لماذا نرفض الدّيمقراطيّة؟
الدّيمقراطيّة هذا الطّوطم المقدّس الذي يعبده العلمانيّون في تونس لا يقبلون معه نقاشا، ويقترن مفهوم الديمقراطيّة بمفاهيم العلمانيّة (فصل الدّين عن الحياة) والرأسماليّة المظهر الاقتصادي للنّظام. وفي هذا المقال نقدّم بعض حجج في رفض الدّيمقراطيّة التي جعلت تونس بلدا ضعيفا تابعا لأوروبا التي استعمرته وما تزال.
تونس اليوم كيان عليل هزيل أنهكته الأزمات المتتالية التي بدأت منذ 1830 تقريبا، يوم بدأ البايات في تونس مسيرة فصل تونس عن جسمها الطّبيعي (الأمّة الإسلاميّة ودولة الخلافة)، البايات وقتها استغلّوا ضعف مركز الخلافة فارتموا في أحضان أوروبا المستعمرة فرنسا وبريطانيا الّذين أغروهم بحديث الإصلاح والتّحديث وزيّنوا لهم المشاريع زخرفَ القولِ غرورا، ووعدوهم ومنّوهم الأمانيّ، وأغدقوا عليهم أموالا وقروضا أغرقتهم وأغرقت معهم البلاد في دوّامة فساد وظلم، وبسبب هذه القروض انقضّت فرنسا على البلاد تنهبها وعلى أهلها تستعبدهم وتسوسهم بالقهر والبطش. ولم تخرج جيوش الاستعمار من بلادنا حتّى ضمنت أموراً عدّة:
-
أن يكون على رأس البلاد عملاء له يعشقون فكره ويؤمنون به، فسيطر النّظام الرّأسمالي الديمقراطيّ
-
استمرار انفصال البلاد عن بقيّة بلاد الإسلام. حتّى تظلّ البلاد ضعيفة يسهل السيطرة عليها.
-
ضمان إبعاد الإسلام من الحكم ومن رعاية شؤون النّاس، فحوربت أفكار الإسلام وأغلق جامع الزّيتونة، وشرّد علماؤه.
-
الارتباط بالمستعمر في الأفكار والبرامج والمشاريع والتمويل.
وتمّ للمستعمر ما أراد بمعاونة شرذمة قليلة (بورقيبة وأعوانه) رضوا أن يكونوا خدما للكافر المستعمر، فساسوا النّاس بالقهر، وشهدت البلاد أزمات وذاق النّاس الأمرّين، بما سُطّر في مختبرات الساسة الغربيّين وبتمويل من الدّوائر الاستعماريّة فدخلت البلاد في دوّامات من الاضطرابات أنهكت المجتمع وبدّدت طاقاته.
ومن جرّاء هذه السياسات الظّالمة انفجر الوضع في ثورة غاضبة بعد أن انكشف عوار هذه الأنظمة وأزكمت رائحة فسادها الأنوف، ونادى النّاس جميعا بإسقاط النّظام وأجمعوا على ضرورة التّغيير الجذريّ. وصار شعار الثورة “الشعب يريد إسقاط النّظام”، وفي غمرة الفوضى استدرج بعض النّاس إلى انتخابات مجلس تأسيسيّ لإحداث التغيير الذي أراده الكافر المستعمر ولكن هذه المرة بأيدي بعض من سماهم إسلاميين “معتدلين ووسطيين” فحافظوا على النظام وبنيته وحصّنوا عملاء الغرب من غضب الشّعب وأعادوا إدخالهم إلى الحكم من الشباك بعد أن طردوا من الباب.
فكانت الخيبة وازدادت الأوضاع سوء، فجيء بالرئيس قيس سعيّد “الثّائر النّظيف”، ليُنهي، أو هكذا يزعمون، عقدا من الخراب، ولكنّه واصل سيرة سابقيه، وبخاصّة بورقيبة ولكن بصورة أبهت ووسائل أضعف، مدّعيا أنّه منتخب من الشّعب وأنّه جاء لينقذه.
ملامح الدّستور الجديد
بيّن من تصريحات رئيس لجنة سعيّد “الصادق بالعيد” أنّه لا يريد العودة إلى ما قبل 25/07/2021 بل يريد العودة إلى 1959، ليستأنف سيرة المقبور بورقيبة خادم الغرب والإنجليز، ولقد كشفت التّصريحات أنّ الرئيس ولجانه:
-
لا يقيمون لعقيدة المسلمين في تونس وزنا ولا يجعلون لها من اعتبار، فهم لا يطيقون سماع ذكر الإسلام
-
المحافظة على النّظام الرّأسمالي بوجهه الجمهوريّ وأداته الدّيمقراطيّة، ذات النّظام الذي قهرنا به بورقيبة ومن بعده بن عليّ. وأذلّتنا به حكومات ما بعد الثورة إلى اليوم
-
المحافظة على فصل تونس عن بقيّة بلاد الإسلام. في سياسة فرق تسد.
هذا مع ما نراه منهم ونسمعه من عشق للفكر الغربي وصل بهم حدّ التّقديس. ففصل الإسلام عندهم عقيدة مقدّسة لا تقبل النّقاش. هذا مع سكوت مريب عن تدخّل المستعمر في كلّ صغيرة وكبيرة في تونس، وفود المستعمرين أمريكانا وأنجليزا لا يكادون يفارقون البلاد، وحركة سفرائهم لا تكاد تهدأ، وحكومة الرئيس منهمكة في وضع برنامج يُشرف عليه صندوق النّقد الدّولي إشرافا مباشرا. فأين الرئيس وأين لجانه؟ أين شرف تونس وسيادتها؟؟؟
الرئيس ولجانه لا يختلفون في شيء عن الحكام السابقين ولا عن اللجان السابقة ولا عن البرلمانات السابقة، سوى في بعض الأمور الشّكليّة، ولن تختلف النّتيجة، فمسعاهم واضح، لا يؤدّي إلّا لرهن البلاد وجعلها ضعيفة تابعة تنتظر رضا الغرب.
