أزمة البلاد متفاقمة، حين لا تسمع السلطة لرأي الناصح الأمين
رغم مرارة التجارب التي مرت بها كل دولة ربطت رقبة اقتصادها بمنظمة صندوق النقد الدولي على أمل الحصول منها على ما يعزز استقرارها المالي، ويثبت صعيدها الاقتصادي، إلا وفقدت كل أمل في تحقيق نهضة اقتصادية، بل وتدمرت، في كل الحالات بُناها التحتية، كالطرقات والموانئ والمطارات، ومحطات الكهرباء، والمدارس والمستشفيات، وأقفرت المدن الصناعية، فتقلصت الطبقة الوسطى في تلك المجتمعات حتى لكادت تندثر. بعد أن تمكنت من السيطرة على مواردها الأساسية وإجبارها على القبول بالتواجد العسكري فيها، كمنح واشنطن تونس صفة حليف أساسي خارج حلف شمال الأطلسي(الناتو). ولعل في الإشارة إلى ما فعلته الأوامر التي أملتها هذه المنظمة تحت مسمى الإصلاحات بالملاوي مثلا أو الخراب الذي جرته سياسات هذا الصندوق على دولة الشيلي حين قدم حاكمها المجرم “بينوشي” كل التنازلات الاقتصادية، وفتح أسواق بلاده واسعة أمام المنتجات الأمريكية، وكذلك شروط هذا الصندوق التي فرضها على مصر في ثمانينات القرن الماضي بتخلي الدولة كل الميادين الاقتصادية وبيع القطاع العام وإحلال القطاع الخاص محل الدولة وتعويم الجنيه المصري، مما أدي إلى تشريد آلاف العمال، وتسريح عدد مهول من موظفي الدولة
ورغم النتائج الكارثية، التي لا تخفى على أحد، والتي ضل يسجلها الاقتصاد التونسي، تبعا لفشل المنوال التنموي الذي اعتمد منذ سبعينات القرن الماضي، بعد كارثة تجربة التعاضد لبورقيبة واشتراكيته التي حطمت أسس البنى الاقتصادية للبلاد، أين أتلف وأهدر أول قرض استلمته حكومة بورقيبة من صندوق النقد الدولي سنة 1964والمقدر 13 مليون دولار، بعد أن قبل بانضمام تونس إلى هذه المؤسسة الاستعمارية في عام 1958، هذا المنوال الذي يرتكز على استقطاب الصناعات التصديرية الأجنبية، من خلال ما يسمى بقانون أفريل 72، الباحثة عن تقليص كلفة إنتاجها لتوفر العمالة الرخيصة أمامها وفرص الإعفاء من الأداءات التي توفرها لها السلطة القائمة، وهو المنوال الذي ظل يتبعه كل ماسك بالسلطة في بلادنا تحت عنوان جلب الاستثمار وتوفير مواطن الشغل، وبتتابع الأزمات الإقتصادية وتفاقم مديونية البلاد التي جرتها سياساتهم الخرقاء، صار بن علي وجهازه الإعلامي الغبي يتغنى بحكمة التعاون مع صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الاستعمارية والوقوع تحت ما يسمى ببرامج الإصلاح الاقتصادي التي صارت وطأتها تضغط على بلادنا كلما تمادت السلطة في سياسة الاقتراض، لتتعمق أزمة البلاد مع إمضاء اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995 بالشروع في اعتماد سياسة التفريط في القطاعات الاستراتيجية، كصناعة الأسمنت وتكنولوجيا الاتصالات
رغم هده النتائج المدمرة المسجلة عالميا ومحليا، لكل دولة قبلت بالرضوخ لمخطط المنظمات المالية الرأسمالية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ومع كل المصائب التي تزداد ثقلا على الناس في بلدنا، حيث ازدادت نسب الفقر بين أبنائنا وارتفعت معدلات البطالة، وارتفع التضخم إلى مستويات تنذر بعواقب مجتمعية وخيمة، بتراكم كل تلك الديون التي لم يجد القائمون على شؤون الناس من حل إلا بالإيغال في الالتجاء إلى مزيد منها، مما فتح الباب لحيتان المال من أجل تشديد شروطهم والتلكئ في الاستجابة لتلك المطالب، إلا بتحقيق شروطهم التي طالت كل المجالات، كالهيمنة السياسية والطلبات الإجتماعية والتدخل في النواحي الثقافية. رغم كل دلك وغيره كثير، أبت حكومة قيس سعيد، التي ظلت تدعي أنها جاءت لتصلح ما أفسدته الحكومات السابقة، إلا أن تنهج نفس نهج من سبقوها في الخضوع إلى الدوائر الاستعمارية ومؤسساتها المالية واشتراطاتها بل وأوامرها التي لا تقبل عنها بديلا مما فاقم أزمة البلاد أكثر، ومكّن أكثر فأكثر للقوى الاستعمارية واستخباراتها من التوغل في بلادنا، واحتدام الصراع بينها للهيمنة على سيادتنا وقرارنا، رغم كل ذلك عدت حكومة قيس سعيد مجرد إمضاء اتفاق مع خبراء صندوق النقد الدولي لمنح تونس تمويلًا بقيمة نحو 1.9 مليار دولار على مدى 48 شهراً نصرا سياسيا لها، وتحقيق لتحدّ كبير أمام خصومها السياسيين، رغم تفاهة المقدار التي نالته بعد مارطون من المفاوضات المذلة. إلا أن الأخطر في كل ذلك أن الوسط السياسي ومنظمات ما يسمى بالمجتمع المدني لا ترى عن التفاوض مع المؤسسات المالية الاستعمارية للاقتراض منها علاجا للوضع الاقتصادي الذي ترزح تحته مندوحة، إلا أن بعضها كان يرجو أن لا يحصل ذلك على يد هذه الحكومة لانفراد قيس سعيد بالسلطة دونهم.
