ملفّ الأفارقة: تناقض التّصريحات وتخبّط السّياسات (تونس إفريقيّة أم إسلاميّة..؟؟)
طفا على السّطح مؤخّرا في تونس ملفّ قديم متجدّد، استطاع أن يغطّي على جرائم كيان يهود في حقّ أهلنا في فلسطين، وهو ملفّ المهاجرين الأفارقة الذي طبخ منذ سنوات في مطابخ السّفارات الأجنبيّة. وقد تصدّر هذا الملفّ كلّ وسائل الإعلام منذ ترأّس الرّئيس التونسيّ قيس سعيّد، عصر يوم الثلاثاء 21 فيفري 2023 بقصر قرطاج، اجتماعا لمجلس الأمن القوميّ خُصّص للإجراءات العاجلة التي يجب اتّخاذها لمعالجة ظاهرة توافد أعداد كبيرة من المهاجرين غير النظاميّين من إفريقيا جنوب الصّحراء إلى تونس.
حيث أكّد الرئيس يومها على أنّ هذا الوضع غير طبيعيّ، مشيرا إلى أنّ هناك ترتيبا إجراميّا تمّ إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التّركيبة الديمغرافيّة لتونس، وأنّ هناك جهات تلقّت أموالا طائلة بعد سنة 2011 من أجل توطين المهاجرين غير النظاميّين من إفريقيا جنوب الصحراء في تونس، مشيرا إلى أنّ هذه الموجات المتعاقبة من الهجرة غير النظاميّة الهدف غير المعلن منها هو اعتبار تونس دولة إفريقيّة فقط ولا انتماء لها للأمّتين العربيّة والإسلاميّة.
وشدّد رئيس الجمهوريّة على ضرورة وضع حدّ سريع لهذه الظّاهرة خاصّة وأنّ جحافل المهاجرين غير النظاميّين من إفريقيا جنوب الصحراء مازالت مستمرّة مع ما تؤدّي إليه من عنف وجرائم وممارسات غير مقبولة، فضلا عن أنّها مجرّمة قانونا. كما دعا رئيس الدولة إلى العمل على كلّ الأصعدة الدبلوماسية والأمنيّة والعسكريّة والتّطبيق الصّارم للقانون المتعلّق بوضعيّة الأجانب في تونس ولاجتياز الحدود خلسة. واعتبر رئيس الجمهورية أنّ من يقف وراء هذه الظّاهرة يتّجر بالبشر ويدّعي في نفس الوقت أنّه يدافع عن حقوق الإنسان.
نعم، كان هذا هو نصّ خطاب الرّئيس الذي نُشر يومها صوتا وصورة وكتابة على الصّفحة الرسميّة لرئاسة الجمهوريّة، دون تأويل أو تحريف أو زيادة أو نقصان، ليثير الرئيس هذا الموضوع بشكل علنيّ لأوّل مرّة منذ وصوله إلى الحكم في 2019، فيشير في خطابه إلى وجود مؤامرة تستهدف التّركيبة الديمغرافيّة لتونس رُصدت لها أموال طائلة، ويُنسي الناس أنّ هذا الملفّ يقع تحت مسؤوليّته وضمن صلاحيّاته منذ البداية، بل يتناسى أثناء خطابه أنّ آلافا من أبناء جلدته يعيشون بين مختلف الدول الإفريقية، وأنّ كلمة واحدة هنا، قد تهدّد مصيرهم هناك، فما الذي فعله الرئيس ومجلس أمنه القوميّ تجاه هذه الظاهرة المتنامية طيلة 3 سنوات من حكمه..؟؟ بل ما الذي فعله الرئيس مباشرة إثر هذا الخطاب الذي مسح فيه جريمة توطين المهاجرين غير النظاميّين فيمن سبقوه في الحكم..؟؟
لقد سارعت مؤسّسة رئاسة الجمهوريّة بعد الحملة التي تعرّضت لها في الدّاخل والخارج على إثر هذه التّصريحات إلى إصدار بيان رضوخ تؤكّد فيه على روابط تونس الافريقيّة، وتعبّر فيه باسم تونس عن استغرابها من هذه الحملة المعروفة مصادرها والمتعلّقة بالعنصريّة المزعومة، وترفض هذا الاتّهام للدولة التونسية وهي من مؤسسيّ منظّمة الوحدة الإفريقيّة التي تحوّلت فيما بعد إلى الاتّحاد الإفريقيّ والتي ساندت كل حركات التّحرير الوطنيّ في العالم وليس أقلّها حركات التحرير الوطنيّ في افريقيا، ونسي البيان تثبيت فكرة الهويّة الإسلاميّة أو حتى مجرّد إشارة كاذبة إلى انتماء تونس الإسلاميّ. بل راح يؤكّد أنّ تونس دولة إفريقيّة بامتياز وأنّ هذا شرف أثيل، وأنّ الأفارقة إخوتنا، ليختلق رابطة جديدة هي رابطة الأخوّة الإفريقية والقارة الواحدة، بدل أخوّة الدّين والقبلة الواحدة.
