حادثة وسط العاصمة: يتبادلون الاتهامات وينشغلون عن أصل الداء، نظام الغرب الذي يحمون

حادثة وسط العاصمة: يتبادلون الاتهامات وينشغلون عن أصل الداء، نظام الغرب الذي يحمون

لماذا يطلق عون الديوانة النار على المهرب، ولماذا يدهس المهرب عون الديوانة؟
جاء خبر مقتل الشاب محسن الزياني، الأربعاء 7 سبتمبر الجاري، بقلب العاصمة، برصاص أحد أعوان الديوانة، الذين عمدوا إلى محاولة ضبط سيارته المحملة بعلب السجائر، وعند محاولته الفرار تم إطلاق النار عليه ليتوفى على عين المكان، ليعيد لأذهان الرأي العام نبأ وفاة العريف أعلى مجدي الشريف التابع لفرقة الحرس الديواني بالفحص، والذي تعرض لعملية دهس بسيارة تهريب عند محاولة إيقافها، يوم الجمعة 29 جويلية 2022، وكذلك نبأ مقتل عسكري في تبادل لإطلاق النار مع مهربين في ولاية تطاوين بأقصى الجنوب، حسب البيان الذي أذاعته يوم 18 جويلية 2022 وزارة الدفاع التونسية. فما طبيعة العلاقة بين هؤلاء الذين امتهنوا صناعة ما صار يعرف ب “التهريب” أو “التجارة الموازية” وبين أعوان الديوانة حتى تكون النتيجة ثلاثة قتلى في أقل من شهرين؟ بل الحال يفرض أن يلقى الضوء عن العلاقة بين ولي الأمر وسائر من هم في ذمته. فما الذي يبرر إزهاق أنفس حرم الله قتلها إلا بالحق؟
إنه لمن الجرم أن ينظر إلى أي قضية على غير حقيقتها، أو أن تتخذ مطية لتسجيل النقاط على حساب الخصوم السياسيين دون النظر بموضوعية إلى أصل الداء، للوصول إلى الحلول الجذرية لأي مسألة. فمن الانتهازية المقيتة أن يتخذ من مقتل الشاب محسن الزياني ذريعة للتدليل على فشل الجمهورية الثالثة، كأن الفلاح والنجاح كان عنوان الأولى، أو كأن الأرقام اللاحقة من جمهورياتهم ستأتي بالفتح المبين . ومن الجرم أيضا أن يتخذ من شماعة العشرية السابقة مشجبا تبرر به مستوى العيش المتدني الذي يرزح تحته التونسيون، ملوحين أن لو كانوا هم في السلطة حينها لأكل الناس شهدا وعسلا مصفى. وإنه لمن الجرم الفظيع أن يُعشّش في ذهن القائم على أمن الناس والمعهود إليه بإنفاذ القانون، أنه في حل من أي تبعة لتصرفاته أو أن يحظى بتبرير الجهات السياسية.
تعيد قضية مقتل الشاب محسن الزياني بالعاصمة، أو مصرع الجندي في أقصى جنوب البلاد أو عون الديوانة مجدي الشريف في منطقة الفحص، وغيرها من القضايا التي يبدو أنها لن تتوقف في ظل القوانين والنظم المشرعة اليوم، طرح موضوع القانون المنظم للحياة وصاحب الصلاحية في إصدار ذلك القانون وإلزام الناس به. فمحسن الزياني يجهد في عمل يراه حقا مشروعا، وعون الديوانة يرى أنه يقوم بواجبه في إنفاذ القانون وحماية الاقتصاد الوطني.
وهنا يطرح السؤال هل يباح لهذا التاجر أن يتصرف بتلك البضاعة على الوجه الذي يأتيه؟ وهل يحل لعون الديوانة أن يحول دونه والعمل الذي يعتاش عليه؟
هذا هو الصعيد الذي يجب أن ينظر من خلاله إلى مثل هذه المواضيع. فقصر ما حدث يوم الأربعاء 7جويلية من قتل لشاب قيل عنه أنه مهرب، على أنها جريمة تصفية خارج إطار القضاء، لا يفض الإشكال. فهل أن معاقبته من قبل القضاء على ما سمي بالتهريب وفق القانون الذي أمضاه عون الأمن، أو الحكم عليه بالإعدام حتى يصبح قتله مشروعا، يجعل من تطبيق ذاك القانون عدلا؟
