اتّحاد الشغل.. انتهازية بلا حدود
طيلة عقود أحاط الاتحاد العام التونسي للشغل نفسه بهالة من القداسة, فهذه المنظمة النقابية لا أحد بمقدوره التوجه إليها بالمساءلة فما بالك بالمحاسبة, فقد جعلوه فوق الشبهات وكل أعماله ومواقفه لا تشوبها شائبة, فهو منزّه عن ارتكاب مجرد الأخطاء حتى وإن كانت بسيطة. الكل يجرم في حق البلاد وأهلها إلا الاتحاد العام للشغل. الكل له ارتباط بالخارج ويتعامل مع القوى الاستعمارية إلا هو. الكل يعمل من أجل مكاسب شخصية إلا قادته وأعضاؤه فهم منزهون عن ذلك, همهم الوحيد الدفاع عن المظلومين والمهمّشين والمحرومين. ألبسوه جبة المنقذ وقت الأزمات ورداء المصلح زمن تفشي الفساد. قادته لا ينطقون إلا بالحكمة, وكل قرارات هيئته هي الصواب عينه والسداد ذاته, بعد الثورة لا يمكن أن تتشكل حكومة دون موافقة الاتحاد وحين تفشل يكون بعيدا لا ينتقده أحد بل هو من يلوم ويطعن في كفاءة أعضائها ويشكّك في مصداقيتهم رغم أنه هو من وافق على تركيبتها وزكّى أفرادها..
والسؤال الذي يطرح نفسه ما الذي جعل الاتحاد العام التونسي للشغل بهذه الصورة وينجح في تضليل الكثيرين ويحجب عنهم حقيقته؟؟
لقد استغلّ القائمون على اتحاد الشغل ما رسخ في أذهان الناس عن “فرحات حشاد” واستغلوا حادثة اغتياله على يد المخابرات الفرنسية ليلمّعوا صورهم وصورة الاتحاد, فكلما حاول البعض توجيه إصبع الاتهام للاتحاد إلاّ وخرج أحد قيادييه ورفع شعار “نحن أحفاد حشاد” أو “الاتحاد هو بيت بناه حشاد” وغيرها من الشعارات التي تذكّر منتقدي الاتحاد بأن قياداته وقواعده على شاكلة “فرحات حشاد” وأنهم مناضلون خلّص أوفياء لتونس وأهلها فيما هو في الواقع معدن الخبث والمكر والانتهازيّة..
في سبعينات القرن الماضي كان هناك صدام بين السلطة بزعامة “بورقيبة” والاتحاد العام التونسي للشغل تحت قيادة “الحبيب عاشور”. فحين أقرّ مجلس النواب بقاء “بورقيبة” رئيسا للبلاد مدى الحياة ساءت علاقة الاتحاد برأس السلطة وشهدت تونس إضرابات عديدة انتهت بمواجهات دامية وزجّ “بورقيبة” بعدد من قياديي الاتحاد في السجن على رأسهم الأمين العام للاتحاد..ذلك التصادم مع السلطة استغلّه القائمون على اتحاد الشغل للترويج لفكرة مغلوطة مفادها أن اتحاد الشغل ينحاز دائما لهموم الناس ويناهض السلطة ولا يسايرها في توجّهاتها وسياساتها إن لم تراع مصلحة البلاد والعباد.
رحل “بورقيبة وخلفه “بن علي” ويبدو أنه قد أبرمت صفقة مع قادة الاتحاد العام الذي أصبح ضمن الجوقة المطبلة لبن علي وأحد أبرز أبواقه رغم كل الجرائم والفظاعات التي ارتكبها المخلوع وزمرته. لقد استغلوا حاجة “بن علي” لمن يدعمه ويساعده على تثبيت دعائم حكمه ليحققوا مكاسب ذاتية. دعموه وانحازوا لظلمه وبيّضوا جرائمه بتعلة أنه أنقذ البلاد من تسلط “بورقيبة” الذي كاد أن يسوقها إلى الهاوية.
ثار الناس على “بن علي” وبعد أن أيقن قادة الاتحاد أنه ساقط لا محالة قفزوا في آخر لحظة من مركب سبعة نوفمبر وامتطوا قطار الثورة. وقبل رحيل “بن علي” بيوم أعلن اتحاد الشغل إضرابا عاما وظهر بمظهر البطل المنحاز لإرادة الناس,علما أن الأمين العام للاتحاد “عبد السلام جراد” قبلها بيوم واحد قام بزيارة تأييد ومؤازرة لبن علي في قصر قرطاج.