الأكثر من ذلك، فقد تمادى البيان ليفتخر بأنّ تونس (زمن العشريّة السّوداء) كانت سبّاقة بإصدار قانون سنة 2018 يهدف إلى القضاء على جميع أشكال التّمييز العنصريّ ومظاهره، فيُسوّق (لاكتشاف) من سبقوه، وينسى جميعهم أنّه لا فرق في الإسلام بين أبيض وأسود وبين عربيّ وأعجميّ إلاّ بالتّقوى، وأنّ رعايا الدولة في الإسلام متساوون في الحقوق والواجبات، ليضرب بذلك عرض الحائط بكلّ التّشريعات والأحكام المتعلّقة بمن يحملون التابعيّة للدّولة في الإسلام، وكأنّنا أمة بلا دين ولا تشريع.
ثمّ ذهب البيان إلى إقرار مجموعة من الإجراءات في حقّ الأفارقة الذين أغمض النّظام عنهم عينيه لسنوات، من بينها تسهيل فترة إقامتهم بالتّراب التونسيّ وتمكينهم من التّجديد الدوريّ لوثائقهم في آجال مناسبة، والتّمديد في وصل الإقامة من ثلاثة أشهر إلى ستّة أشهر، وإعفاؤهم من دفع خطايا التّأخير المستوجبة على الوافدين الذين تجاوزوا مدّة الإقامة المسموح بها، مع تعزيز الإحاطة وتكثيف المساعدات الاجتماعيّة والصحيّة والنفسيّة اللّازمة لكافّة المهاجرين واللّاجئين (من الدّول الإفريقيّة الشّقيقة)..وهي إجراءات يقرّ أصحابها بوجود تقصير سيتمّ تداركه بعد تزايد ضغوطات القادةالأفارقة، فضلا عن تضامن البنك الدوليّ والاتّحاد الإفريقيّ معهم. هذا طبعا إلى جانب وضع رقم أخضر على ذمّة المقيمين منهم للإبلاغ عن أيّ تجاوز في حقّهم، وهو ما لا يتمتّع به حتّى أهل البلد.
ثم لم ينس بيان رئاسة الجمهوريّة أن نتوجّه بجزيل الشّكر إلى كافّة الدّول الإفريقيّة الشّقيقة والصّديقة التي عزّزت إجراءاتها لحماية الجالية التونسيّة المقيمة بها، وحثّت على إعلاء روح التّعاون والتآزر والتآخي بين الدول الإفريقية تمسّكا بالتقاليد التي أرستها تونس عبر التاريخ، بعد أن تفطّن الرئيس إلى حجم الكارثة وإلى قصر النظر، حتى ننزّهه عن التعمّد.
ختاما، فقد كان لقاء الرّئيس قيس سعيّد برئيس غينيا بيساو والرّئيس الحاليّ للمجموعة الاقتصاديّة لدول غرب إفريقيا “عمر سيسوكو إمبالو” مناسبة رسميّة لرأب الصّدع الذي صنعه بنفسه مع الأفارقة، حيث نفى الرئيس التونسيّ قيس سعيّد مساء الأربعاء 08/03/2023 أيّ عنصريّة في موقفه من المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء، معتبرا أنّه تمّ تأويل كلامه، وقال في كلمة ألقاها بالفرنسيّة لدى استقباله بقصر قرطاج لضيفه: (إنّ أفارقة جنوب الصّحراء هم “إخوتنا” وإنّ لديه أصدقاء أفارقة وإنّ بعض أفراد عائلته متزوجون من أفارقة، وشدّد على أنّه دعا فحسب إلى احترام قانون بلاده وسيادتها).
بهذه الكلمات فضلا عن تلك الإجراءات، تمّ غلق ملفّ الأفارقة ولم يعد لاجتماع مجلس الأمن القوميّ معنى إلاّ عند عشّاق البطولات الوهميّة، بعد أن فشل الرئيس في إقناع الجميع بأسباب تناقض التصريحات وتخبّط السياسات رغم تلويحه بوجود مؤامرة..أمّا إن صدقت روايته، فقد نجح مرحليّا في أن يكون أداة طيّعة ولقمة سائغة بأيدي المتحكّمين في هذا الملفّ منذ مطلع هذا القرن، ليسير بنسق أسرع في تغيير التّركيبة الديمغرافية لتونس عبر توطين المهاجرين غير النظاميّين من إفريقيا جنوب الصّحراء في تونس، وبالتّالي في تحقيق الهدف غير المعلن من هذا التّرتيب الإجراميّ الذي ينفّذه النّظام (أداة الاستعمار)، وهو اعتبار تونس دولة إفريقية فقط تنتمي للأمّة العربيّة دون الإسلاميّة، وهذا بالمناسبة توجّه مؤصّل في توطئة دستور 2022.
اللهمّ نسألك خلافة راشدة على منهاج النبوّة، توحّد المسلمين العرب والعجم والتّرك والأكراد والأفارقة، وتقطع أيدي الاستعمار من بلاد الإسلام قطعا نهائيّا، فتحرّر البلاد والعباد وتنهي حكم الضعفاء والعملاء والسّفهاء، ممّن يسيرون مع أعدائهم كالرّيشة في مهبّ الرّيح..