وحدة الأمة الإسلامية… تتجلى في الحج

وحدة الأمة الإسلامية… تتجلى في الحج

بعد أن غابت الدولة الإسلامية الجامعة لشعوب وأعراق ولغات مختلفة، والتي كانت تجسد وحدة الأمة الإسلامية تجسيدا حقيقيا على الأرض، لم يبق للمسلمين تجسيدا عمليا على الأرض لهذه الوحدة سوى شعيرة الحج، ففيها يجتمع المسلمون من كل فج عميق يؤدون المناسك التي شرعها رب العالمين لهم ليتعبدوه بها، وهم في ملابس الإحرام التي يستوى في لباسها الغني والفقير والحاكم والمحكوم. إن مناسك الحج في مجموعها تبرز وحدة تلك الأمة العظيمة، في وحدة الشعائر في حيز زماني ومكاني واحد، كما أنها تربطهم ربطا وثيقا محكما بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، التي تجلت بفتح مكة وخضوع جزيرة العرب لسلطان الدين الجديد الذي بدأ يعد العدة بعد ذلك لفتح العالم وحمل رسالته الخالدة للبشرية جمعاء، كما تهيم فيه بالمسلمين الرؤى إلى ربوع طيبة الطيبة؛ إلى موطن هجرة النبي الكريم، حين استقبل المهاجرين مصحوبين بنبيهم الأعظم ومعه خير دين أنزل من لدن حكيم خبير، ليخرجهم من دواعي أهوائهم ومشاعر القبلية الضيقة إلى فضاء الأخوة في الله بين المهاجرين والأنصار، ليؤسس بهم دولة ما عرفت البشرية نظيرا لها، فحجاج بيت الله الحرام في هذه الأيام المباركة يطوون الزمن طيا ليتنسموا نسماتٍ طيبة في جنبات مهد بداية الرسالة: مكة المباركة، أحب بلاد الله إلى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي جنبات مهد بداية الدولة؛ في طيبة الطيبة المدينة المنورة.

في موسم الحج يدرك المسلمون عظمة هذا الدين الذي استطاع أن يصهر كل تلك القوميات والأعراق واللغات في بوتقة العقيدة الإسلامية، ليقيم بها خير أمة أخرجت للناس، وما تسنى ذلك لعقيدة غير العقيدة الإسلامية، وما قدر عليه قائد أو زعيم طوال تاريخ البشرية الطويل سوى القائد المصطفى صلى الله عليه وسلم، في موسم الحج يدرك حجاج بيت الله الحرام حجم المعاناة التي تكبدها رسولهم الكريم وصحبه الغر الميامين ليصل إليهم هذا الدين، كيف استطاع النبي صلى الله عليه وسلم والصديق أبو بكر أن يقطع تلك المسافة الطويلة بين مكة والمدينة وهي تقارب الخمسمائة كيلو متر في هذه الصحراء القفراء، وبوسائل بدائية بسيطة في ظل ملاحقة شديدة من كفار قريش، ليمكروا به صلى الله عليه وسلم فيقتلوه أو يثبتوه، قال تعالى: {وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، بينما يشعر من يقطع تلك المسافة من الحجيج بالتعب والإرهاق برغم أنه يقطعها بوسائل حديثة سريعة ومكيفة.

في موسم الحج يتسائل المسلمون: لما لا تتجسد تلك الوحدة العظيمة في الحج ومناسكه في وحدة سياسية كانت موجودة؟ وظل المسلمون ينعمون بها ما يقارب الأربعة عشر قرنا من الزمان، انظروا معي إلى معاناة الحجاج من فلسطين المحتلة، فهم يعانون من المحتل الغاشم، ويعانون على الحدود بين غزة ومصر، وبين الضفة والأردن، وقد تكون تلك المعاناة مقبولة لو كان سببها الاحتلال الغاشم، أمَا وأن معاناة 2300 حاج فلسطيني تتسبب فيها السلطات المصرية التي ما أن تفتح المعبر لساعات حتى تعيد إغلاقه لأيام… فهذا أمر غير مقبول! ومما لا شك فيه أن هؤلاء الحجاج العالقين يلعنون الاحتلال ألف مرة ويلعنون تلك الحدود اللعينة ملايين المرات، وتذكرهم باتفاقية سايكس بيكو اللعينة التي قسمت دولة المسلمين الواحدة إلى مزق تسمى دولاً أو دويلات أو ممالك ومشيخات، ويتوقون لليوم الذي يتنقلون فيه بين بلاد المسلمين بمنتهى الحرية، ويتشوقون لليوم الذي يحجون فيه مع أمير المؤمنين.

في موسم الحج يمتثل الحجاج لأمر الله ويستسلمون له، ولو لم يعرفوا وجه الحكمة فيه، فهم يبدءون الطواف باستلام الحجر الأسود أو الإشارة له سبعا، ويسعون بين الصفا والمروة ويرمون الجمرات سبعا، ويقفون بعرفة، كل ذلك يفعلونه عبودية لله وامتثالا لأمره سبحانه واستسلاما لشرعه، وهم يأخذون كل ذلك عن رسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم القائل: “خذوا عني مناسككم” لأنهم يعلمون أن لا سعادة ولا نجاح ولا فلاح لهم في الدنيا والآخرة إلا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو فكروا قليلا لعلموا أن الله الذي فرض عليهم مناسك الحج هو سبحانه الذي فرض عليهم أن يعملوا لتحكيم شرعه في ظل دولة الخلافة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية”، فأقبلوا أيها المسلمون على اتباع سيرته صلى الله عليه وسلم، والتزِموا طريقته في إقامة الدولة الإسلامية، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله. لقد امتثل نبي الله إبراهيم لأمر ربه بأن يذبح ابنه دون أن يعلم وجه الحكمة في ذلك، وامتثل الابن للأمر لأنه علم أن هذا هو أمر الله! فليكن إدراكنا لهذا المعنى العظيم دافعا لنا ونحن في هذه الأيام المباركة للامتثال لأمر ربنا في اتباع رسولنا الكريم، لنغذي السير في العمل لإقامة الخلافة الإسلامية بطريقة النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا” [الأحزاب:21].

إن الحج إنما هو جهاد للنفس على تحمل المشاق في سبيل رضوان الله، ومن ثم يتبعه الجهاد الفعلي وهو قتال الكفار من أجل إزالة الحواجز المادية التي تقف في طريق الدعوة، حيث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ربط بين الحج والجهاد عمليا عندما عاد من حجة الوداع مباشرة فقام بتجهيز جيش أسامة لقتال الروم، وكذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه في السنة الثانية عشرة للهجرة، وهو في الحج يجهز جيش المسلمين لقتال الفرس والروم، ولقد توفي رضي الله عنه أثناء معركة اليرموك في قتال الروم، وعمر بن الخطاب جهز المسلمين لقتال الفرس في معركة القادسية وهو في موسم الحج، وكذلك فعل من بعدهم هارون الرشيد؛ الذي قرن الحج بالجهاد فكان يحج عاما ويجاهد عاما.

فليكن حج هذا العام دافعا لنا جميعا لتجسيد وحدة المسلمين في دولة حقيقية هي دولة الخلافة، التي تلم شعثنا وتوحد صفوفنا وتحفظ دماءنا وأموالنا وأعراضنا وترهب أعداءنا، فاللهم هيىء لنا أمر رشد يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُذَل فيه أهل معصيتك، ويُحكم فيه بالإسلام.

شريف زايد

CATEGORIES
TAGS
Share This