لماذا نرفض العلمانيّة والدّيمقراطيّة؟
ما يريدون فرضه على شعب تونس المسلم: نظام عقيدته لا دليل يدعمها ولا عقل يُثبتها. وآليّته تجعل الصّراع في المجتمع طبيعيّا بل مستحكما.
-
إنّ النّظام الرّأسماليّ نظام من وضع البشر ظهر فساده على جميع المستويات، فكريّا وسياسيّا فهو نظام قام على فكرة فصل الدّين عن الحياة وهي فكرة لم تنهض بها حجّة ولا صدّقتها الوقائع، إنّما هي فكرة توافقيّة ناتجة عن الحلّ الوسط بين المفكّرين والفلاسفة في أوروبا من جهة وبين كنيسة افترت على الله دينا ما أنزل به من سلطان.
-
أمّا الآليّة الأساس في النّظام الدّيمقراطيّ التي بها يُنتجون الحلول لمشاكلهم فهي آليّة الحلّ الوسط، والنّاظر فيها يجد أنّها لا تنتج حلولا صحيحة لمشاكل الانسان، وإنّما تُنتج حلولا يفرضها الأقوياء في المجتمع (وهم قلّة) يُسوّقونها على أنّها الحلّ الصّحيح مستغلّين إعلامهم ونفوذهم وأموالهم…،
-
أمّا على مستوى الحكم فإنّ حقيقة الدّيمقراطيّة تتمثّل في تحكّم الأقوياء النّافذين، ففي الدّيمقراطيّة تتحكّم الشركات الكبرى فيها بالقرار السّياسيّ، فلا يصل إلى كونغرس أو برلمان أو مجلس الشّيوخ أو رئاسة إلا من دعمته كبرى الشركات، وموّلت حملته الانتخابيّة ولمّعت صورته في إعلامها، ثمّ تستخدمهم فيما بعد في رسم السّياسات وإصدار القوانين، كلّ هذا يتمّ بإشراك النّاس تحت مسمّى الانتخابات الحرّة النّزيهة. هذا ولقد أدرك مفكّرو الغرب منذ نصف قرن أنّ الدّيمقراطيّة نظام سيّء وأنّه غير قادر على الحكم فالواقع الذى عاشه الغرب أثبت أنّ الدّيمقراطيّة فكرة خيالية، وأنّ الذى يحكم في حقيقة الأمر هم أصحاب رؤوس الأموال، وأنّ الشّعب لا يشارك في وضع القوانين. وهذا نوع من الاستعباد نقل الغرب من عبودية رجال الدين والإقطاعيين إلى عبودية البرلمانات في العصر الحديث. وبشهادة الغرب نفسه فإن الديمقراطية لم تعد صالحة للحكم وأصبح مصطلح عدم القدرة على الحكم “ungovernability” متداولاً بين المفكرين وأهل السياسة الغربيين منذ 50 عاماً.
-
أمّا النّاحية الاقتصاديّة: ففشل النّظام الرّأسمالي ظاهر، فالأزمات الاقتصادية التي عصفت، وما تزال، بالغرب ليست وليدة اليوم، ولم تكن إلا بسبب عجز نظامهم عن تدبير شؤون المال بالشكل الذى يشبع حاجات الإنسان إشباعا يتفق مع طبيعته، ففشلوا في تحديد المشكلة الاقتصادية واعتبروها كامنة في قلّة موارد الدول، وعجزوا عن فهم طبيعة الإنسان فلم يُفرّقوا بين حاجاته الأساسية وحاجاته الكمالية، وجعلوا التملّك حريّة لا ضابط يضبطها، وجعلوا الربا أُساسا لنظامهم الاقتصادي فأفسد عليهم المال وقيمته، وعمدوا إلى النظام النقدي فقضوا عليه فتفاقمت مشاكلهم. ويكفي تدليلاً على فساد هذا النظام شهادة “روجر تيري” في كتابه المعنون بـ “جنون الاقتصاد”: (إن المشكلة لا تكمن في كيفية تطبيق نظامنا الاقتصادي، فنظامنا الاقتصادي بعينه هو المشكلة. إنّ الخطأ هو في التركيبة الأساسية لنظامنا الاقتصادي، ولن تكون الحلول الجزئية وتضميد النتائج حلاًّ يذهب بالمشاكل، إذا أردنا الوصول إلى مُثُلِنا فيجب اقتلاع المشاكل من جذورها لا بقصقصة بعض الأوراق، وعلينا أن نحاكم الأسس والافتراضات كلَّها التي تسيِّر نظامنا وكشفها كما هي على حقيقتها).
هذه خلاصة أوردناها نكشف بها خطورة عقيدة فصل الدّين عن الحياة وبشاعة مقياس النّفعيّة وفشل آليّة الحلّ الوسط، ونحذّر ممّا يقدم عليه الرئيس ولجانه وكلّ الوسط السياسي العلماني من إقرار نظام رأسماليّ، بعد أن بان فساده، والأخطر أنّ الدّيمقراطيّة ونظامها الرّأسماليّ يتجاوز هذه الحياة الدّنيا الفانية إلى الآخرة حيث غضب الرّحمان ونار جهنّم وبئس المصير