فلا غياب الإطار القانوني للجرم الذي ارتكب بقلب العاصمة، ولا شيوع ظاهرة إفلات أعوان التنفيذ من العقوبة، ولا تواطؤ السلطة السياسية معهم، ولا المساندة الفجة من قسم كبير من قطاع الدعاية الرخيصة هي الأسباب الحقيقية لضياع الحقوق واختلال موازين العدل، ولكن أن نتخذ من هذه الإشارات السبب الرئيسي ونعلق مآسينا ومآسي بلدنا على أشخاص الحكام، سواء الحاكم بأمره قيس سعيد، أو الترويكا، أو بن علي وبورقيبه، ونكرر المطالبة باستنساخ نفس العوامل والأسباب التي أودت بنا إلى ما نحن فيه من ضياع وهوان، بالمطالبة بإرساء السيادة الوطنية، والعدالة الاجتماعية، والحريات العامة والفردية، مصطلحات فضفاضة، لا تجد معناها إلا في مفهوم فصل الدين عن السياسة بإقصاء الإسلام عن الحياة، إذ لا يقام بها عدل ولا يتحقق بها إنصاف، إلا خدمة للأباطرة والظلمة. وهي دعوة صريحة وسافرة لاستمرار جريمة الخضوع لنظم ومعالجات فرضت علينا من أكثر من قرنين خضع لها حكام البلاد وأورثوا من خلفهم سوءتها فظلوا لا يرون عنها محيصا.
فمنذ أن فرضت بيننا الحدود، أصبح لمفهوم التهريب والتجارة الموازية، واقع وصار لحرمة التجارة من خلالها معنى ووضعت لها القوانين وتشكلت عليها الهيئات، وباتت تحظى بالقدسية، وينكر على من يتعداها. فتعطلت بذلك أحكام الشرع، ولم يعد لقوله سبحانه وتعالى: ” وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ ” عندهم معنى، إذا اتّجر التونسي مع الجزائري أو مع الليبي في ما أحل الله لهم من أسباب التكسب. فوضعت القوانين التي بموجبها ظن عون الديوانة أنه بتنفيذها يقوم برسالة مقدسة، وهو بصدد حماية اقتصاد البلاد، فلا ضير إن اضطر لقتل من اعتدى على القانون. وفي المقابل يسوغ “المهرب” لنفسه وهو يرى العون يهدد حلمه في صفقة هي كل رأس ماله، فينتهك حرمة دم لا تحل له. وقد أغفل الطّرفان النظر إلى القانون المطلوب تنفيذه وفقه تشريعه، عندما تمكّن بعض “الصفوة”، وبطانة السوء من الامتيازات التجارية، ورخص الاستثمار، ويحال غيرهم من مزاحمتهم في القطاعات التي أسندت إليهم، بالمعوقات الإدارية. حتى أن الشركات الأجنبية الناهبة حازت من امتيازات الاستثمار أهم القطاعات الاستراتيجية، ما أفقد أهل البلاد كل أمل في الانعتاق والتحرر من التبعية.
إن تغير الواقع السياسي للبلاد الإسلامية الذي تمر به في هذا الزمن لا يغير من حقيقة الأحكام الشرعية الواجبة على المسلمين. والتجارة بين أفراد الأمة تدخل ضمن أحكام التجارة الداخلية وهذه ينطبق عليها أحكام البيع والشراء التي حددها الفقهاء، وهى لا تحتاج إلى أي مباشرة من الدولة وإنما تحتاج إلى إشراف عام، في إلزام الناس بأحكام الإسلام في البيع والشراء.
وإذ أنه لا ثغور بين البلاد الإسلامية فتبقى التجارة بينهم مباحة لا يعوقها، عائق ومكسبها حلال، ولا يحل دم امرئ باع واشترى فيما أحل الله له، وقد جعل الله لمن تولى أمر الناس حفظ حقوقهم وصيانة عيشهم، ومالُ المؤمن الذي يضمنه ويحفظه القانون، هو سند وقوة لولي الأمر، وهو عون له ومنعة من الأعداء والحاجة إليهم. والله جل وعلا يقول في كتابه العزيز: ” يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا ” (29)ـ النساء ـ ويقول سبحانه: “وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ” (188) ـ البقرة ـ
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله تعالى عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّب الزَّانِي، والنَّفْس بِالنَّفْسِ، والتَّارِك لِدِينِهِ الْمُفَارِق لِلْجَمَاعَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

CATEGORIES
Share This