك أمام العدسات أو يظهر وهو يرغي ويزبد متوعدا المحتكرين بالويل والثبور والحال أن الدولة تحمي الحيتان الكبيرة بموجب قوانينها الوضعية التي حيكت لتحمي فئة على حساب أخرى وتحت وطأة نظام صاغته الأهواء البشرية, وهي ذاتها التي تسهر على تطبيقه. وما قلناه عن قطاع الأعلاف ينطبق على سائر القطاعات الأخرى كالصحة والتعليم وكل مرافق الحياة. فمتى يعي الناس أن الداء هو النظام الوضعي والقوانين المنبثقة عنه ولا علاقة للأشخاص ولو أنهم من نتاجها وهم يمثلون احدى أزمات هذا النظام المأزوم.

أ, حسن نوير

CATEGORIES
Share This