ورغم أنه يعلم أن سلطة قيس سعيد وخبراءها، والوسط السياسي بأكمله، هو سليل الثقافة العلمانية، وخريج المدرسة الرأسمالية، وأنهم يصرون كذلك على ربط تونس بالغرب واستبعاد الإسلام وأحكامه، إذ تجاهلوا تماما نظامه الاقتصادي العريق الذي قاد البشرية قرونا طويلة، عاش الناس في ظله في بحبوحة العيش، وكانوا ينعمون بحياة اقتصادية آمنة خالية من الأزمات مدة تجاوزت ثلاثة عشر قرنا، إذ كانت قوافل الزكاة تجوب البلاد بحثا عن فقير واحد ليأخذ الزكاة فلا تجده، في حين أن الفقر اليوم يكاد يشمل الجميع، إلا قلة من أصحاب المصالح. فإن حزب التحرير ولاية تونس توجه بكتاب مفتوح لأعضاء الحكومة إثر إمضاء الاتفاق مع صندوق النقد الدولي لاعتباره ذلك الاتفاق صك آخر لاستعمار تونس، وذلك يوم 25 أكتوبر 2022 إلا أن السلطة تأب قبول ،صح المخلصين وتنأى بنفسها عن أن تحرج أمام أسيادها فتتهم بالاستماع إلى الرأي الشرعي، فرفضت قبول وفده الذي أرسله إليها وعسكرت ساحة القصبة المفضية إلى مقرها، فكانت هزيمتها الفكرية السياسي الثانية أمام حزب التحرير، بعجزها عن مجابهة الأفكار بالأفكار إن كان لها فكر، بعد هزيمتها الأولى يوم أن رفض المعهد التونسي للدراسات الإستراتيجية، وهو المعهد الرسمي الذي يقع تحت إشراف رئاسة الجمهورية، قبول نسخ من كتاب “نقض الفكر الغربي الرأسمالي، مبدأ وحضارة وثقافة” الذي أصدره حزب التحرير مؤخرا، والذي حمله إلى المعهد وفد من لجنة الاتصالات المركزية لحزب التحرير/ ولاية تونس. وأنه وإن كانت ولاية الحزب في تونس لا تأمل منهم إذعانا للحق، وتواضعا لله، نظرا لشدة القبضة الغربية عليهم، فإنه أراد أن يتوجه إلى أبناء الأمة في تونس، وسائر أبناء الأمة الإسلامية، ليكشف لها واقع الحال وإلى أي مدى ارتكست إليه السلطة في بلادنا، وأن الحل ميسور في شرع رب العالمين سبحانه وتعالى، وذلك في إطار منهجيته بالصراع الفكري لعقائد الكفر وأنظمته وأفكاره، وللعقائد الفاسدة، والأفكار الخاطئة، والمفاهيم المغلوطة، وبالكفاح السياسي للدول الكافرة المستعمرة، التي لها سيطرة ونفوذ على البلاد الإسلامية ومكافحة الاستعمار بجميع أشكاله الفكرية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، وكشف خططه وفضح مؤامراته لتخليص الأمة من سيطرته، وتحريرها من أي أثر لنفوذه.
يقول الحق تبارك وتعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ” (24) ـ الأنفال
CATEGORIES كلمة العدد