رحل بن علي وانتهى عهد كسب المغانم بموالاة السلطة فهي لم تعد مع الثورة تجدي نفعا, ممّا أجبر اتحاد الشغل على تغيير الوجهة وأعلن انحيازه لإرادة الناس “كذبا” إذ ضغط على كل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة بالاعتصامات والإضرابات ليبتزها ويأخذ منها ما يريد. حكومة تلو الأخرى ولم يتغير حال البلاد إلى الأحسن بل ازدادت سوءا وتدهورت الأوضاع أكثر فأكثر إلى أن جاء الرئيس الحالي “قيس سعيد” وقام بتدابيره الاستثنائية التي استبعدت من استأثروا بالسلطة عشر سنوات.
واجهت تدابير “قيس سعيد” معارضة شديدة من أطراف عدة عكس اتحاد الشغل فقد ساند “قيس سعيد” ودعّمه ومكث ينتظر المقابل الذي سيقدّمه له الرئيس, بدأت فترة الانتظار تطول على قادة اتحاد الشغل وكلما تقدم الوقت يظهر لهم تجاهله التّام له وأنه غير معني بتشريكه, لا في مشاورات ولا في حوار وأنّه لن يحذو حذو الحكومات السّابقة مع الاتّحاد. في المقابل كان الأمين العام لاتحاد الشغل نور الدين الطبوبي يرسل برسائل إلى الرئيس قيس سعيد مفادها أن الاتحاد إن لم يقع تشريكه ومشاورته في اتخاذ القرارات سيزلزل الأرض تحت أقدام من تفرّد بالسلطة واحتكرها وأقصى الجميع. وفي نفس الوقت لا يخفي الطبوبي دعمه للرئيس في ما أقدم عليه ويسمعه ما يحب سماعه وهو لا عودة إلى الوراء وأن المنظومة القديمة لن تعود للواجهة من جديد.. ومع هذا واصل “قيس سعيد” تجاهله لاتحاد الشغل وتعامل معه وكأن لا وزن له. وبالفعل اتضح أن اتحاد الشغل ليس بذلك الحجم الذي تم التسويق له, فهو أعجز من أن يحرّك الشارع رفضا لإملاءات صندوق النقد الدولي. فنور الدين الطبوبي يرعد ويزبد في الاجتماعات التي يعقدها الاتحاد وعلى أرض الواقع لا نرى له طحينا لأنها أوامر المسؤول الكبير, تسري على الجميع بأن تنفذ شروط صندوق النقد الدولي ولا يقوى أحد على رفضها إلا في الخطب الجوفاء فقط.
تواصل موقف الاتحاد يراوح مكانه بين الرفض والتأييد للرئيس قيس سعيد إلى أن جاءت نتائج الانتخابات الأخيرة. نتائج أظهرت أن الرئيس يغرّد وحده خارج السرب, وهذا مؤشر على أن شرعيته ومشروعيته كما يقول هو باتت على المحك. وأن سردية الدعم الشعبي له باتت مهددة بالتلاشي مما دفع قادة الاتحاد بالتراجع خطوة إلى الوراء ومراجعة موقفهم من الرئيس وبدؤوا يفكرون في القفز من المركب, وقد أثبتوا ذلك خلال اجتماع المكتب التنفيذي للاتحاد الذي اعتبر الانتخابات فاقدة للمصداقية وللشرعية وأن الوضع قابل للانفجار ويستدعي تحمل الاتحاد مسؤولية الإنقاذ وفق خارطة طريق مضبوطة. جاء هذا الموقف بعد أن أدرك القائمون على اتحاد الشغل بأن المراهنة على قيس سعيد مراهنة خاسرة تماما كما فعلوا مع بن علي في أيام حكمه الأخيرة, مع فارق بسيط وهو القفز من مركب قيس سعيد مبكرا مقارنة بتوقيت فرارهم من مركب بن علي الذي أدركه حينها الغرق..
هذا هو اتّحاد الشّغل: الانتهازيّة في أبهى صورها..
CATEGORIES كلمة العدد